شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وقفات مع الفن والجمال والحب- آراء في الفن والجمال
كان الفن في جميع عصوره بعيداً عن الطبيعة، وهذا الابتعاد يقل أو يكثر بالنسبة لمزاج الفنان ومؤثرات الحياة في طبيعة العصر.. فيكون انحراف الفنان دقة نظر وبعد بصيرة تجعله يبرز أشياء لا يراها غيره، أو يكون، محاولة للتنسيق بين التنافر، أو إيجاد التنافر في المنسق، بحيث يبدو التنسيق أو التنافر، عملاً من إحساس الفنان بالجمال الذي لا يراه سواه.
* * *
لكل فنان عالمه الخاص، وله زمانه الذي يفضل أن لا يعيش سواه.. ونجد ذلك واضحاً في ما ترك كبار الفنانين من روائع.. بوتشيلي مثلاً.. له عالم الفتوة والشباب.. بحيث لا نرى فيما ترك غير هذا العالم الذي ينبض حركة ونضرة وعنفواناً، ومع الفتوة والشباب، نجد زمانه الخاص.. هو الصباح.. والربيع.. والصباح فتوة الزمن، والربيع شبابه المتجدد الحافل دائماً بالعطاء.
* * *
لا يزال الفن سلعة تعاني انصراف الناس عنها.. ويكفي أن نرى كيف يزدحم دكان الجزار بالعملاء، لندرك أن مطلب المعدة لا يزال أهم ما يجهد البشر لتلبيته. ويبدو أن لا سبيل إلى التخفيف من هذا الجشع، إلا يوم يستطيع العلم، أن يقدم لك وجبة كاملة في (برشامة) لا تكلفك أكثر من بضع هللات.. يومها سيزدحم كل معرض من معارض الفن بالعملاء، والقادرين على الشراء.
* * *
من السهل أن يتفق الناس، على جمال وردة أو ورود في حديقة.. وعلى جمال بحيرة من بحيرات سويسرا.. ولكن ما أصعب أن يتفقوا على جمال الإنسان.. إذ الإجماع على أن إنساناً ما جميل، يندر أن يتم.. حتى بالنسبة لفينوس، فما أكثر من يرون أنها - وهي من صنع فنان - جمال
ركب تركيباً هندسياً دوعيت فيه المقاييس، ولن يخضع الجمال لمقياس.
وفي قصص الحب الكبرى، التي شهدها هذا القرن، كان الرجل يرى في المرأة التي ضحى في سبيلها بكل شيء، نوعاً من الجمال، لم يستطع أن يراه العالم.
وقد يرى العالم، أن إنساناً ما تتوافر له كل صفات الجمال.. ويظل هناك، من لا يرى من هذا الجمال مهما سطع وتألق..
* * *
الصدق الفني لا يقل نبلاً وشرفاً عن الخلق القويم.. كلاهما ينبعان من ينبوع واحد.. وهو ذخيرة شعورية تملأ الضمير، فتعينه على تأمل الحياة، ورؤية العميق المستور من أسرار جمالها وقبحها.. ومن هذا الصدق، يأتي العمل الفني الكبير.
* * *
كما تغيرت مفاهيم كثيرة، في المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية على الأخص، تغيرت أيضاً مفاهيم الجمال بالنسبة للذوق، وبالنسبة للفن أيضاً.. وإذا كان الجمال موضوع الفن الأصيل، فإنك تستطيع ان ترى الحد الذي بلغه تغير المفاهيم، حين يتاح لك أن ترى كيف تبدو قسمات المرأة (مثلاً) في الأعمال الفنية الحديثة..
* * *
نقد الفن.. يسهل على الكثيرين أن يمارسوه وكل سلاحهم أو عدتهم قدرة هزيلة على التعبير، وومضة من إحساس بمواطن الجمال في التعبير الفني.. وعلى حساب المحاولة الهزيلة في نقد الأكابر من رجال الفن والفكر يخدعون الكثيرين، وقد يرون أنفسهم في مستوى من التقدير يبنيه عوام الفكر من الذين لا يعجزهم أن يصفقوا لكل ناعق.. ولكن هنا الخطر حقاً.. إذ إن ذلك هو طريق الهاوية والاندثار.
