شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العاشق المسعور
أخي محمد عمر
هذه فرصة للكلام لولا أني أُنسيته، أو فقدت القدرة عليه. وقد كتب إليَّ طالب يستفزني، فاكتفيت بأني اعترفت له في طمأنينته بالسبق والتفوق، فظن أني أهزأ به، وقال إن تلك عادتي المعروفة عني، فأقسمت له بما حفظته من مغلظات الأيمان أني غير هازئ، فقال ومن يصدق إنساناً فنه الكذب؟ وكدت أستشيط لولا ما أحس من وهن قواي.. وزهدت في أن أحمله على أن يفهم مثلي، أن الكذب فن الحياة الفرد.
هو طالب لا أعرفه، ولكنه لم يبلغ الثامنة عشر على الأرجح. وقد شكا أن الناس لا يشعرون بوجوده إلاّ لأنه جميل مترف. ولو كان غير ذلك لكانوا أخلق بأن لا يتفطّنوا لوجوده. وقلت له في ما قلت من كلام أن هذا يُمثِّل لإرادة الحياة ذاتها، ولقانونها الأبدي، فما يخلو ما نحب له الرواج من عوامل الاستفزاز والإثارة بإسراف.. فالجمال، ووضاءة السيماء، دعوة ملحة من الطبيعة إلى الإقبال.. وقد لا تكون الغاية في الجمال أن يشتهي ويطلب ويلتذ به، ولكن أن تثير دعوته في النفوس ألواناً من السَّعار والاضطراب العنيف يتم بها نظام الوثاقة للفكر أو للعواطف، أو للجسد، أو للحياة وأهدافها ويكون العاشق المسعور ضحية التمهيد..
والجميل في ذاته، ليس إلاّ وسيلة من وسائل الحياة لتحقيق أغراضها ومراميها، وسيلة كارهة وراضية، ومستقبحة ومنحرفة، كما ينساق الجندي لا يعرف من أغراض قيادته، إلاّ ما يحقق له أنها راغبة في الخلاص منه، أو إلاّ ما يعتقد أنه باطل، ولكنه لا يتوقف.. إما لأنه لا يستطيع.. وإما لأنه يجد الناس لا يتوقفون من حوله، وإلاّ لأن الانسياق إذا تكرر أصبح عاملاً قوياً من عوامل القضاء على الشعور بحرية الاختيار.
وقد أنكر في كلام طويل أن يكون وسيلة تناسق كارهة، فعلمت من هذا أنه على شيء من عناد الصبا، ومضيت أرقيه برقى حذقتها عنك.. وبرقى عرفت نفاذها، ومنها أني هوّنت عليه الاعتراف، بأن اعترفت بأني أنساق كارهاً إلى ما أعرف وإن أجدني قد خضعت -على نفوري من الخضوع- لرغبات مجهولة تقودني. فأنا في هذه الحال، جمال ينقاد كارهاً، لتتم سنة الحياة.. وأنكر عليّ هو أن أكون جمالاً فأقمت له الدليل على ضعف رأيه، فجمالي هو الذي اقتاده إلى التحكك بي، وأن هذا التحكك، نتيجة صراع نفسي، طال أو قصر أمره، فالأدب جمال، والسمعة الطيبة جمال، والأناقة جمال، والفصاحة جمال، وحتى الشيخوخة، وهي دليل ضعف دواعي الحياة في الإنسان -لها جمالها وسحرها وفتنتها أحياناً.
وكنت اليوم، على أن أكتب إليه، لولا أن خيالي أحس باحتمال الفجيعة في ما صورت له لحظات الفتور والسآمة، ولولا أنني تلقيت رسالتك وحسبتني كاتبها، أو ممليها، لما عرفت من مشابه أسلوبي فيها. ولي في هذا كلام لا بأس أن تسمعه.
