شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحالة السياسية
تقدم بنا أن جنود العثمانيين الفاتحة ما كادت تنتهي إلى مصر حتى كتب قائدها إلى الشريف بركات أمير مكة يعرض عليه الموافقة على إقرار إمارته في مكة إذا وافق شريف مكة من جانبه على الدعاء للعثمانيين وأن بركات ما لبث أن قبل وبذلك بدأت علاقة مكة بالعثمانيين.
وبذلك ظل الأشراف من أصحاب البيت المالك في مكة يتعاقبون حكمها على جري عادتهم أميراً بعد أمير.. كان الأمير يصل إلى دست إمارته بالوراثة أو التغلب فلا يكاد يجلس في منصبه حتى يكتب إلى الخليفة العثماني بنبأ ذلك. ليتلقى الموافقة في صورة مرسوم يقرأ في المسجد على ملأ من أصحاب الحل والعقد في مكة في موكب حافل وطقوس مرسومة.
وظلت بقية المدن في الحجاز تابعة في حكمها لإمارة مكة يباشر شؤونها أحد المنتمين للأمير في مكة يشاركهم في السلطة في بعض البلاد كالمدينة وينبع وجدة موظف تركي كان الأتراك يندبونه ليمثل سلطتهم فيها.
وكان يرابط في جدة صنجق عسكري تتبعه فرقة عسكرية كاملة حلت محل الجيش الجركسي المهزوم ويقيم إلى جانبه فيها موظف تابع للإمارة في مكة يتولى حكم الأهالي يسمونه وزير جدة.
وقد أضافوا إلى صنجق جدة وظيفة المشيخة على الحرمين ليستطيع أن يباشر شؤون التعميرات في مكة وأن يشرف من كثب على إدارة الأعمال فيها كما فعل الشراكسة قبلهم.
وكان صنجق جدة يتلقى أوامره من العاصمة التركية مباشرة في بعض الأحيان ويتلقاها في أحيان أخرى من طريق الوالي التركي في مصر وكان بحكم منصبه يساعد على عزل الأمير المعزول من الأشراف في مكة ويحضر تولية المنصوب فيها ويقدم له الخلعة الخاصة بذلك.
كما أن الوالي التركي في مصر كان له الحق في تقديم مقترحاته في شأن ولاة مكة وذلك لأن سلاطين آل عثمان كانوا يثقون بهم ويعتدُّون بآرائهم لقربهم من محيط الحجاز وبعد عاصمة العثمانيين عنه.
وقد ظلت مكة معفاة من مرابطة العثمانيين فيها ما يقرب من قرنين ثم تغير الأمر لأننا نجد فيما قدمنا من حوادث أن فرقاً من الانكشارية أخذت ترابط في مكة حوالي القرن الثاني عشر ويظهر أثرها في أحداث البلاد يرأسها سردار يتلقى أوامره من صنجق جدة.
ولم يكن للعثمانيين في مكة في أكثر سني هذا العهد موظفون من الأتراك يتولون شيئاً من شؤون الحكم إلاّ ما كان من أمر القاضي والمحتسب وكانت وظيفة الأخير تضاف في أكثر الأحيان إلى (صنجق جدة شيخ الحرم) أما وظيفة الإفتاء فكان يتولاها علماء من مكة بترشيح من الأمير وتأييد السلطنة العثمانية وسنأتي في الفصل الخاص بذلك على أسماء البيوتات من مكة التي كانت تتولى مركز الإفتاء فيها.
وقد ظل صنجق جدة بالرغم من إشرافه على شؤون الحرمين مقيماً بحكم منصبه في جدة ولم ينتقل إلى مكة إلاّ في العهد العثماني كما سنذكره فيما سيأتي.
وبالرغم من إقامته في جدة فإن سلطته شرعت تتوسع على مدى السنين إلى أن أتيحت له مراقبة تنفيذ جميع أوامر السلطنة كما أتيح له في بعض الأحيان التي يتولى أمر مكة فيها شريف مسالم أو ضعيف أن يحد من نفوذ ذلك الأمير ويسيطر بإشرافه على مقدرات البلاد.
أما أصحاب الشخصيات القوية من الأشراف فكانوا يتجاهلون سلطته كما يتجاهلون في بعض الأحيان أوامر الخلافة العثمانية نفسها.
