شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (1)
مع الاعتذار للكاتب الأمريكي جون شتاينبك
في استعارة عنوان قصته (عناقيد الغضب)
لم يبرح ذهنها ومشاعرها أن المبررات التي سردها، وظل يكررها أبوها عن ضرورة الاستغناء عن حفلة الفرح بزواجها من هذا الشاب الوافد من أبناء البلاد العربية لم تكن مقنعة أبداً حكاية أنه لا يزال طالباً، ولم يمض على وفاة أبيه شهور، والتقاليد في بلاده تستكثر قيام حفلات الزفاف في مثل هذه الظروف... وهو من أسرة كبيرة معروفة شديدة التعلق بهذه التقاليد... كان كل ذلك في تقديرها مجرد كلام اقتنع به أبوها أو فضل أن يقتنع به وأن يوافق على زواجها منه، هكذا بدون أي نبضة فرح أو إيقاع زفاف، ربما... ربما لأنها قد شارفت الخامسة والعشرين من عمرها ولم يتقدم لها أحد، بينما تزوجت بنت عمها... وبنت خالها... بل وغيرهما من بنات الجيران... ثم لأن هذا الوافد، كما قال أبوها وهو يعدد مزايا شخصيته يواظب على الصلاة في أوقاتها، ولا تفوته صلاة الجمعة في مسجد السيدة، ولا يحب التظاهر بالفخفخة والوجاهة، رغم أنه من تلك الأسرة المعروفة في مكة بالوجاهة والثراء. فهو من وجهة نظر الأب خير زوج - وسوف تكون هي معه أسعد زوجة... يكفي أنها ستقيم معه بجوار بيت الله الحرام... ستشاهد الكعبة التي يحلم بيوم مشاهدتها جميع من عرفتهم من أصدقاء أبيها، بل وجميع من عرفتهن من صديقات أمها... وهي لا تنسى- كلما جاء ذكر الكعبة في الأيام القليلة التي سبقت عقد الزواج - في أحاديث أبيها عنه - أن أمها خلال أيام مرضها كانت تكرر وعيونها مغرورقة بالدموع أن أول ما سوف تقوم به عندما تبرأ من علتها هو السفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والسلام على رسول الله... ثم تناديها لتحسب معها، للمرة العشرين، التكاليف... فإذا انتهت وعرفت المجموع تهتف وهي تئن وتتوجع (خلاص... الفلوس موجودة... وبلاش يختي حكاية الكابينه في المركب... كلها ثلاثة أيام... وهواء البحر يرد الروح، ولكنها لم تشف من علتها التي قالوا إنها أكلت أو مزقت الأمعاء... ماتت وحتى اللحظة التي أسلمت فيها الروح... كانت تردد الصلاة على النبي... وتتحدث عن مكة وبيت الله، وما دامت قد تزوجت هي هذا الوافد من مكة وبيت الله فلا شك أن الله أراد لها الخير... والاستغناء عن حفلة الفرح البسيطة التي كانت تحلم بها طوال أسابيع الخطوبة، شيء مؤلم وغريب، ليس عندها فقط، وإنما عند ابنة عمها وابنة خالها، وبنات الجيران وحتى زميلاتها المدرسات في مدرسة البنات التي كانت تدرس فيها فن الرسم في السنة الرابعة - ثقافة عامة -، حتى هؤلاء الزميلات، لم يخفين دهشتهن، وإحداهن التي تزوجت منذ عام، قالت: (دي حاجة غريبة... ده بابا أستلف خمسين جنيه عشان الفرح... وبرضه كانوا بيقولوا إنها على قد الحال). ولكن الأمر قد انتهى الآن، فقد تم العقد.، وحتى الدخول بها في غرفة من غرف بيتها، لأن زوجها كان يسكن غرفة في بنسيون في ميدان لاظوغلي ... ولم توافق صاحبته أن تسكن معه زوجته في نفس الغرفة... لأن النظام يمنع ذلك... ولا تدري كيف وافق أبوها حتى على أن يدخل بها في غرفتها في الشقة... قال إن الرجل وافد، وهو سيسافر بعد أسابيع قليلة... وحين تصل مكة، ستجد نفسها في بيته الكبير... وفي أفضل غرفة في هذا البيت... وحتى الأثاث الذي تعلم أن الأب هو الذي يشتريه في العادة... قال زوجها إنها لا تحتاج إليه لأن كل شيء موجود في مكة، وعلى مستوى أين منه هذه الموبيليا (التعبانة) في مصر وغير معقول أن تنقل أي قطعة أثاث من القاهرة إلى مكة.
أما الصداق فقد رأى أبوها، أن لا يزيد مقدمه على خمسين جنيهاً دفعها الزوج قبل حضور المأذون، والمؤجل مائتان وخمسون جنيهاً سجله المأذون في العقد وقال زوجها يخاطب أباها ساعة كتابة العقد... (اكتب ومع المئتين والخمسين جنيهاً جارية ثمنها مئة وخمسين جنيهاً ذهباً)... ولكن المأذون رفض أن يكتب شيئاً عن الجارية... لأنهم في مصر ممنوعون من امتلاك الرقيق...
لم يبرح ذهنها ومشاعرها شيء من هذه الذكريات في اللحظة التي أخذت تمشي خلفه في ممر الباخرة التي تبحر بهما إلى جدة. لم تنس حكاية الكابينة التي كانت أمها تسقط أجرتها من حساب رحلة الحجاز توفيراً لبعض المال الذي رصدته لهذه الرحلة، لم تكن تشك أنها وزوجها يرتفقان هذه الكابينة ولم يدر بخلدها قط أنها معه ستكون من ركاب السطح المكشوف. سمعته يتساءل عن المكان الذي يجلس فيه معها وسمعت البحار المسؤول يقول (عندك اهو تعد مع الناس اللي آعدين هناك) وكلمة (هناك) هذه كشفت لها أن زوجها يوفر أجرة الكابينة وقد ارتضى أن يسافر معها على السطح كهؤلاء الذين تجمعوا هنا وهناك في العراء أو تحت مظلة من القلع.
لم تجرؤ أن تسأله أو أن تعترض، فالتجربة جديدة عليها وهي ما تزال تصدق أنها زوجة شاب من أسرة واسعة الجاه والثراء.
كانت الأيام الثلاثة في مكانهما على سطح الباخرة جحيماً بالنسبة لها ليس فقط لأنهما كانا عرضة لنظرات الغير المتطفلة، وليس لأن زوجها كان يخرج من جعبته أو حقيبته البيض المسلوق والخبز والجبنة وبعض الأحيان علبة البولبيف ثم يسرع إلى هذا الجار أو ذلك لطلب أطباق يضع فيها هذه المأكولات، وإنما كان ما روّعها وهزّ مشاعرها وأثار مخاوفها طريقته في تناول الطعام إذ كان يستعمل يده دون أن يفكر في استعمال ملعقة أو شوكة أو سكين، وليس هذا فقط وإنما طريقته في التهام الطعام جعلتها تتذكر بعض أولئك الفلاحين الذين رأتهم أكثر من مرة يتناولون طعامهم على الرصيف أمام العمارة التي كانت تسكن إحدى شققها، وكان الجحيم حقّاً هو النوم في الليل... فقد كان يصر على أن تقترب منه وأن تلاصقه وأن... فإذا دفعته عنها يصفعها على وجهها صفعات خفيفة ولكنها تظل صفعات على كل حال... بل ومن هذا الجحيم أيضاً ما كان يحرص على أن تتمسك به من التستر عن أنظار الغير ليس فقط بإسدال الحجاب على وجهها وإنما بأن تدير ظهرها لتواجه الجدار فإذا حدث أن اضطرت للالتفات يمنة أو يسرة فما أسرع ما ينتهرها بنظراته ويكاد يهم بمد يده ليصفعها أيضاً... أما قضاء الحاجة بالنسبة لها فقد كان ذروة العذاب.
وانقضت الأيام الثلاثة وتراءت مدينة جدة أمام ركاب الباخرة وأخذ هو يأمرها أن تجمع المتناثر من أغراضها في الحقيبتين ويكرر، أن عليها أن تسدل الحجاب على وجهها حين يهبطون إلى أرض الميناء... وعلى أرض الميناء بعد تفتيش الجوازات والجمارك رأت الذين ينتظرونه وسمعته يقول لها (انظري هؤلاء إخواني فلا تنسي أن تكوني مؤدبة وأنت تتحدثين إليهم).
كان إخوانه هؤلاء لا يختلفون عنه في ملامحهم وسمرتهم الحادة وعيونهم الجاحظة وكل ما يختلف فيه هو عنهم أنه كان يرتدي البدلة الإفرنجية بينما كانوا هم يرتدون ثياباً وعلى رؤوسهم هذه الأشياء البيضاء التي لم تكن طرابيش ولا قبعات وإنما هي (الكوفية) كما عرفت اسمها فيما بعد.
ذهلت حين سمعت رجلاً مع إخوانه هؤلاء تجاوز الخمسين من العمر يقول له: أسمع... ابنتي لا تسكن مع الطبينة... شوف لك بيت تسكن فيه مع هادي اللي جايبها معاك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1032  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.