شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحن والعادات:
الوقــت
الوقت ثمين، الوقت من ذهب، الوقت يعمل فيه كل شيء، يجب أن يحافظ عليه بكل شيء، هكذا الوقت في نظر سكان أوروبا، الذي أصبحنا نقلدهم في السفاسف، أما الأشياء التي من ورائها النفع فلم نقلدهم في شيء منها.
أما الوقت عندنا فهو رخيص (ما عدا أيام الموسم)، الوقت في نظرنا مجرم، يجب قتله، لأنه يضايقنا أو يرسل بهمومه علينا، هكذا الوقت في نظرنا –نحن الحجازيين– وقل فينا من يعتني به أو يحافظ عليه، أو يقضيه في عمل يعود بالنفع عليه، أو على أمته.
كل منا يريد أن يقتل الوقت، ولكن بماذا يقتله؟ بأشياء ضررها أكثر من نفعها، وإني أحد أولئك الذين كانوا يقضون الليالي الطوال في "الجوقر" والهندية وغير ذلك، وقد فقدت صداقة عدة أصدقاء من وراء النزاع الذي كان ينشأ بيننا من أجل ذلك، وأسباب النزاع تنحصر دائماً في (الدق الفطيس) (1) ، وأمثالي كثير في هذا الوطن العزيز، ولنا في قتل الوقت خطط عديدة غير هذه، وهي معلومة، ولا تحتاج إلى شرح.
ومما يؤسف له أن قتلنا للوقت بهذه الصفة أخرنا كثيراً، ولو قضينا أوقاتنا في أشياء نستفيد منها ديناً ودنيا لكان أفيد لنا، وأصلح لحالنا، وأحسن لمستقبلنا.
والحقيقة أن ليس للوقت ثمن في نظر أكثرنا إلا في أيام الموسم، وهي أيام معدودات، وفي تلك الأيام (هذا الحق) لكل امرئ منا شأن يغنيه، لا يعرف فيها غير بعت واشتريت، وخذ وهات، فالشخص منا يواصل ليله بنهاره ليستغل الفائدة قبل أن تذهب، أما في غير أيام الموسم فما للوقت قيمة أبداً، أبداً.
ومن هذا يظهر أن الدافع الذي يدفعنا لاستغلال الوقت في أيام الموسم هي الفائدة، وأن نفس النظرة تنظر بها أوروبا أيضاً، ولم يدفعها لأن تحافظ على أوقاتها من الضياع، وأن تستغلها إلاَّ الفائدة، ولكن أوروبا تخلق الفائدة من الحجار، وتفتش عليها في طبقات الجو، وتحت أطباق الثرى، وتستثمرها حينما تجدها، وتستغلها لمصلحتها وحدها دون غيرها، أما نحن فالفائدة عندنا أيام الموسم فقط (فلذلك نستغل أيامه) أما غيرها فهي أيام راحة، وطرب، وأنس، وتبذير، و... و... . أنا لا أقول أن جميع الأوقات يجب أن يقضيها الإنسان في عمل متواصل، لا، لأن هذا مضر، وإذا أجهد الإنسان نفسه على ذلك، فيكون قد أساء إليها، وهي لها حق عليه، ولغيرها حقوق عليه أيضاً، وإنما أقول: وقت العبادة عبادة، ووقت العمل عمل، ووقت الراحة راحة، ووقت النزهة نزهة، ولكن يجب أن نراعي المصلحة، ونتوخى الفائدة، لا إفراط ولا تفريط، أما كوننا نبقى على حالتنا الحاضرة، ونقضي الوقت في أشياء مضرة فهذا خطأ يجب أن نرجع عنه، وإذا أبَيْنا إلاَّ الاستمرار على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم أيام الموسم هذه التي نحن متمسكون بها كل هذا التمسك، ولا نريد أن نحيد عنها قيد شعرة هل هي في يدنا نستحضرها متى أردنا، وبالصفة التي نرغبها؟ (هنا النقطة).