وكانت واردات البلاد من الحجاج والمكوس من نصيب الأمراء في مكة يستولون عليها ويجعلون بعضها سهاماً توزع على أقرباء بيت الإمارة وقد ظل ذلك شأنهم في سنوات طويلة من أوائل الفتح العثماني إلى أن استطاع قانصوة الوالي التركي في جدة أن يستغل ضعف الأمير مسعود في مكة عام 1040 كما تقدم بنا وأن يضع يده على جميع الواردات ليضمها إلى خزانة الدولة العثمانية.
ولم يدم ذلك طويلاً لأننا نجد الشريف زيداً رأس الأمراء من ذوي زيد ما لبث أن تولى الحكم ونشط للمطالبة بالواردات ومع هذا لم يظفر إلاّ بما يعادل نصفها وبقي النصف الآخر تتسلمه خزائن العثمانيين التي استحدثت في جدة لقاء عناية العثمانيين بشؤون الحج وعمارة الحرمين. وقد حاول بعد ذلك الوالي العثماني في عهد مسعود بن سعيد أن يماطل في استحقاقه من واردات جدة فمضى مسعود بجيشه إلى جدة فاحتلها وطرد الوالي التركي ثم كتب بذلك إلى الخلافة فأرسلت والياً غيره وأمرته بصرف استحقاق الأمير.
وباستحداث الخزانة التركية في جدة واستحواذها على نصيبها من الواردات في عام 1040 وما بعدها أخذ الحكم العثماني يوطد لنفسه في مكة أكثر مما كان وشرع يزداد عدد الموظفين الذين يتولون مناصب المال ثم شؤون البريد ونظارة السوق وأعمال الأوقاف وغيرها وما وافى العهد العثماني الأول على نهايته حوالي عام 1217 حتى كانت مكة قد ألحقت نهائياً بالعجلة التركية وأصبحت ولاية تابعة لها في جميع مرافقها السياسية والاجتماعية.
وما أجرأ على لوم العثمانيين فيما فعلوا فالناس في كل زمان هم الناس في آمالهم الطامحة وأنانيتهم الجامحة وغرامهم بالاستئثار فأي لوم يستحقه العثمانيون إذا فعلوا في سبيل مصالحهم ما فعله ويفعله كل قوي أقلته الأرض.
الذنب في رأيي كان ذنب أصحاب البلاد الذين ساعدوا بتخاذلهم وتأخرهم على إغراء العثمانيين بامتلاكهم. فبعد أن كانت علاقة أجدادهم السياسية لا تتعدى الدعاء وتأييد الإمارة وحماية الثغر في جدة استطاعوا بسبب تنافسهم على مقعد الحكم أن يمهدوا لصديقهم القوي طريق التدخل في مقدرات بلادهم إلى آخر بند فيها.
على أنني لا أريد أن أبعد في هذا اللوم كثيراً لأن فلسفة الذنوب والجرائم لا تقرُّني على ارتجال الأحكام دون أن أتدبر ما يحطيها من ظروف وأمعن فيما يلابسها من مهيئات.
فأصحاب مكة الذين أعنيهم وهم أمراؤها من الأشراف قضوا حياتهم فيها متنابذين متناجزين لا يكاد يغمد سيف من سيوفهم حتى تشرع في وجه صاحبه سيوف ولا يكاد يظفر بالغلبة بينهم ثائر حتى يناجزه ثوار جدد يثيرونها عليه حرباً عواناً.
هؤلاء الأشراف هل كانوا مذنبين؟
الواقع أنهم كانوا كذلك ولم يكونوا. كانوا مذنبين بتعسفهم في فهم الحقائق وتعصبهم لما يرونه حقاً وإفراط كل فريق منهم في التعصب إلى حد العناد الذي يؤدي إلى تقطيع الأرحام وامتشاق السيوف وإثارة الحروب.
ولقد قاست مكة في سبيل عنادهم هذه الويلات والشدائد والموت والجوع ما يعجز الوصف عنه ويكل القلم، طول أحقاب عديدة كما قاسوا هم أنفسهم من جرائه ما يعز معه الصبر.