* * *
مقياس الشعر، الذي يتم به تقييمه ووزنه وتقديره، عند أصحاب مدرسة الفن للفن.. هو مقدرته على التأثير في القارئ بطريقة عفوية.. تشبه السحر. وهم يشترطون في تقييم الشعر فناً للفن.. أن يتوافر فيه العنصر الغنائي أو الموسيقي.. ويقولون إن الشعر موسيقى.. تترقرق فيه مادة الصدحة من حنجرة، وجيد نافر، والشهقة من ناي يتكسر على صخب النار يبعثها حريق القلب.
* * *
الشعر فوق أساليب الكلام.. ولا ينبغي أن يخضع للتحليل اللغوي، أو لمنطق الفيلسوف، وحين تتوافر في الشعر خصيصة الصدق الفني، يمتنع على الترجمة والنقل إلى لغة أخرى، لأن لغته التي كتب بها هي وحدها القادرة على أن تحمل معانيه.
* * *
قالوا: للخط المنحرف جمال ناشئ عن معناه.. إذ يمثل الرشاقة والنعومة، ويعبر عن الحركة والتموج والالتفاف.
أما الخط المستقيم.. فما أسهل أن تكتشف سذاجته مهما امتد واعتدل..
* * *
في تعريف أفلاطون للجمال، إنه التناسق والاتزان والوحدة والانسجام، وعنده أن هذه الصفات، لا تقف عند الشكل أبداً، وإنما تتعداها إلى المحتوى.. إلى المعاني والأفكار..
وكأنه أراد أن يقول، إن الجمال كلمة مرادفة.. للفضيلة والطهر والعدالة والحق..
قد يخلو الشعر من العاطفة ويبقى مع ذلك من الشعر الرفيع، وشعر البحتري - على سبيل المثال - لا يستهويك بما فيه من عاطفة أو فكرة، وإنما بقدرته الرائعة على النحت والتصوير ورشاقة اللفظ وحسن النغم.
* * *
ألفاظ الشعر، لا بد أن يحسن الشاعر اختيارها، فيتوخى في انتقائها الجرس الحلو والرنة العذبة، والانسياب مع المعنى.. وهذا مع الابتعاد عن الوحش والمهجور من مفردات اللغة..
في تعريف للرشاقة قيل: إنها سهولة الحركة التي أساسها التوازن واعتدال الشكل، وفي تحديد - قد يرفض للوجه الجميل قيل: إنه البادئ المنبسط الأساس الذي تنعكس فيه نفس صافية، متزنة لا تؤثر في هدوئها أعاصير الحياة..
* * *
التوافق والتناغم، أهم أسس الجمال.
في الموسيقى، لا يدخل النغم قلبك، إلا حين تتلاءم الأصوات، وتأتلف، وتتلاحق الأنغام والمقامات، دون أن تبتعد عن المقام الذي تبنى عليه المقطوعة. في الرسم.. توافق الألوان والخطوط.. وليس التوافق رصفاً لألوان الطيف، وإنما هو القدرة على أن تجعل من التنافر توافقاً في الإحساس بالجمال.
وفي الشعر.. ما أشد ما يخسر فنه، إذا فقد القدرة على أن يعطيك تجربته في صدق وتناغم وتلاحم في موسيقى الكلمة، مع الفكرة والتجربة.
* * *
الظلال المحسوسة، ليس من يجهلها، ولذا فهي التي يستطيع أن يتلاعب بها الفنان فيما تبدعه ريشته من الأعمال.. ولكن هناك ظلال، تمتد في الذهن والتصور حتى لتراها عين التخيل العميق.. وتلك هي التي يعجز عن إظهارها فن الرسام مهما عظم.. وتطاوع الشاعر والأديب فيما يرسمه بالكلمات.
الترجيع، هو تناوب الكلمة أو الجملة الواحدة، في مقطوعة شعر..
ولكنه لا يقتصر على الشعر أو النثر، وإنما نجده في الرسم أيضاً، إذ قد تتكرر حركة الظل هنا، لتفاجئها حركة الضوء هناك،.. أكثر من مرة، فهو ترجيع اللون والظل وفي الموسيقى ما أكثر ترجيع الجملة الموسيقية الواحدة في الغناء العربي على الأخص، ولا تخلو منه الموسيقى الغربية، حتى في السيمفونيات الضخمة.