لو كانت أيام الموسم في يدنا لكان ذلك جميل، ولجعلنا كل أيامنا مواسم، ولما وجد هنا من يلتفت إلى غير استغلالها، ولكن مع الأسف هذا غير ممكن، ولن يمكن لأن الحج مرة في السنة، وهو وقت معلوم منها، ولا يمكن أن نبدله، ولا يمكن أن نجعله ثلاث أو أربع مرات في السنة، كذلك لا يمكن أن نجعله بالصفة التي نرغبها (والصفة التي نرغبها هي أن يكون الحج عظيماً، وحجاجه من الذين يجدون ما ينفقون)، ثم إذا جاءنا نصيفة الحجاج من الذين لا يوجد عندهم ما ينفقونه (حوائجهم على أكتافهم، وحالتهم تؤلم، وطول الطريق يا رب يا كريم) فما العمل؟
نحن مضطرون بداعي الواجب الديني والإنساني لأن نعطيهم ما يقتاتون به، فتصير المسألة مصيبتنا ومصيبة غيرنا، وكلها على رؤوسنا، والموسم المنصرم أكبر حجة ناطقة على ما تقدم. وعلى فشلنا في هذا الاعتقاد.
والحقيقة أن اعتقادنا بالموسم إلى هذه الدرجة التي لا نزال عاضين عليها بالنواجذ خطأ، وأن تسميم أفكارنا بأن الحجاج هم زرعنا وقلعنا دون غيره مهلك ومضر بنا. وقد أصبحنا لا نحب أن نفهم من الذين يريدون أن يفهموننا أن هذا الاعتقاد يزيدنا تأخراً على تأخرنا وبلاء على بلائنا، ويجعلنا عالة على غيرنا، ثم إن هذه الخطة أصبحت في الزمن الحاضر غير صالحة لنا لأنه من العار علينا أن نبقى رحمة على غيرنا، وإذا بقينا متمسكين بهذه النظرية لا نريد غيرها بديلاً ولا نسعى في إيجاد مرتزق لنا خلافها فعلينا السلام من الآن.
قلت إن الذي يدفعنا لاستغلال الوقت في أيام الموسم هي الفائدة، فالأيام التي غير أيام الموسم لماذا لا نعمل فيها ونخرج منها فائدة نستغلها لمصلحتنا، ونزاحم غيرنا كما هم يزاحموننا، ونضايقهم كما هم يضايقوننا، ونصير عفاريت لاكتساب القرش مثلهم، أوليس نحن خلق كما هم خلق؟ أولسنا نبصر كما هم يبصرون؟ أولسنا نفكر كما يفكرون؟ نحن كغيرنا سواء بسواء فلماذا لا نجد جدهم؟ ونتقدم تقدمهم؟ ونعمل مثلهم؟ ثم هل من العدل أن نبقى متقاعسين ومتأخرين دائماً وأبداً؟ والله ليس ذلك من العدل في شيء، ومن العيب علينا أن نبقى على حالتنا، ومن العار علينا أن يتقدم غيرنا ونحن نتأخر، ونكتفي بأن نردد في كل وقت أعمال الآباء والأجداد، ومدنيتنا القديمة، وعزنا السابق ثم ننام، ونغط في النوم غير مكترثين بكل شيء.
ولو رأى الآباء والأجداد الذي نحن نتغنى بذكر أيامهم، وننتفخ بعزهم المندثر، لو رأوا أعمالنا في الوقت الحاضر، لكانوا أول من ازدرانا، وأول من تبرأ منا. ثم إن الواجب يقضي علينا بأن نكون كما قال الشاعر:
إنا وإن أحسابنا كرمت
لسنا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
هكذا يجب أن نكون، وهكذا يجب أن نفعل، أما كانوا وعملوا والله يرحمهم فعلوا وصنعوا فهذه عملة ممسوحة، لا تنصرف، وهذه الأقوال لا تفيدنا أبداً، وإذا أبينا إلا أن نبقى مصرين عليها، ولم يكفنا ما مضى من أيام قضيناها نائمين وسنين أضعناها متغافلين، ولم نتعظ من الدروس القاسية التي تجابهنا بها هذه الحياة (بما كسبت أيدينا) فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مكة المكرمة: (الغربال)
جريدة "أم القرى" العدد 391
الجمعة 5 صفر 1351هـ الموافق 10 يونيو 1932م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :354  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 87 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.