وأمعن بعضهم في العناد حتى سام إخوانه من العذاب ما لا يطاق وأباح لأنصاره في غامد وزهران أن يهتكوا أعراض مناوئيه في البلاد وفعل غيره أبشع من ذلك.
كل هذه الويلات يعتبرها العرف ذنوباً إلاّ أن الفلسفة لا تلبث أن تتشبث بالظروف الملابسة لتعرف مدى ما تنطق به.
هؤلاء الأشراف توارثوا الحكم من أجدادهم في وضع مرتبك لا تنظمه قاعدة مسنونة ولا يقيده عهد شامل مكتوب ولا يستقيم الأمر لحكومة ملكية على وجه الأرض ما لم تنظم لولاية العهد فيها قواعد ثابتة لا يشوبها خلل ولا يتخللها ارتباك وإلاّ كانت تلك الشوائب مدعاة للاضطراب والفتن وإثارة الحروب.
ولسنا في حاجة إلى التدليل على هذا فإن تاريخ الحروب الأهلية في كافة الأمم على وجه الأرض يدلنا بأفصح بيان على أن معظم وقائعها الصاخبة كانت تدور حول محور واحد هو الخلاف على وراثة العهد وذهاب كل من المتطاحنين إلى الدعوى بأحقيته دون غيره في الولاية وإصراره على نيل هذا الحق مهما كلفه الثمن من دماء وأموال وليس من يشك في أن ولاية العهد لو نظمت في جميع تلك الحكومات تنظيماً دقيقاً وافياً لاستغنى العالم عن ثلاثة أرباع الحروب العظيمة في التاريخ.
وفي هذا ما يؤيد نظريتنا في أن الإنسان في كل أزمنة التاريخ -بل وبصرف النظر عن جميع الاعتبارات- هو الإنسان المجبول على الطمع والأنانية وحب الاستئثار لا يستثنى من ذلك إلاّ نبي معصوم أو شخص موهوب، وهما أقلية في التاريخ نادرة.
بذلك وجد الأشراف أنفسهم قد أحيطوا بملابسات قاسية. فهذا يرى أحقيته في الإمارة بحكم وراثته وذلك يدعيها لأن والد مناوئه كان مغتصباً قبل اليوم فما يمنعه أن يسترد ما غصبه جيل سابق حتى إذا حكم السيف لأحدهما قام من أعقاب المغلوب من يرى أن الدين لا يضيع ما قام له مطالب! فيندفع إلى الفتنة أو يقوم غيره ليحيى ذكر جد من الأسرة مدعياً بأنه الوريث الشرعي له دون غيره وهكذا يتعدد الحق بتعدد وجهات النظر فتبدأ المشادة وتتطور إلى عناد فتغلي الدماء فوارة محمومة فيطيش العقل فلا يبصر أمامه إلاّ هدفه المنشود، وإذا استثير العناد واستعرت فورة الدماء اندفع الإنسان في غياهب الحياة إلى أوخم العواقب.
كانت إمارة مكة قد انحدرت إلى بركات عندما اتصل العثمانيون بمكة عام 923 وتوارثها أبناؤه حتى آلت إلى عبد الله بن حسن بن نمي الذي تنازل عنها لابنه في عام 1041 واختار ابن أخيه زيد بن محسن ليشاركه في إدارة البلاد اعتماداً على حصافته وحسن تجاربه فما لبثت هذه الثقة أن جرَّت إلى مشاكل بين ذوي زيد وبني عمومتهم من ذوي بركات وتركتهم يتنازعون أحقيتها ويذيقون البلاد من حروبهم ما يذيقون.
ولقد استفاد الأشراف من هذا النزاع لرجولتهم شيئاً كثيراً فكان الرجل منهم ينشأ مقاتلاً بطبيعته بكل ما في المقاتل من شجاعة ورجولة وشهامة.
وأساءت أخلاق المقاتل فيهم إلى البلاد إساءة لم تتعوضها إلى اليوم ولن تتعوضها إلاّ بعد حقبة من الزمن، ذلك أن المقاتل فيهم كان عندما يظفر بالغلبة على هذا البلد ويمتلك مقدراته لا ينصرف ذهنه إلاّ إلى الكيفية التي يستطيع أن يحافظ بها على دست الإمارة من عدوان خصومه لهذا فهو لا يعنى بشيء عنايته بإدخال المال في خزائنه بأوسع ما يمكنه الادخار وشراء القبائل وشيوخها وأصحاب الكلمة فيها من الأشراف الموالين بأفدح ما يلزم من الأثمان يضاف إلى هذا نفقات التحصين والتسليح وبناء المخابئ والتفنن فيها.
لهذا كان الحاكم فيهم لا يجد في أموال البلاد ما يسع مرافقها العامة ولا يجد في أوقاته من الفرص ما يساعد على التفكير في شؤونها الحيوية، إنه في دست إمارته في مركز المقاتل الذي لم يدعمه نظام مقرر ولم تحصنه قاعدة ثابتة فأية طاقة فكرية تحتمل البحث في غير شؤون التثبت والتحصين.
أما العثمانيون فلعلّ أقصى ما كان يهمهم في هذا البلد أن يدعو خطيبها باسمهم عندما كانت علاقتهم في أول أمرها محدودة ببعض الالتزامات أما بعد أن تدرجوا في سبيل الاستيلاء عليه بمرور السنين وبعد أن ضموه إلى بقية الولايات التابعة لهم فإنهم لم يفترضوه إقليماً يدر العسل ليعنوا بخلاياه ويهتموا بمرافق النحل فيه بل تخيلوه مستودعاً يرابط فيه المتواكلون والمتعطلون والزاهدون من متقشفي الآفاق فما يمنعهم أن يصرفوا عنه الأذهان وبحسبهم الانتساب المشرف والتبعية في الجملة.
والأهم من هذا أن أصحاب الحل في هذا البلد من الأشراف جماعة لا تلين قناتهم للمستعمر الذي يتغلغل في ثناياهم ويتصل برعاياهم فيهيئ منها ما يريد، إن دون ذلك أهوالاً تكلف العثمانيين في رجالهم وأموالهم الباهظ الذي لا ترجى نتائجه فما يمنع العثمانيين أن يلتجئوا إلى أيسر السبيلين فيقبلوا ما يصفو لهم من الطاعة لقاء دريهمات يسخون بها لجيرة البيت كما يسخو الثري بنصيب من زكاته على المعتكفين في المساجد من الفقراء.
لذلك قنع العثمانيون في هذا البلد بشرف الانتساب والتبعية في الجملة واعتبروا أصحابه مجموعة متواكلة اعتكفت بجوار الحرم لتطوِّف الحجاج وتخدم الزوار وتدعو للخليفة السخي وبذلك تركوا أشرافهم يدبرون شؤونه بالشكل الذي يريدون ويقاتلون عليه بالسلاح الذي يشاؤون، وظلت الدولة في مقامها بدار السلطنة تتلقى أخبار الكوارث والفتن فلا تؤيد ولا تعارض بل تعد مراسمها بالتولية والعزل وكأنما كانت تجعل مكان الأسماء خالياً لتملأه في الوقت المناسب بالأسماء الجديدة من الأشراف الذين ظفروا بالغلبة والتفوق.
وإنها سياسة أضرت بالبلاد بقدر ما نفعتها لأن كرباج الأتراك الذي ألهب ظهور الرعايا العثمانيين في البلاد المجاورة لم يجد سبيله إلى ظهور الأهالي في هذا البلد وأنى يجد السبيل وفي حكام البلد من الأشراف من لا تكسر الكرابيج شأفته.
وقد نرى العثمانيين في عهد متأخر ينتصرون في أحيان قليلة لبعض الأشراف على بعض ويصدرون أوامرهم بعزل البعض وتولية الآخرين وقد يشفعون أوامرهم بقوة عسكرية تصاحب أمير الحج الشامي أو المصري لتنفيذ أوامر الخليفة إلاّ أن أمر الخليفة لا يخرج في مجموعه عن السياسة العامة المقررة فالإمارة لا تنقل بالعزل إلاّ إلى قريب من المعزول: أخيه أو أبيه أو فرد من بني عمومته وهي في بعض الأحيان تنقل ثم تعود بالتغلب فلا يملك الخليفة إلاّ أن يبرم ما نقضه أمس أو ينقض ما كان قد أبرم، ذلك لأن علاقته السياسية لا تبيح له التغلغل إلاّ بقدر، ولا تتيح له التولية أو العزل إلاّ في حدود لا تتعدى نطاق بيوت الأشراف الحاكمة.