السحنة ومعارفها تُميز إنساناً عن آخر، والأسلوب هذا شأنه، فلا تقول لماذا تتشابه الأساليب، لأننا لا نستطيع أن نقول لماذا تتشابه السحنات. وأبناء الحرفة الواحدة يتشابهون لطول العشرة والاحتكاك والخضوع لمؤثرات متشابهة، والابن في العائلة يشبهها بعامل التقليد والاحتكاك والتأثر النظري والتبني أكثر مما يشبهها بعامل الوراثة. وأنا -على ما أعرف لنفسي من وثاقة وعناد في المحافظة على خصائصي وعاداتي- أرى نفسي متى اختلطت بجماعة طالت العشرة بين أفرادها، في حالة قابلة للانطباع بالحالات والحركات والاتجاهات المتركزة كصفات عامة لهذه الجماعة..
والإنسان فيما أظن يقلد القويّ مختاراً أو مضطراً، ولكنه يقلد الضعيف والأضعف غير مختار ولا متنبِّه. ولذلك كان فشوُّ الضعف في جماعة من أسباب انهيارها. وأعني الضعف الظاهر.
غلب على أساتذة الفلاح بجدة في طور معين، ضعف الجسم، واستتبع هذا ومشقة الدراسة ونصبها انحلالاً في القوى، فكنت ترى معظم الأساتذة في حالة تفكك، فراعني أن 80٪ من الطلبة الذين يحتكون بهؤلاء المدرسين مباشرة، أصبحوا مثلهم.. حتى خيف السل على الجميع..
وعرفت طلبة، يعبرون لتأثرهم بأساتذة معينين، بالسّعال على طريقتهم، ولذلك عُدَّ الوهم من أسباب المرض.
في وسع أحدنا أن يشيع الحزن والكآبة بين جماعة يلعب بها السرور، متى وجم واكتأب وتلاعب برقة صوته، ونظراته.. إن الحزن ضعيف ولكنه يتغلب. وهذا سبب أن يكون الضعف أكثر تأثيراً عندما يحملنا على تقليده. تقليد القوة يحملنا على ممارسة صنوف من الصعوبات، فهو إيجاب، ولكن تقليد الضعف يشعرنا بالانطلاق والاسترخاء، ويندر أن يكون في الدنيا ضعف إلاّ وبالقرب منه لذة أو راحة..
أفرطت في التدليل، وتركت لك ثغرات تملؤها بما تختزن من تجارب وملاحظات وليس غرضي أن أهوّن عليك الاعتراف بتشابه أسلوبينا.. أظن أنه متى اشتركنا في تكوين خصائص فكرية أو آدمية أو خلقية، نجحنا في وضع تقليد عام لهذه الأمة..
إن كل إنسان يميل إلى تقرير ذاته وتوكيدها، والجهود التي تبذل في ترسيخ أفكار أو مذاهب، أو تقاليد خاصة، هي في الواقع تسعة أعشار الجهود العامة للإنسانية، مع اعترافي بإسراف هذا التقدير، هذا لأن تقليد الفرد أو نزعاته، يكون نصيبها من الحياة والتأثير، على قدر نصيبها من الشيوع.. والشيوع كما تعلم، يجعل العيوب مألوفة، أو حسنة، وهذا معنى ضمان البقاء والاستمرار..
وبعد، فإن كان هذا كافياً فسأقف عنده، وإن كنت لا تزال بعده في حاجة إلى مزيد، فليس أحب إلي من أن أسح وأسترسل وأحفر في عدوي، كما يفعل الجواد الذي يكاد يخرج من جلده نشاطاً وهذه عقبى المرض الذي لم يطل، وفي كتابي الطويل إلى عزيز "الأب"! فلسفة يلعب بها الابتذال، كما تلعب برأسي الآن نشوة أني أتممت هذه الرسالة في أسبوع ونصف تقريباً. أليس هذا دليل القوة؟.. إلى اللقاء.
أخوك حمزة شحاتة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :532  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج