شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مذكرات مسافر: (2)
لا يوجد سرير خال
كانت الوجوه عابسة، والجباه مقطبة، وعلى الوجوه آثار الفزع، وفي العيون علامات الغضب، وكانت الحوانيت العربية مقفلة احتجاجاً على وعد بلفور المشؤوم في يوم ذكراه، وكان الأفق متجهماً، والأديم مربداً كأنهما يشاركان العرب قضيتهم، كانت صبية بيروت يناشدن مرضى مستشفى الجامعة الأمريكية العروبة والإنسانية، ويقدمون لهم طوابع إعانة فلسطين وهم يقولون "اليوم يوم فلسطين المضرجة بالدماء!! تستصرخكم! فلسطين العربية تستنجد بكم؛ فلسطين حصن العرب تصرخ من أعماق قلبها لإغاثتها من وعد بلفور المشؤوم، اليوم يوم فلسطين".
وكانت إحدى غرف المستشفى تضم ستة أسرة يتمرض على خمسة منها: سوري، وعراقي، وفلسطيني، وحجازي، ومصري، كأن مرضى تلك الغرفة عصبة عربية، وكان حديث أصحابها عن فلسطين، وما آلت إليه، واستنكار الإجراءات المتخذة فيها، واضطهاد الإنجليز للعرب، وكان لا يقطع حديثنا عن فلسطين إلا أولئك الصبية الذين لا يخرج أحدهم حتى يدخل ثانيهم ليبيعنا طوابع فلسطين، وكنا المرضى الوحيدين الذين قاطعوا منذ الصباح الباكر الممرضات اليهوديات، اللاتي في المستشفى، فقد رفضنا تناول الدواء من أيديهن، وأضربنا عن ترك الأسرة لتنظيفها إلا لعربيات، وقد احترمت هيئة المستشفى شعورنا، ونزلت على رغائبنا، وعلى حين غفلة أقبلت ممرضة يهودية وهي تبتسم، وأخذت تصلح من شأن السرير السادس بفرح زائد، ولم تزد في القول عن لفظة: قدمورننق (صباح الخير). أثر الحادث فينا، وتيقنا إن في الأمر سراً، فانتدبني أصحابي لأختبر الأمر، فعدت وقد علمت أنه عما قليل سيؤتى بمريض يهودي، وأنه لا يوجد في المستشفى سرير خال إلا الذي في غرفتنا، كان أصحابي قد كسوا السرير السادس حلة من طوابع فلسطين، فلزقوا عليه خمسمائة طابع، وما أن أنبأهم الأمر حتى قفز السوري وأغلق باب الغرفة من الداخل وأقسم الا يدخلها يهودي ما دمنا فيها، ومهما كانت النتيجة، فأمن الرفاق على ما قال.
لم تمض دقائق حتى طرق الباب فكان جوابنا جميعاً بعنوان واحد: لا يوجد سرير خال، اجتمعت هيئة المستشفى وأكثر الممرضات أمام باب الغرفة وطلبوا بإلحاح فتح الباب فلم نجبهم إلا بقولنا لا يوجد سرير خال، فلم يك بد من استدعاء رئيس المستشفى من داره، وما أن حضر حتى طلب من العصبة العربية انتداب شخص يتفاوض معه، فانتدبت فقال: إن المسألة إنسانية قبل كل شيء والديانات جميعها والعصبيات على اختلاف منازعها تأمر بالرفق بالمريض والرحمة به، والأمر كما ترى، مريض بين أيدينا، وهيئة المستشفى مضطرة لإجابة نداء الإنسانية وقبول المريض اليهودي، ثم هي مجبورة على وضعه بغرفتكم، إذ لا يوجد سرير خال في جميع غرف المستشفى إلا هذا السرير. قلت: إن احترام الشعور من واجبات الإنسانية أيضاً، وأنت تعرف النكبة التي نكب بها العرب في مثل هذا اليوم بسبب وعد بلفور المشؤوم، فإذا تألموا من كل شيء فيه راحة اليهود فهم محقون، ثم هيئة مستشفاكم قررت من الصباح الباكر إجابة طلباتنا عن مقاطعة الممرضات اليهوديات، ولم يك هذا كرهاً في نفس الممرضات، وإنما كرهاً في كل ما هو يهودي فقبولنا لهذا المريض في غرفتنا يعد امتهاناً لكرامتنا، وجرحاً لشعورنا، ثم هو نقض صريح لعهد لم تمض عليه إلا سويعات. قال: إني أحترم شعوركم إلى أبعد حدود الاحترام، ولكن الأعمال الإنسانية التي من أجلها أنشئ المستشفى والتي يقوم بها تقضي علينا بهذا، فعليه نحن معذورون أمام ضمائرنا –قبل كل شيء– وأمام كل واحد لتنفيذ الترتيب الجديد، وأرجو أن لا تضطرونا لاتخاذ إجراءات غير حسنة. قلت: أمَّا قبولنا اليهودي في غرفتنا فهذا شيء مستحيل وثق أني وزملائي لا نقبل هذا مهما كانت الأحوال والمقتضيات، وإذا اتخذتم أية إجراءات إجبارية فإنا نفضل مغادرة المستشفى دون قبول ذلك، وأرجو أن تلاحظوا النتائج السيئة التي يجرها هذا العمل وإذا رغبتم أن أتقدم بحلول للموضوع فأنا على استعداد على شرط موافقة زملائي عليها. فقال: إني أرحب بكل حل يؤدي واجبنا ويحترم شعوركم.
قلت: بالغرفة نمرة (81) يوجد سريران على أحدهما عربي وعلى الآخر انجليزي، فانقلوا العربي إلينا وضعوا اليهودي مع الانجليزي.
قال: ولكن هذا ليس في مصلحتكم، إذ أنت وزملاؤك في دور النقاهة، وأنتم في أشد الحاجة للهدوء والراحة، وهذا المريض سوف يزعجكم آناء الليل وأطراف النهار، وواجب الرحمة بالمريض يقضي علينا بأن لا نضع في غرفتكم من يزعجكم فنحن مضطرون لملاحظة الانسجام.
قلت: إذا كان الأمر متوقفاً على إزعاجنا فهذا لا يهمنا ونوافق عليه لأن الموقف يتطلب حلاً سريعاً إلا أنا نشترط أن ينقل العربي بسريره، وينقل السرير الذي بغرفتنا إلى الغرفة نمرة (81) ويوضع عليه اليهودي.
قال: إن هذه أشياء تقضي بها الأسباب الصحية واشتراطها من مصلحتنا والذي يظهر أن في الموضوع سراً فما هو؟
قلت: قد اشترينا منذ الصباح الباكر طوابع إعانة فلسطين وقد لزقها زملائي على هذا السرير. فقطب وجهه، وقال بصوت يتخلله الغضب: موافق فخذ موافقة زملائك. فرجعت إلى زملائي وعرضت عليهم الأمر فوافقوا على أن يتعهد الرئيس بعدم إزالة الطوابع التي على السرير إلا بعد أن يغادر جميعنا المستشفى فتعهد بذلك الرئيس.
وكانت آخر نظرة ألقيتها على أسرة مستشفى الجامعة، تلك النظرة التي ألقيتها على السرير المكسو بطوابع إعانة فلسطين.
اتصل أمر هذا الحادث بالطلاب العرب في الجامعة الأمريكية وكانوا يفوقون عن ألفي شخص، فلزقوا طوابعهم على أبواب غرف الطلبة اليهود، وأنذروا الجامعة أنهم سيضربون عن الجامعة نهائياً إذا هي أزالت الطوابع من على الأبواب. وبعد مفاوضات طويلة اتفق الطرفان على أن تبقى الطوابع على الأبواب ثلاثة أيام ثم تزال.
مر المسؤولون عن هذه الحوادث بها كما مروا بغيرها من حوادث فلسطين، ووضعوا أصابعهم في آذانهم، ولكن هذا لم يزد العرب إلا إيماناً بحقهم وثباتاً في موقفهم والعاقبة للمتقين.
لست أقصد من سرد هذه الحوادث تسجيلها، وإنما لندرك أن احترام الرأي والمحافظة على الشعور من أهم الأشياء التي يجب أن يعتني بها العرب، يجب أن نفهم أن هذه النهضة التي نؤسس لها إذا لم يكن من دعاماتها احترام الرأي والمحافظة على الشعور وإلاَّ فهي نهضة مشلولة، وستكون منفوخة مثل الطبل، ولكن جوفها خال من كل شيء.. نريد أن يتعلم التلميذ في مدرسته احترام رأيه، ويجد الكاتب في ما كتبه، والمنتقد في نقده كل ما يشجعه في الكلام عن بلاده وأمته ليتسنى لهم جميعاً أن يظهروا أخطاءنا.
هذا إذا كنا نريد الحياة، ويجب أن نفهم أن الأمة التي لا تحب أن تحيا يجب أن تموت!!.
مكة: أبو عبد المقصود
صوت الحجاز: العدد: 296
الثلاثاء 29 ذو الحجة سنة 1356هـ
الموافق 29 فبراير سنة 1938م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :410  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.