وكانت قوة جدة التركية ثم قوة مكة فيما بعد لا يزيد عددها في أكثر الأحيان عن ستة ((بلوكات)) وكان رؤساؤهم إذا وقعوا في مشاكل إدارية لعب السيف بينهم وبين الأشراف كما لو كانوا أناساً عاديين لا تميزهم شارة الخلافة وقد يتم الظفر لهذا الجند فينادون بسقوط الأمير وتولية قريب من بيته وقد يهزمون فيشردون في البوادي حتى تنتهي أخبارهم إلى دار السلطنة فيندبون غيرهم ويوصونهم بالسكينة والهدوء.
كان للأمير جند خاص به قوامه عددٌ من مرتزقة اليمن وبعض البدو من أطراف مكة يضاف إليهم أحياناً بعض المرتزقة من مجاوري المغاربة والحضارم والأفغانيين وكان يصل تعداد الجند إلى بضعة آلاف سوى العبيد الذين يصل تعدادهم أحياناً إلى ما يزيد عن الألف.
وإذا دعا داعي الحرب اعتمد الأمير إلى جانب جنده في الدفاع على بعض الموالين له من القبائل شرقي مكة وغربها وجنوبها وبذل لهم من أمواله ما يرضيهم، ويعتمد إلى جانب ذلك على السوقة من المواطنين في أحياء مكة بعد أن يجمعهم من طريق مشايخهم في الحارات.
وكان رجال السوقة في مكة ويسمونهم ((أولاد الحارة)) يمتازون بجزء كبير من الحمية والجرأة وذلك بحكم نشأتهم في بيئة معرضة للفتن والقلاقل وحاجتهم إلى الذود عن بيوتهم في أثنائها بينما يمتاز رجل القبيلة بالخفة وإحكام الهدف بحكم نشأته في الجبال السامقة وحاجته إلى سرعة العدو وتسديد الرمي، أما العبيد فشأنهم أعلى من ذلك لأنهم يدافعون عن نفوذهم وسلطانهم في البلد وهما رهينان ببقاء سيدهم في دست الإمارة.
ومن قواعد الأشراف النبيلة أن الشريف المغلوب لا يخشى الغائلة على أهله إذا أجلي عن مكة وفي استطاعته أن يكل أمرهم إلى من يختاره من كبار الأشراف ليظلوا في سربهم تحميهم القاعدة حتى يستدعيهم رب العائلة إلى حيث أراد أو يعود إليهم ظافراً بإمارته المنزوعة.
وكانت حروب الأشراف قبيل هذا العهد قوامها السيف والخيل والعصا ثم أضيف الرصاص في أوائل هذا العهد ثم ما لبثوا أن استعملوا المدافع وكانوا كثيراً ما يتخذون من بيوتهم حصوناً ومن نوافذهم متاريس ومن شوارع مكة ميادين لقتالهم فكان أصحاب الحوانيت عرضة للنهب والسلب في كل مناسبة كما كان أصحاب البيوت لا يأمنون على أموالهم فيها أثناء الحروب وكثيراً ما اتخذوا من عرصات المسجد وأروقته ميادين لقتالهم خصوصاً في فتنتهم مع الترك ذلك لأن بيوتهم كانت تحاذي المسجد من بعض جوانبه فيضطر الخصوم لمقاتلتهم من الجوانب التي تحاذي المسجد من أضلاعه الأخرى وقد يحتدم القتال فيتصل بالمسجد.
وكانت مكة لا تتمتع باستقرار حتى تفاجئها حركات ثورية جديدة لأن أشرافها كما أسلفنا يحتكمون في خلافهم على الإمارة إلى سيوفهم فتتعرض البلاد في أكثر سنيها إلى فتن شعواء وقد تتجدد الفتن في العام الواحد لأكثر من مرة.
