الأمور المعقدة |
أخي محمد عمر |
ضحكت من نفسي وعليها كثيراً عندما قرأت رسالتك.. وسألت: أمن المروءة أن يصرخ ويشكو رجل من امرأة؟ وكان يهولني من قبل أن أراك تعالج الأمر بهذا الهدوء وأقول في نفسي متسخّطاً: أترى الأمر لا يعنيه؟ ومما يسرك طبعاً أن يعديني هذا الهدوء منك فأعرف كيف أسخر بنفسي ومنها فإذا عقدة الاحتقان تنحل، وإذا بغيوم التوتر المتلبدة تنقشع.. وإذا أنا في حالة من الصفاء وسلاسة النفس والفكر والخيال، ليس ثم بعدها مطلب يستزاد. |
نعم يا صديقي إنهم يقولون، فإن كان ما يقولون حقاً ففيم الأسى والألم؟ وإن كان باطلاً فمن الحق أن يكون باعث مسرة وارتياح وتندُّر. |
أترى كيف كان لك الفضل في حل هذه العقدة؟ سلمت ودام إخاؤك أيها الصديق.. |
لم أستلم العدد الذي بعثته إليَّ من البلاد.. ولعلّي آخذه غداً.. وأشكر لك فضلك عليَّ بنشر الإعلان المتعلق بأفكار المقدمة.. وسيقول الناس شيئاً عن هذه الأفكار فيسرني أن تبعثه إليَّ قصاصات إن لم يمكن أن تبعثه أعداداً ينشر فيها. |
أما القصة "كاملة" فستعرفها بعد.. لقد كان المفروض أن تنشر هذه المقدمة باسم عبد الجبار، أو الفلالي.. ولكن سلسلة من "المقالب" غيَّرت الوضع، فمنع النشر، وإذا بالمقالب تتصل فيتم النشر.. ومن هذه المقالب أن شيئاً زيد على المقدمة، وشيئاً حُذف منها.. وأن سطوراً بحالها.. تحركت إلى غير مواضعها لتحل محلها سطور أخرى متحركة عن مواضعها الطبيعية.. |
فالمقدمة أصلاً، ثم بحكم هذا "التحريك" والحذف، والزيادة.. وبنسبتها إليَّ.. شيء لا يمكن أن أدعيه، ولا أن ينسب إليَّ.. |
هذا المعنى الأساسي الذي تدور عليه "القصة" التي ستأتيك قريباً أو بعيداً أما الأجزاء والتفاصيل فهي أطول وأثقل من أن أقدر على سوقها الآن. |
إن فيك الآن شيئاً يحيرني. سألتك متى وكيف اطلع الصديق على رسالة أو رسائل مني إليك؟ فأجبت جواباً غامضاً لا تنفي به ولا تثبت.. |
وكتبت إليك مرة أو مرتين منفعلاً.. وكان لا بد أن يكون لهذا الانفعال صداه المفضَّل عندك ومنك.. فطويت هذا الصدى في غيمة تكاثف بها الشك وازداد الغموض. |
وكانت هناك رسائل لا بد أن يكون لها جواب تفيض به استجابة أو مشاركة، أو رجعاً.. ولكن الاعتذار بتراكم الأعمال، وتعقد الأحوال، ألقى عليها ظلمة لا يتخللها شعاع. |
لك أن تقول: إنّها وساوسي.. وثق أنني لن أدفع التهمة عن نفسي ولكني سأظل متحيراً إلى أن يتاح لشيء جديد أن يدخل رأسي آتياً منك، أو نابعاً فيه.. |
والآن أستطيع أن أضيف إلى هذه الظلمة المطبقة شيئاً جديداً.. شيئاً لي بذي خطر.. ولكنه شيء كان خليقاً بأن تقوله أو تتحدث عنه على نحو ما في رسالة من رسائلك.. هذا الشيء، هو أنك قرأت المقدمة المعروضة عليك، وأنك علمت أن عريفاً والسرحان قرأها معروضة لهما.. أفلم يكن هذا خبراً -على تفاهته- كان خليقاً بأن يكون له صدى عندك؟ |
أنت مشغول، مشغول ولا شك.. والشغل عذر يجب أن يكون مقبولاً بيننا على الأقل.. ولكن ألاّ تصدقني إن قلت لك: إنني في حيرة؟ ثم ألاّ تصدقني إن قلت لك أني أجد في موقفك مني شيئاً غير يسير من التكلف؟ لعلّك غاضب، أو منطوٍ على معتبة أو موجدة تتقلب عليها عادتك في تكتم ما يسوء أو يغشى أو يحزن أو يحيق؟ |
لقد اعتدت مني أن لا أكتمك شيئاً من سريرتي، فأنا بهذه العادة ألقاك الآن.. فإذا كنت لا تقول غير أني واهم.. فسأصدقك وأتهم نفسي وعقلي.. ولكن هذه الحيرة لا تنفك تلازم نفسي وعقلي حتى يتيح الله لشيء معقول يقال، أو لشيء معقول يَحْدُث، أن يخلصني منها، أو يخلصها مني. |
وبعد فما تزال أنت أنت عندي بهذا، وبغيره، ورغم آلاف المؤثرات.. والدواعي.. الصديق.. والأخ، ويسرني أن أكون مفهوماً عندك على هذا الأساس وحده، ولا شيء بعده. |
لم ألق محمد نور غير المرة الأولى.. وكان المرض يلاحقني كل يومين أو ثلاثة، مرة تدوم فتطول أو تقصر على العموم فإن محمد نور بخير.. ولكن اقتضى الأمر أن أطلب توكيلاً يعينني على حل سلسلة طويلة من الأمور المعقدة.. |
كما اقتضى الأمر أن أكتب إلى الصديق في هذا البريد راجياً -إن كان في إمكانه تدبير الأمر- أن ألحق بناتي بمدرسة داخلية على موازنة البعثات رغبة في التحرر من محنتي بهن وبمصيرهن. |
ولم أفض إليه بالباعث على هذا الطلب، طبعاً.. وسأنتظر كلمته.. وطلبت إليه أيضاً أن يدبر لي أمر الحصول على جواز خاص أحمله فيعفيني من قيود الإقامة ومفاجآتها المخيفة المربكة.. أملاً في أن أقتحم باب أي عمل يعتمد على المجهود في مصر.. فقد هالني أن أعود إلى الحجاز مجرداً من كل شيء.. |
وقد فقدت حتى الآن من وزني ما يقرب من عشرة كيلو.. وهذا ليس بذي بال، ولكني أقوله للدلالة على عنف ما أخذني من المؤثرات.. |
ولا أود أن أثقل عليك باستطلاع رأيك، فلن يكون لك رأي في الأمر غير أن أنتقل إلى الحجاز بعيالي.. وهو الرأي الذي يزيدني شعوراً بسوء الحالة بالنسبة للعيال.. ولن تقول معي: كيف؟.. |
إنه إذا أُتيح لي أن أعود مفرداً، كان هذا المعقول لا غيره.. وإنه إذا أُتيح لي أن أتخفف منهن بإلحاقهن في مدرسة داخلية، كان في وسعي أن أزاول أي نشاط بالرحلة إلى الحبشة أو عدن أو السودان أو الحجاز وما الحجاز إلاّ آخر ملجأ.. |
لقد عقدت عزمي على أن تكون هذه الواقعة آخر وشائج اتصالي بأخي.. فلم يبق في داخل نفسي شيء ينهدم.. إلاّ الرمق الأخير.. |
أرجو أن لا يرد على نفسك من هذا المؤثر ما يؤلمك أو يشغلك بالانقباض به.. إنها غاية من غايات الحياة يصطدم بوعرها كل من يهب حياته ونشاطه وحيويته للآخرين ولو كانوا الأهل والأشقاء.. وهي غاية كل مجرب يغلبه الحمق، وضعف الرأي، وانحلال الطبيعة أن ينتفع بتجاربه ويستثمرها.. وأن يفهم الواقع. ولكن ما عند الله خير.. وما أسأله إلاّ حسن العاقبة، وسلامة المصير.. |
تقبل تحياتي وإخلاصي وأشواقي أيها الأخ الصديق وإلى اللقاء. |
|
|