* * *
ليس تعدد الألوان والظلال وازدحامها فناً.. وليس البريق والتألق في رداء السهرة ذوقاً من أذواق الفن.. وليس تزاحم الأصوات وضجيجها في لحن من الألحان، عملاً فنياً، ولهذا، كانت الزخرفة المغرقة في التشابك عملاً يدل على ضيق الأفق، وكان رداء السهرة الذي يشتد فيه البريق والبهرج وتصرخ معه الألوان، ذوقاً بدائياً منفراً.. وكانت الموسيقى التي تتزاحم فيها الأصوات، دون توافق وانسجام، مجرد ضجة من حقك أن نصر على أن تبعد عنها أذنيك.
يقول المثال الأمريكي ديفيد سميث:
أنا لا أعمل بانتباه وتركيز راسخ حين أعالج إبداع تمثال.. إني أترك الباب مفتوحاً للتغيير وللجديد من التداعي فيما يتلاحق في الخيال.. ينبغي أن تتاح الفرصة للاحتفال بالقادم الجديد.. فجأة وعلى غير انتظار..
الضد يظهر حسنه الضد.. لا تزال هذه الحقيقة عماد الفن، فلا سبيل إلى الظل إلا بالضوء.. ولا قيمة للألوان إلا بتعانقها مع تباعد ما بينها من عناصر الألفة والانسجام ولا يرتاح النظر إلا إذا مالت الخطوط، وانحنت، وأخذ بعضها يلتف على الآخر.
ديفيد سميث، وهو فنان أمريكي، كان يبتكر أعماله الفنية، في تماثيل مصنوعة من الحديد. يعده النقاد أعظم فناني ((النحت)) في القرن العشرين.
ومما نشر عنه في نيويورك تايمس قول أحد كبار النقاد: (ليس هناك فنان ممن عاصروه استطاع أن يقدم كتلة من الأعمال الفنية توافر فيها التنوع في الخيال، والروعة في الصنعة، والتوفز في الإحساس، كما استطاع ديفيد سميث.. ومن أقوال ديفيد سميث:
حين أمارس عملي، فإن قافلة الأفكار في ذهني، ليس لديها كلمات تعبر عنها.. إن كل ما نقدمه هو المرئي المشهود.. فاللغة في هذه اللحظات، هي الصورة..
فنان العصر، كشاعره وأديبه، يواجه الحياة، وقد ازدحمت بالكثير مما طرق الأولون من مواضيع الفن، ومن المعاني، وهو بروحه الفنية، وبتطلعه إلى الأصالة، يحاول أن يجد الجديد، مما لم يسبق أن عولج، أو طُرق خلال القرون الخوالي.. ويندر أن يكون ذلك سهل المثال.. ومن هنا جاءت المدارس الحديثة التي ترفض كل ما عرف من القواعد والأصول وتصر على أن تبتدع الجديد الذي لم يسبق إليه.. ومن هنا أيضاً ظهرت الانتفاضة على الوزن والقافية في الشعر.. ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا يمكن أن يتمخض عنه هذا الرفض، إذا لم يتطور إلى شيء فيه النظرة التقليدية العريقة إلى الجمال.. والجمال كان وسيظل موضوع الفن.
* * *
كل فنان.. يؤكد أصالته، إذا استطاع أن يقدم عالمه الخاص..
والعالم الخاص الذي يراه الفنان.. قد يكون الألم والتمزق تحت أثقال الحياة، وقد يكون الفرحة الطافرة والبهجة الفائرة، وقد يكون التأمل الذي يذهب إلى الأعماق، في المنظور والمسموع، وفي خفايا النفس أو في انعكاس خفايا نفسه هو، على تفاعل الأضواء والظلال.
* * *
لا يوجد فن.. وإنما الموجود فنانون.. وكل التراث من كنوز الفن، ليس سوى أولئك الذين تركوا لنا على القماش، والمرمر، والبرونز، وفي بطون الكتب، وفي سمع الزمان، نفوسهم ومشاعرهم، أحزانهم، وأفراحهم.. آمالهم، وهزائمهم.. نجاحهم وفشلهم تركوا.. كل ذلك، لنا.. ودائع.. علينا أن نرعاها، ما دمنا على وجه هذه الأرض.