أما مواسم الحج فيها فكثيراً ما كانت تتعرض لهذه الفتن ويتعرض الوافدون إليها لأهوال لا تطاق ولعلّ للدولة العثمانية أكبر الأثر في إثارة الفتن أيام المواسم لأن أوامر عزلها إذا استطاعت العزل ترسلها إلى مكة صحبة الحاج الشامي وتكل إليه إمضاءها بقوته العسكرية فيمضيها في أوقات الموسم.
وفي أواخر العهد الذي ندرسه -حوالي القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجري- كانت أوامر الخليفة ترسل من طريق الوالي في مصر ليبلغها إلى الأمير في مكة أو ينفذها بقوة من عسكره المرابطين في مصر ولهذا وهم بعضهم عندما حسب أن مكة كانت تتبع الوالي في مصر والواقع أن أمراء مكة كانت علاقتهم بالولاة في مصر علاقة العميل بالوسيط الذي يثق فيه الخليفة ويقدر عنصره التركي كما أسلفنا في صدر هذا الفصل.
ولا يستطيع الباحث إذا أراد أن يحصي ظروف الاستقرار والاطمئنان في مكة طيلة هذا العهد الذي نؤرخه أن ينتهي إلى نتائج سارة لأن مكة بقيت معرضة لسلسلة من الفتن يعز حصرها وتعدادها ولعلّها لم تهدأ ولم يقر لها قرار في غضون ذلك نحو ثلاثة قرون إلاّ مدداً قصيرة متفاوتة لم يزد مداها في أطول الأوقات عن عشر سنين إذا استثنينا العهد الذي كان يحكمه بركات وابنه أبو نمي الثاني وحفيده حسن وهو عهد لا تزيد مدته عن 80 سنة.
تمثيل أجنبي: في أواخر هذا العهد عرفت البلاد التمثيل السياسي الأجنبي فقد وصل أول قنصل إنكليزي إلى جدة في عام 1216 لمباشرة أعمال القنصلية فيها فاتخذ داراً خاصة بذلك رفع فوقها راية البريطانيين لأول مرة في تاريخ التمثيل السياسي الأجنبي ولم يكتمل القرن حتى تعدد التمثيل في جدة وأصبح للفرنسيين والروسيين قناصل في جدة (1) .
لم يتسع عمران مكة في أوائل العهد العثماني كثيراً عما كان في عهد الشراكسة. فإن القطبي وقد عاش ردحاً من صدر العهد العثماني الأول ومات في عام 988 ذكر في كتابه الأعلام ((أن مكة كان مبدؤها المعلاة ومنتهاها من جهة المسفلة قرب مولد سيدنا حمزة لصق مجرى العين حيث تنزل إليه من درج ويقال له ((بازان)) (2) ونهايتها الشبيكة من جهة جدة وعرضها من وجه جبل يقال له الآن ((في عهده)) جبل جزل بكسر الجيم وفتح الزاي وتشديد اللام قد سماه الأزرقي جبل الأحمر وهو يشرف على قعيقعان (3) وقد سمي جزلاً نسبة لطائفة من الجند كانت تلعب فيه بالطبل ويظهر أن السور الذي بناه قتادة حوالي القرن السادس لم يعد له وجود في هذا العهد لأن القطبي يذكر أن مكة في عهده لم تكن مسورة ثم يشير إلى أنها في عهده أصبحت عامرة بالسكان بعد أن كان في صباه يرى الحرم الشريف والمطاف خالياً من الناس ولا بد أن صباه كان في عهد سليم الفاتح ثم يقول إن شيخاً معمراً من أهل مكة صدوقاً عندما أخبره بأنه ((شهد الظباء تنزل من جبل أبي قبيس إلى الصفا وتدخل إلى المسجد ثم تعود لخلو المسجد من الناس وأنه كان يرى سوق المسعى وقت الضحى خالياً من الباعة ويرى أهل القوافل يأتون بأحمالهم من بجيلة فلا يجدون من يشتري منهم جميع ما جلبوه وأن الأسعار كانت رخيصة جداً لقلة الناس وعزة الدراهم)) انتهى ما يقوله القطبي عن شيخه المعمر ولا أستبعد أن يكون المعمر عاش في أواخر عهد الشراكسة، ثم يقول القطبي: أما الآن فالناس كثيرون والرزق واسع (4) .
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :417  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 159 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج