الرسالة التاسعة عشرة |
ـ ((الساعة تتخطاني، وجفوني مليئة |
بالعصيان، لكن... عندما ألقي السلاح، |
سأكون قد أخذت حصتي مترين من |
التراب، وربما بعض الأزهار))!! |
|
ـ سيدتي: |
لم يعد للعالم تاريخ يذكر ((الواقع)).. بل هو عالم التجني على ما وقع، وتزويره، وتجليطه! |
لم يعد للعالم تاريخ يتأسى به ((الواقع)).. أو ينفعل لإرهاصاته التي كانت. |
إننا اليوم - كبشر - نبحث عن الصناعة الجديدة! |
إننا نصنع كل شيء... حتى عواطفنا (!!). |
لم يبق إلا ((المتعبين)) بفكرهم.. يتخبطون في رمال الإلحاح المتزايد على كل الأشياء.. دفعة واحدة! |
إن الإنسان اليوم مُتعب.. فالذي يعطيه، يهوي غداً في خندق النسيان. |
إن العبارات المحفوظة الآن.. قالها: اللصوص، والمنهزمون، والأمَّعات، وذوي الصدور الهشة! |
أولئك الذين باتوا في زماننا هذا يسخرون من عواطف الإنسان، ومن نقائه، ومن نظافة معدنه، ومن استقامة سلوكه! |
أكثر الفضائل.. باتت تهمة، ومن تلك الفضائل: الحب! |
و.... تهمتي معك: الحب.. وهو أيضاً ((فضيلتي))! |
وقد سميتك: ((إنسانتي)) بذلك التفوق الذي بلور إصرارك على نماء المعاني بيننا.. تجاوزاً لكل سلبيات الماديات والغرائز، وأبيت إلا أن تكوني ((الإنسانة)).. بكل الروعة في معانيك، وبكل التناقضات في أنانيتك! |
إن ((الإباء)) لم يأخذ من الوفاء شيئاً.. لأن كمال الخلق، قد كسا جمال ((الخَلْق)): خُلقاً جديداً.. يتزاوج فيه الإباء مع الوفاء. |
تلك المعاني - يا سيدتي - كانت أقوى من كل محاولات وقيعة الخصام الدائم بين انفعالي، وغيرتي، وخوفي عليك.. وبين غضبك، وغيرتك، وإصرارك على الامتلاك التام! |
كأنما مشاعرك في كل موقف.. تصبح البلسم على الجرح والحزن. |
وحينما أسترجع كل موقف معك.. أراه عمراً متكاملاً. أما الفترات التي مضت من الوقت، فقد كانت حيلة على الزمن، وإذا هي اليوم: حلية الزمن.. كأنما حبنا قد تعتّق، ليعيش حياة لحياتي بالوفاء!! |
وهل حياتي إلا أنت؟! |
الدمعة أعادتني اليوم.. في هذا المد والجزر، ما بين الحلم بلقياك، والشقاء في البعاد عنك.. ما بين التوق إلى احتضان وجهك/الضوء، والعطش في غربة وجهك عني! |
أعادتني الدمعة.. لعلّني أجد الابتسامة من مخاضها: حياة للوفاء، أو سماحة باللقاء. |
فأنت - يا حبيبتي - ما كنت البعيدة بُعد السفر وفيه، ولأنك ما زلت القريبة قرب ((الإسفار)) الذي يضيء حياتنا. حين ينطلق السجين من سجن العتاب والوحدة.. إلى انطلاقة الحب، الذي هو: أنا.. بك !! |
* * * |
إن عينيَّ.. تقف رموشهما على شرفة الشروق.. أستقبل فجر يوم جديد! |
مطلوب أن لا أتلفت خلفي.. أن أنسى ما صنعته بالأمس، فالكل لا يبقى، والكل لا يذكر.. أو أنه لا يريد أن يذكر، والكل يتخلّى، والكل دعسته ((الحوزة!)) حتى تجسدت الخرافات النفسية، والأخطاء العقلية! |
فأين الصباح.. أين الليل.. أين السهر.. أين الروح.. أين المطلب الحقيقي؟!! |
يقول الحكيم الصيني ((لاوتسي)): |
ـ ((إن كل ما في الطبيعة من أشياء، تعمل وهي صامتة، وأنها لتوجد وليس في حوزتها شيء، وتؤدي واجبها دون أن تكون لها مطالب.. وكل الأشياء على السواء: تعمل عملها، ثم تسكن، وتخمد))! |
إني أتناول عشقي - في هذا الزمن - كجرعة الدواء.. والحياة: جارحة ومجروحة! |
إن العشق: حقيقة الأهداف، ولكنه قد تمركز لفظاً مدبّباً، يدمي، ويوخز، ويوصف بالعيب! |
إن العشق: إنسانية الحضارة، وقد علمنا هادي هذه الأمة كيف نشرئب إلى إنسانيتنا، فقد روى ابن مسعود: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من فجع هذه بولدها؟.. ردوا ولدها إليها! |
ونسينا هذا التهذيب.. صدئت جوارحنا، فبتنا نذبح عشقنا، واللون الأحمر لم يعد اهتمام الثيران وحدهم، لقد نسينا ما يعتمل في داخلنا، وأخذنا نصفق لمصارعي الثيران.. لأن الحياة حلبة واسعة، ومن يستطيع أن يقف، ويحاور، ويصمد.. ينسى الباب الأول الذي دخل منه.. لأنهم أخرجوه من باب آخر!! |
* * * |
لماذا - سيدتي - أحدثك عن العشق، والذبح، ومصارعة الثيران؟! |
هل تصفينني بالتناقض، أو بعدم التركيز؟! |
ربما... ولكن ((العشق)) الذي أعنيه هنا: الحياة بكاملها. الحياة بك أنت حبيبتي، والحياة التي حوّلها نقاء ((الحداثة)) إلى تشريح عضوي، وعملية حسابية.. حتى وهم يتحدثون عن معاني قصيدة!! |
أرأيت... كيف تتناغم المتناقضات في زماننا هذا؟! |
أريد أن أقول لك: إنني صرت أحبك أكثر. أعشقك حتى الوريد.. ولكني لا أعرف كيف أصفك!؟ |
حنانك يتدفق حيناً، حتى يروي كل ذرة رمل في كياني، ويحيلها إلى نبتة حياة! |
وغموضك يتلوّن حيناً.. حتى أخاف من الشك يفتك بصدق ما بيننا! |
ومن حولنا: الظروف، والقوالب، والالتزامات، والحدود.. وفي داخلنا: اللهب، والجنون، والضوء، والغناء! |
لقد سئل فيلسوف حديث، أو كما أسميه: ((فرّوج)) فيلسوف، فقيل له: |
ـ هل أنت عاشق... إذن صفها لنا؟! |
ـ قال: تريدون مني أن أنسى عشقي لها، وعشقها لي؟.. إن الأسئلة معناها: أن ننسى ما قبلها من أجوبة! |
((إنني عاشق، ولكن نفسي مليئة بالغضب والوجع. |
إنني أحسد الناس.. أكره الناس، لسبب واحد فقط: إنهم يقفون دائماً ليسألوني! |
إنني عندما ارفع نظري عن عشقي.. أصير أعمى))!! |
رددت بعده بعفوية، وجاذبية إلى كلمته الأخيرة: |
ـ نعم... إنني عندما أرفع نظري عنك - أنت عشقي - أصير أعمى!! |
إن العشق روح.. والنسيان مادة! |
إن الكون كله يحفظ ذخائره.. والناس ينسون مواضعها! |
إن البشر.. هم الذين ينكرون، ويتناسون، ويجحدون.. لأنهم يخافون من استمرارية ((الشيء)) فيهم، أو حتى لهم! |
ولست أدري.. لماذا يصر الناس اليوم على النسيان؟!! |
ينسون الحب. ينسون الصداقة. ينسون وشائج الدم والقربى! |
كأن الناس يفرون من الالتزام.. من الارتباط.. من الوشيجة.. يفرون حتى من دقات ضلوعهم، وخفق قلوبهم!! |
فهل هو زمان ((القنص))؟! |
إن الذين يفرحون.. يلتهمون لحظة الفرح كلقمة الأكل، فكأنهم يأكلون شبعهم بغرور اللحظة السعيدة! |
إنهم لا أكثر من: ((دوافع اجتماعية)) تتضخم، فتصبح عادة عاطفية!! |
لقد قيل: ((إن الذي يعطي.. هو وحده الذي يملك))! |
والبشر - يا حبيبتي - أصبحوا يأخذون دون عطاء.. ثم لا يملكون شيئاً. فيهرعون إلى النسيان! |
كأن النسيان لديهم.. هو: شجاعة التفريط.. وهو جرعة مهدئة بعد الفقد! |
* * * |
فهل تتهمينني - يا سيدتي - بعد ذلك كله بالنسيان؟! |
أم أتهمك أنا بالتفريط في ((فضيلتي)) معك.. التي اسمها: الحب؟! |
لا أطيق أن أتخلى عنك.. لا أقدر أن ((أحيا)) وأنت تهجرين قلبي، فكيف ((أمارس)) النسيان بحقك، ونسياني لك: موت لروحي، ونسيانك لي: طعنة في كبد هذا ((العهد)) الذي التحمت عليه كفانا، وتوحّد به قلبانا؟! |
أنت - يا سيدتي - الواقفة ما بين الأمنية والتجربة: |
لماذا تلومين اغترابي.. عندما يجرؤ تأملك أن يمزق الحلم، ولا نعرف من منا: الجاني، وكيف كانت الجناية؟! |
لا أريدك أن تسكبي الثلج فوق توهجي، ولا أن تلوي عنان الجواد وتطلقينه في البيداء! |
أنت ((تعمّرين)) داخلي.. فكيف لا يكون غيابك غربة.. وكيف لا يكون حضوري شجناً؟! |
لقد أضناني التلفت.. وفي كل عام جديد، أجد يوماً حزيناً أحتفل فيه بغربتي، وأطفئ شمعة أخرى! |
ترى... كم شمعة بقيت؟!! |
|