أقصى ما يصل إليه إعجاب الكثيرين، وهم يتأملون عملاً فنياً، أن يقولوا: ما أشبهه بالواقع أو (كأنه الواقع).. ولكن الذي يعاني التجربة الفنية ويدرك مراحل مخاضها، يرى في العمل الفني أكثر من المشابهة.. يرى روح الرسام، وانفعال وجدانه بالمنظور.
* * *
قد تكون لدى الفنان فكرة.. يشعر بها تهز أعماقه، ويبلغ من إحساسه بها أن يرى ألوانها وظلالها، ومع ذلك، يظل لها سراً أعمق من أن يدركه.. وإلى أن تبوح له بهذا السر، يريق على الكانفاه، الكثير، الذي يعرف أنه ليس هو السر.. ليس هو الفكرة التي يعيشها.. وتمضي الأعوام.. وفجأة.. تقول له الفكرة ها أنذا قد آن لك أن تراني على حقيقتي.. في هذه الفكرة وحدها، يبلغ الفنان القمة التي يظل يصعد إليها عبر الكثير من الألم والعذاب والمعاناة.
بالفن وحده نستطيع أن نخرج من أنفسنا ونعرف ما يراه غيرنا في هذا العالم.. ونحن عندئذ لا نرى عالماً واحداً، وإنما نرى عوالم لا حصر لها.. وبقدر ما يكون لدينا فنانون كبار، تكون لنا عوالم ويختلف كل منها عن الآخر.
أغرب المتناقضات في إنسان هذا العصر، أنه جريء إلى الحد الذي جعله يمشي على سطح القمر.. وجبان إلى الحد الذي يجعله يهرب من واقعه إلى الكثير من وسائل الهرب، ومنها ظاهرة الهيبيين على سبيل المثال.. يعمل للحرب والمواجهة، فيختزن ما لا يحصى من القنابل الذرية العابرة للقارات.. ويصرخ مطالباً بالسلام إلى الحد الذي تمتلئ فيه شوارع العواصم العالمية الكبرى، بنداءات السلام وشعاراته.
والفن مطالب بأن يعبر عن هذا الواقع.. عن التناقض في حياة العصر.. ولا يملك الفنان إلا أن يدعو للسلام في أغلب الأحيان.. ولكن الكثير من ألوان الفن الحديث، تعطيك بقتامها وظلامها، صورة من المآساة.. مأساة الحرب والسلام.
* * *
ليست هناك لغة في العالم، توافرت لها خصيصة الحرص على الجرس والنغم، والتوافق في مخارج حروف اللفظ، والانسجام بين كلمات الجملة الواحدة، مثل ما توافر للغة العربية.. ويظهر هذا أشد الوضوح في القراءة المنغمة.. حتى لتكاد اللغة العربية أن تكون الوحيدة بين لغات العالم التي يسهل تلحين وتنغيم أي نص من نصوصها شعراً أو نثراً.. حتى ولو كانت لغة الصحف في هذه الأيام..
يصعب على الفنان الأصيل أن يحدثك عن فلسفته فيما تبدعه ريشته، لأنه لا يبدع من مركز الوعي، وإنما من أعماق في ضميره ووجدانه، قد يعجز هو نفسه أن يدرك مداها ولذلك، فالناقد الفني، الذي يتجرد من العوامل التي يخضع لها الفنان، هو الأقدر على أن يدرك فلسفة الفنان.
الوعي واليقظة في تناول الموضوع الفني، قد يكونا عقبة في طريق الإبداع، إذ ليس الفن عقلاً وإنما هو انسياح مع المشاعر التي كثيراً ما تكون غامضة، لا يدري عنها عقل الفنان شيئاً ولكن وجدانه ودنياه أو عالمه الداخلي هو الذي يوحي بها، ولذلك، فالقاعدة والأصول ليسا كل شيء بالنسبة لعمل الفنان.
يقول الياس أبو شبكة: الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة.. وعندي أن الشعر يهبط مرتدياً ثوبه الكامل.. وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ.. وبقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق والموسيقى في روحه ووجدانه، يكون البيان راقياً في شعره.
أقصى ما يصل إليه إعجاب الكثيرين، وهم يتأملون عملاً فنياً، أن يقولوا: ما أشبهه بالواقع أو (كأنه الواقع).. ولكن الذي يعاني التجربة الفنية ويدرك مراحل مخاضها، يرى في العمل الفني أكثر من المشابهة.. يرى روح الرسام، وانفعال وجدانه بالمنظور.
المكان - طولاً وعرضاً وعمقاً - هو مجال الفن التشكيلي.. لا سبيل إلى لوحة تنطلق من قيد المكان.. والضوء قيد آخر، إذ لا سبيل إلى رؤيا دون ضوء.. ومع ذلك فإن الفنان كثيراً ما يحاول أن يجمد الزمن في موضوعه.. فترى اللوحة، وسرعان ما تدرك أن الزمن الذي سجله أو جمده الفنان، هو الفجر أو الظهيرة أو الغسق.. أو حتى الليل والقمر بدر.. والنجوم والكواكب تتلألأ وتتألق.. وبذلك يستطيع أن يستسلم لقيد المكان، وأن يقيد هو الزمان.
* * *
حين يشرع الفنان في دفق ألوانه وظلاله، والشاعر في صياغة معانيه، والموسيقار في كتابة ألحانه.. لا يستهدفون مستوى معيناً من الثقافة والفكر.. وإنما كل هدفهم إبداع الصورة الجمالية كما يرونها وكما تمتد لها الأشعة في ضمائرهم.. ومن هنا، كان الفنان الأصيل أبعد الناس عن تعلق الجماهير.
* * *
تولوستوي، مؤلف قصة آنا كارانينا يعرف الفن فيقول: (يمر الفنان بتجربة تثير في نفسه شعوراً معيناً ثم يعبر عن هذا الشعور، إما بالحركات أو الأصوات أو الألوان، أو الكلمات والأوزان، فالفن نشاط إنساني وجداني يعبر عنه الفنان تعبيراً واعياً، وهو بهذا يوصل أحاسيسه التي عاشها وجرّبها إلى الغير.
الجمال هو النعمة التي تفسر لنا معنى الخلود.. ليس لوناً، ولا مقاييس، ولا شذى ولا تناسق.. كلا.. وإنما هو مفهوم يبلغ من وضوحه أن يتعذر عليك أن تعرف كنهه.. هو غموض الوضوح.. وهكذا الخلود الموعود.. إنه كون لا حصر له ولا حدود.. وحده هو الذي لا يطوقه الزمن، ولا يحاصره مكان..
* * *
الغموض الذي أصبح من بعض سمات الفنون، ومنها الشعر، في العصر الحديث، ليس شيئاً أو ظاهرة عفوية.. إنه في حد ذاته فن.. إنه القدرة على أن يعطيك الفنان ما يشبه الأجنحة التي لك أن تحلق بها لترى عوالم وأكواناً، يجوز أن لا يكون الفنان نفسه قد رآها، ولكن الإبداع هو في قدرته على أن يجعلك تراها.
* * *
ليس للكون حدود يحيط بها أو يتسع لها عقل الإنسان.. ومع ذلك، فإن الانطلاق على أوسع حدوده أو إلى اللا محدود، يعتبر في حد ذاته إحاطة.. غامضة دون شك، ولكن الغموض مسرح للخيال.
وكون الفنان شيء من هذ القبيل.. إن عالمه كون لا حدود له.. التفاتة عابرة تكشف له ما قد يبدو مهولاً لمن يراه، ولكنه المعلوم الحقيقي بالنسبة له.. والقدرة على رصد ما كشفته له هذه الالتفاتة العابرة، هي التي تكشف بدورها عن أصالته، وعن قوى الإبداع فيه.
* * *
يتعذر أن يلغي الفنان ذاتيته لينصهر في المجتمع ويذوب فيه..
وقد يأخذ عليه النقاد انفصاله عن الواقع في مجتمعه، ولكن ذاتيته نفسها تمثل في الواقع حرية الفن.. ولا حياة للفنون، بين الجدران وراء القضبان التي يقيمها الالتزام.
* * *
الشجرة العجوز، كم واجهت من عواصف الشتاء.. وكم هبت عليها نسمات الربيع.. بكت فتساقطت أوراقها الخضر في الخريف.. وضحكت، فسطع على أغصانها الورق والزهر ولكنها لم تتكلم قط.. ظلت تلتزم الصمت.. وجاء الفنان.. هو وحده الذي فهم أشجان الشجرة العجوز.. هو الذي أوغل في أعماقها.. في ما وراء لحائها، وفي ما تحت جذعها من جذور.. وبريشته وألوانه، أراق مشاعر الشجرة العجوز.. جعلها تقول ما لم يسبق لها أن قالته قط.
* * *
الفرق كبير بين فنان ينتزع مواضيع عمله الفني من واقع مجتمعه كما يراه ويراه غيره حتى من عابري السبيل، وفنان ينتزع نفس المواضيع من هذا الواقع، كما يراه ولكن في محاولة جادة التعمق هذا الواقع واكتشاف احتمالات تطوره عبر الزمن.
قد يسمى هذا الفنان ناقداً.. ولعلّ نقاده يضيقون بطموحه، ولكنه يظل طاقة وحافزاً، يحتاجهما المجتمع ليخطو نحو غد أفضل.
* * *
الفرق بين الفنان، وبين غيره من الناس.. إن الفنان يرى الجمال وينفعل به، ولا يملك إلا أن يعبر عن هذا الانفعال.. بينما غيره يرى الجمال، وينفعل به، فلا يفعل أكثر من أن يسقط فكّه ذهولاً.
* * *
الجمال، توليفة من أشياء، في الجسم الإنساني، أعضاء وملامح وقسمات، وفي رؤى الطبيعة ألوان وأشكال وما لا يحصى من التكوينات، في الشجر، وفي الرمل، وفي الصخر.. وحتى في الجوهر، لا بد من هذه التوليفة، بين اللون والبريق والتوهج والإشعاع.. ويستحيل أن يتم معنى للجمال، بدون هذا النوع من تجمع المختار من الكثير الكثير.
* * *
أعجب ما في الحياة، أنها لا تعنى بشيء عنايتها بظاهر الأشياء.. يمكن أن نقول بالأديم والغلاف الخارجي.. وهي تعنى به متوخية عناصر الجمال في التشكيل خطوطاً، وفي التنسيق ألواناً.. ويحار الفكر في تلك القدرة الإلهية المبدعة، التي تفوق كل مستوى من مستويات العبقرية، في الملاءمة بين الشكل واللون، وبين الألوان في تعددها مع تلاؤمها.. ولكثرة ما يلاحظ من تكريس العناية بالظاهر، أو بالأديم، يكاد المرء أن يذهب إلى أن كل أجهزة الحركة والحس والتكوين إنما كانت - في الإنسان والنبات والحيوان - لتبدع شيئاً واحداً هو الجمال..
* * *
تذوّق الفن ظاهرة تستدعي الكثير من الدرس.. وتعمق دراستها يؤكد أن الإنسان مجبول على تعشق الفن.. وإلا فما الذي يجعل الطفل في الثانية أو الثالثة من العمر، يهتز للنغم ويهش بالألوان، ويصفق حين يرى أمواج البحر تضحك بين ناظريه؟
* * *
فينوس التي أعتبرها تاريخ الفن صورة متكاملة للجمال، ربما إلى آخر الثلاثينات من هذا العصر طرأ على النظرة إليها الكثير من التغيير.. إذا اتجهت مفاهيم الجمال، إلى ما اتجهت إليه طبيعة العصر.. فالقامة الفارعة مثلاً.. حلت محلها القامة المائلة إلى القصر والجيد الأتلع الممتلئ، أصبح لا يستلفت النظر، بقدر ما يستلفته الجيد المتداخل الذي كاد لا يظهر إلا بالمبالغة في تقصير الشعر.. والقسمات المتناسقة، يندر اليوم أن تستحق تلك النظرة التي تنالها قسمات لا تدري ما الذي فيها، ولكنك، محمول على أن تشعر بأنها جميلة.. ترى.. ما الذي لا يتغير أو يمكن أن لا يتغير، مع إصرار إنسان العصر على أن يغير من نظرته إلى الأشياء.
* * *
مشاكل السياسة، وقضايا المجتمع، في سبيل غد أفضل.. كلها جديرة باهتمام الفنان.. ولكن لا يعاب فنان يهتم بمشاعره الذاتية.. بالجمال والحب مثلاً.. إذ الحياة لا تكتمل إلا أن يكون فيها من مشاكل القلب، بقدر ما فيها من مشاكل السياسة والصراع.
