شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحن والتقاليد (1)
كنت أود أن أستعرض عموم المهن في بلادنا، ولكن رأيت أن ذلك يحتاج إلى وقت كبير نحن في حاجة إلى قضاءه في بحث أشياء تهمنا أكثر من بحث المهن وأربابها، لذلك عدلت مؤقتاً، وسأعود كلما سنحت الفرصة.
بلينا نحن الحجازيين بالتقليد (ولكنه الأعمى) فأخذنا نقلد كل من نراه بدون تبصر ولا تمعن، نقلد غيرنا في كل ما يعملونه أمامنا، وفي كل ما نسمعه عنهم، حتى تسممت أفكارنا بكثير من التقاليد التي لا تُلائم وطننا وزينا، وللوطن والزي ميزة عظيمة تقوم لها الأمم وتقعد.
وإذا رأينا الدول الاستعمارية تسعى بشتى الوسائل للقضاء على أزياء وتقاليد وعادات الأمة التي تستعبدها، فهي لم تعمل ذلك إلا لتستأصل البقية الباقية من نزعاتها القومية، وعندما يتم لها ذلك يقضي على تلك الأمة. ولقد تنبه الكثيرون لذلك فأصبحنا نرى أنه كثيراً ما تنشأ ثورة داخلية عندما يراد إحداث تغير في أزياء وعادات أهلها، وفي كثير من الأوقات نجد أن قوة الأزياء تتغلب على غيرها فيضمحل أمامها كل شيء، والتاريخ الماضي والحاضر أكبر شاهد.
فإذا كانت الأمم تثور وتقعد لأجل أن تحافظ على أزيائها، فلماذا نحن الحجازيين نترك أزياءنا، ونقلد غيرنا في أشياء لا تتفق مع جنسنا العربي؟ ومن الغريب في أمرنا أننا نجد أنفسنا بينما نحن نترك زينا، ونقلد غيرنا فيه، نعض بالنواجذ على العادات السيئة التي تفتك فينا أعظم فتك، الأمر الذي جعلني في حيرة حتى كدت أجزم بأننا أوقفنا أنفسنا على الأخذ بكل ما يضرنا ويؤذينا.
أنا لا أقول أن كل تقليد مضر، ولا كل عادة قبيحة، لا بل يوجد في الاثنين منافع ومضار، ولو أخذنا ما يوافق ديننا ووطنيتنا، وما يعود نفعه علينا، وتركنا ما يضرنا، ويسري كالسم فينا، لكان ذلك أولى، ولكن أخذنا نقلد غيرنا في أشياء لا نجني من ورائها غير تبذيرنا أموالنا، وخروجنا عن عربيتنا التي يجب أن نحافظ عليها حتى آخر قطرة من دمائنا، أما في العلم والصناعات والاختراعات فلم نقلد أحداً في شيء حتى أصبحوا يرموننا بالجمود، ويدعون أنهم ساداتنا، مع أنهم لم يصلوا للدرجة التي هم فيها الآن، إلا بالاستنارة بنور العرب ومدنيتهم، ولو استعرضنا ما ينسب إليهم الآن لوجدنا أنه مأخوذ إما عن ديننا الإسلامي الحنيف السمح، أو عن مدنية العرب، وبمعنى غير أن العرب هم أساتذة أوروبا في مدنيتها الحديثة، وكتابات "جوستاف ليبون" و "مندليو" وغيرهما تنطق بذلك، والحقيقة المؤلمة أنهم أخذوا وعملوا فتقدموا، ونحن نسينا وتقاعسنا فتأخرنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا، ثم لم يكفنا تأخرنا، ولم يردعنا ذلك، بل أخذنا نقلدهم في أشياء تبعدنا عن ديننا ومبدئنا العربي، مع كونه لا يوجد شيء في العالم يساويهما.
فهلا حفظنا هذا التراث؟! وعضينا بالنواجذ على هذا العتاد؟! وتمسكنا بالبقية الباقية من ذلك المجد الذي طمسنا معالمه بما جنت أيدينا، وبما سوّلت لنا أنفسنا؟! والله إذا لم نفعل فسنندم، ولات ساعة مندم.
بعد كتابة ما تقدم، ألقيت القلم لآخذ لنفسي الراحة، وكان أمامي كتاب (ما رأيت وما سمعت) لخير الدين بك الزركلي فأخذته، وبينما أنا أقلب في صفحاته عثرت برقم 188 على هذه الجملة: "فأخذ السماعة، وهو يقول: خير - بدلاً من كلمة (آلو) التي لم أسمعها في الحجاز قط". تعجبت من هذه الصدفة الغريبة فحفزتني لمواصلة الكتابة فأخذت القلم ثانياً، وجعلت أستعرض الكلمات الأعجمية المستعملة الآن، والمنتشرة بكثرة بين مواطنينا: آلو، سنترال، ومكرفون، فوت بول"، وغيرها كثير، كلمات أعجمية لسنا في حاجة لاستعمالها، لأن لغتنا غنية عنها، أقول غنية عنها لأننا نستطيع أن نوجد مقابل كل كلمة أفرنجية لمخترع حديث عدة كلمات عربية.
"آلـو"
إني مغتاظ من هذه الكلمة جداً لسبب سيطلع عليه القارئ - ترك في نفسي ألماً لا يمحى إلا إذا محي استعمالها.
أظن أنه لا يوجد خمسة في المائة من الذين يستعملون الهاتف في الحجاز يستعملون كلمة "مَنْ" بدلاً من كلمة "آلو" ولقد أصبح الرئيس والمرؤوس، والسيد والخادم يستعملها، وبالأخص في الدوائر الرسمية، التي يجب عليها أن تحافظ على اللغة العربية أكثر من غيرها لأنها هي الزمام، وليس هذا هو وحده الذي ينتقد على الدوائر الرسمية، لا بل في الزوايا خبايا سنأتي عليه عند غربلتهم.
ضمني وجملة من الوفود –مصريين وسوريين وهنود– مجلس، وبينما نحن جلوس دق منبه الهاتف فقام صاحب الدار ورفع السماعة قائلاً: آلو، آلو، آلو. لم ينتقد أحد من الحاضرين (العرب) هذه اللفظة، إلا هندي هناك أذكر ذلك، فخاطبني بالعربية المكسرة: "ألو في المكة!! هذا كلام انكليز"!!.
لم أسمع كلماته حتى امتقع لوني، وحرت جواباً، فابتسمت له متصنعاً تلك الابتسامة، ودليت برأسي إلى الأرض، والألم يقطع كبدي، وكأن ذلك المنتقد أدرك شيئاً يجول بخاطري حفزه على معرفة الحقيقة فوضع كفه على جبهتي ورفع رأسي وهو يقول "قول آلو في المكة كثير".
عند ذلك لم أستطع أن أخفي الحقيقة فأجبته بصوت خافت: "نعم" فامتعض وجهه وردد كلمات بالهندي لم أعرف منها إلا ما يلي: "عرب، ألو، إنكليز، لا حول ولا قوة إلا بالله".
والله إنَّه لناقد بصير محق في انتقاده، ومسيئون نحن في تداول هذه اللفظة وأمثالها، لأننا نحن عرب، واستعمالنا أمثال هذه الألفاظ، وتركنا لغتنا، ولغة آبائنا وأجدادنا وهي أمهات اللغات، وأكثرها لفظاً، وأفصحها مقالاً، لمما يشل في حركتها ومن ثم يقضي عليها (لا قدر الله).
وقل مثل ذلك في "سنترال، ومكرفون، وتلفون" ولو استعملنا بدل ذلك: مركز، وساعة، وهاتف لكان ذلك أجمل، وأشرف لنا وللغتنا.
فهل نحن منتبهون؟!!.
مكة المكرمة: (الغربال)
"أم القرى" العدد 386
في يوم الجمعة 30 ذو الحجة 1350هـ
الموافق 6 مايو 1932م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :462  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج