سلطان المجتمعات |
أخي محمد عمر |
إننا نمارس عادات، لا تسايرها ميولنا. |
وفينا ميول لا تتحول إلى عادات. |
فإذا سألنا أيهما الأسهل؟ أن تتحول عادتنا إلى ميول، أم ميولنا إلى عادات؟ وجدنا أن تحول العادة إلى ميل، أيسر من تحول الميل إلى عادة. |
والسبب أن منشأ العادة، ممارسة فعل معين، وتكراره ظاهراً عن طريق الالتزام، أو الإلزام. |
أما الميل فرغبة باطنة، قد تجد أو لا تجد، مجال ظهورها وثباته، في فعل متكرر أو غير متكرر. |
ومن هنا فإن بين الميل، والعادة، علاقة تجانس، أو تنافر إلى حد ما.. فالعادات تمثل ميولاً أو تستحيل إلى ميول، أو لا تمثلها ولا تستحيل إليها.. والعادات تكون أثراً للميول، أو لا تكون فتظل نتيجة للممارسة والتكرار.. |
الفرق بين العادات والميول، أن من عادتنا ما يفرض علينا قسراً، أو اختياراً، في شكل سلوك ومقاييس يقررهما المجتمع، فنعتادها ونلتزمها كارهين لها، أو راضين عنها، أو غير شاعرين بها أصلاً. |
أما ميولنا فلا تفرض علينا، ولا يمكن أن نفوّت وعينا لها، ولا سلطان ظاهر من خارجنا عليها، وإن كانت عوامل تكوينها فينا ليست ذاتية دائماً. |
لقد اعتدت التدخين منذ سبع وثلاثين سنة، لا نتيجة لميلي إليه، بل لأني أكرهت على اعتياده، من إنسان له دلالة عليَّ.. وبرغم أني من أشد المفرطين في استعماله على مستوى (عالمي!)، فأنا شديد الكراهية له وعلى نفس المستوى.. |
فهذه عادةً استحكمت، بطول ممارستي لها، ولكنها لم تتحول إلى ميل. |
وأنا أميل إلى الحرية والانطلاق ميلاً جنونياً من صغري، ولكنني من ناحية سلوكي شديد الالتزام للحدود إلى حد التزمُّت. وحتى عندما لا تكون هناك حدود تواجه هذا الميل أو تعارضه، فإني أضعها ولا أتجاوزها متشدداً ضد نفسي التي تكون دائماً في حالة ضنك. |
ومع هذا فأنا لا ألتزم معظم مقاييس المجتمع، وأتخفف منها، وأهدرها قولاً مقترناً بالعمل، وعملاً لا يلتمس التبرير والتوكيد والتفسير.. وأتحمل عقاب المجتمع راضياً.. وغير راض. |
هذا اللون من الحرية والانطلاق بالنسبة لذاتي كإنسان، هو الذي لا أضع له حدوداً ألتزمها لحساب مقاييس المجتمع، وضد نفسي. |
وهو ليس نتيجة ميل فيَّ ولا عادة اعتدتها، ولكنه عبارة عن سلوك أو منهج يتصل بمزاجي أو بعقلي، فما زلت حائراً في ربطه بأحدهما.. إنه شيء تُمليه عليَّ طبيعتي بعنف وحسب. |
ولعلّه يرجع إلى ضعف ذكائي ونقصه، لأنه بلا شك نتيجة لضعف القدرة على التكيف، فالذكاء عندي هو هذه القدرة على تفاوت درجاتها. |
إن ميلي إلى المشاركة الوجدانية والتجاوب مع مشاعر الآخرين، والانفعال بها، يشكل أخطر نزعاتي عليَّ وأكثرها توهجاً وحدَّة، وهو مرد كل ضعف فيَّ.. وغالباً ما تدفعني غلبة هذا الضعف وسلطانه عليَّ، إلى مآزق من الضر والجهد تعرضني لأفدح التجارب التي يستنكرها ويؤثر عليها عقلي، لأنها كانت ولا تزال وستظل مصدر 99٪ مما أُصبت به في حياتي من تعاسة وخيبة.. ليس في ذلك مجال للشك! |
فهذا ميل عاطفي يتحول إلى سلوك قاهر لا سبيل لتفادي آثاره السيئة بأي قدر من الإرادة، كالتدخين.. إنها أمثلة للتجانس والتنافر في العلاقة بين الميل والعادة. |
وهي في الوقت ذاته أمثلة لما في حياة الناس وميولهم وعاداتهم من تناقض. |
وهنا تبرز ضرورة نشأة المصطلحات البشرية في مجتمعاتها.. |
فالاصطلاح عبارة عن قانون اجتماعي تضعه فئة من الناس لعموم فئاتهم.. |
قانون يتم به التعميم، ويهدر أمامه اختيار الفرد، لكل قانون. |
والعادات العامة من حيث إنها بعض قيم المجتمع، تعني اصطلاحاً، لا سبيل للتحرر من قيوده إلاّ بالخروج عليها.. وهذا الخروج معارضة للمجتمع أو صدمة له، تماماً كالخروج على قواعد المرور.. |
إن المرور لا يضطرب إذا خرجت جميع السيارات على قاعدة من قواعده، فالخروج العام يشكل قاعدة، ولكن سيارتين أو ثلاثاً تكفي لحدوث اضطراب حقيقي.. |
ماذا يحدث لو أسقط فرد عادات مجتمعه العامة، واصطلاحاته المقررة؟! يتهم بسوء النية المتعمّد نحو هذا المجتمع.. لن يكون هناك مجال لافتراض الخطأ في تحرّي العرف أو جهله.. وعلى فرض الجهل فإن المجتمع لا ينفي المسؤولية به.. وهكذا القوانين.. |
إن هذا الإسقاط في عمومه ليس أكثر من اقتراح تجربة جديدة لتبسيط الإجراءات مع إقامة المثال علمياً لتبريره أو تفسيره. |
والمجتمعات دائماً لا تسمح لأفرادها باقتراح تغيير مصطلحاتها وعاداتها عن طريق الإسقاط.. كل ما تسمح لك به أن يكون اقتراحك كلاماً.. أي مجرد ترشيح لنظريتك في شكل دعوة إليها. |
يحدث أن تربط عليك ضريبة ما مع خطأ التجاوز للحد فيها. ليس لك أن تتوقف عن أدائها.. ادفع الظلم وإن كنت تعتقد سلفاً أن التظلُّم بعد الدفع، سيفقد وجاهته! |
وقانون الضريبة محق في هذا، فإنه لو توقف أداؤها على بحث التظلّمات، لعجزت الدولة عن الوفاء بالتزاماتها، وأفلست.. |
بالطريقة ذاتها والمنطق ذاته، يعاملك المجتمع.. ادفع ثم اقترح.. وهذا إذا كنت أديباً.. أو مفكراً. أو حتى كاتباً في صحيفة، وفي بلد يجوز فيه التنفس.. والعطاس للطبقة التي تنتمي إليها.. إن كان مجتمعك طبقياً.. وأي مجتمع غير طبقي!. |
إنه مجرد استطراد.. فلنعد.. لنعود من الصحراء التي قادنا إليها هذا الزقاق الضيق. |
ماذا كنا نقول؟ سلطان المجتمعات؟ نعم إن المجتمعات كالقوانين، لا تتقبل المساس بأحكامها ومصطلحاتها.. وإلى ذلك يرجع ثباتها واستقرارها -بمعنى جمودها. |
لكنها مع ذلك، وبرغمه، تتغير، لأن كل مجتمع بُنْيَة حيّة، وليس قطعة من الصلب.. والصلب ذاته ألا يتغير بالمحاولة أو بالزمن؟ إن التغيير والتحوّل -والتطور- سنّة الحياة.. ما لا تغيره الاقتراحات.. والعوامل، يغيره الزمن.. وعوامل الزمن، في بطء.. أو في سرعة، الزمن نفسه، كحركة، أو كفرض، أو كمقياس للشعور، وللحركة -يتغير. |
إن بين الزمن -والمجتمعات البشرية، علاقة تجانس وتنافر، كالتي بين الميول والعادات. |
أنت تسير القهقرى، أو تقف -أو تجري.. هذه علاقات مع الزمن.. علاقات تجانس وإطراد، أو تنافر وتناقض. |
هناك شيء آخر.. أناس يسبقون الزمن.. أحياناً يكونون أفراداً، وأحياناً مجتمعات كبرى يقل فيها قدر المصطلحات الثابتة.. ويتغير كل شيء فيها بسرعة الزمن.. وأحياناً أسرع من الزمن. من هذه المجتمعات مجتمعات تحاول أن تلغي الزمن، لأنها تحس تخلُّفه عن حركتها، أو تحس أنه مجرد اصطلاح. |
إنها مجتمعات المستقبل، لأن حاضرها دائماً عبارة عن ماضٍ لحق بالزمن الذي هو عندها مستودع أو متحف لمخلفات الساعة الخامسة والعشرين. ساعة الصفر التي تنطلق فيها المعارك بين الإنسان وبين المستقبل، ليتحول إلى المستودع الذي يعيش فيه الزمن مع مخلفاته ذكرى من ذكريات الساعة الخامسة والعشرين المنطلقة خارج حدود المكان والزمان وراء الذات العليا التي تتحول ميولها إلى عادات، وعاداتها إلى ميول، أو التي ليست لها عادات ولا ميول. الذات التي لا تصدّها الحواجز والمصطلحات والقوانين، ولا تنتظر أن يغيّرها الزمن، لأنها هي الزمن، وهي تغيِّره. وتحوِّله. وتطوِّره لأنها أسبق وأسرع منه. |
والآن ألا يكون السؤال وجيهاً؟ ما هي علاقة مجتمعنا بالزمن؟ وحذار أن تحاول الإجابة فأنا أعرفها والمجتمع لن يسمعها إلاّ ممن يعيش معه في ماضيه. في المستودع! |
وإلى اللقاء |
|
|