* * *
العمل الفني الأصيل، يحتاج لفهمه إلى وقت، لأن الأصالة فيه هي العمق وبعد الغور ومن هنا كانت ولا تزال كارثة الفنان الأصيل، الذي يتعلق به أدعياء الفهم من النقاد.
* * *
مشكلة الفنان في هذا العصر، أن الحياة من حوله قد ازدحمت بما لا يسعه الحصر من نتاج الفكر، حتى لكأن الدنيا كلها قد أصبحت قرية صغيرة، ليس أسهل من أن تمر بها لترى كل ما تدفق به عقل الإنسان.. فلا سبيل إلى السبق في الابتكار والإبداع. ومن هنا أصبح معيار العبقرية من الدقة والحساسية، بحيث لا يحقق وزناً إلا لنوع من النبوغ يتعذر أن يتكرر، أو أن يتاح له الظهور، إلا للواحد في عشرات الملايين.
* * *
من النقد المعاصر للشعر العربي رأي لا ندري كيف يقابله شعراء المدرسة التقليدية القديمة.
قال الناقد:
القصيدة العربية القديمة ليس لها مخطط.. والشاعر العربي صياد مصادفات من الطراز الأول، فهو ينتقل من وصف سيفه إلى جمال حبيبته، ويقفز عن سرج حصانه إلى حضرة الخليفة بخفة بهلوان.. وما دامت القافية مواتية والمنبر مريحاً فكل موضوع هو موضوعه وكل ميدان هو فارسه..
أما الشاعر العربي في العصر الحديث.. فاللغة لديه ليست غاية بحد ذاتها، ولكنها مفاتيح إلى عالم أرحب وأبعد، وقيمة الحروف تكون بقدر ما تثيره حولها من رؤى وظلال وبقدر ما تبعثه من إيحاءات.
* * *
خرافة أن يقال إن الألم هو الطريق إلى مخاض فني متكامل.. تلك فكرة علقت بأذهاننا حين كان الجهل، وانعدام القدرة على تقييم العمل الفني خصيصة شائعة في حياة الإنسان.
تلك العصور.. أما بعد أن تفتح الذهن، وبعد أن تألق نور الحرف في حياة الناس فالطريق إلى المخاض الفني المتكامل، هو التفاعل القوي والنشيط، مع الحياة.
* * *
قد يتقن الصانع صنعته، فيستطيع مثلاً أن يجيد صنع منضدة أو كرسي، كما عرف من نماذج المناضد والكراسي.. ولكن هذا لا يجعله فناناً.. ولن يدخله رحاب الفن.. لأن الفن إلهام وإبداع يرتكزان على رصيد ضخم من تراث الفكر، وعطاء الحضارة، وكنوز المعرفة..
الفنان هو الذي يصنع النموذج الفريد، والصانع هو الذي ينفذ ما يبدعه خيال الفنان.
* * *
الجمال مطلب حضاري، وهو الحافز العريق الذي ظل يهيب بالإنسان إلى تطلب الأفضل والأكمل.. والأفضل والأكمل من أهم عناصر الجمال.. تقول من الشيء المصنوع بإتقان وتكامل، إنه جميل، حتى وإن كان مفهوم الجمال من لون وألق ورونق وبهاء ليس مما يتوافر في هذا الشيء المصنوع.. والحضارة، حتى بمفهوم التكنولوجيا في هذه الفترة من القرن العشرين لا تزال تلهث وراء الجمال.. لأنها تتطلع إلى التكامل في كل ما تبتكره من أشد الأجهزة والآلات تعقيداً.. وما دام هذا الحافز موجوداً في طبيعة الإنسان، فإن اليوم الذي تتوطد فيه دعائم السلام، ليس بعيداً، حتى وإن استغرق الوصول إليه عدة قرون.
في تاريخ الفن عباقرة، كانوا يرون الجنان والفراديس، ويرسمونها في أعمال يخيل إليك وأنت تسافر فيها ببصرك، أن الفنان كان يعيش هذا النعيم.. ولكن ما أشد ما يذهلك أن تجد في مراحل حياته الواناً من البؤس تسحق الصخر.. ولكن لا غرابة في الواقع.. لأن الحرمان الذي يعيشه الفنان، يفتح له آفاق الفراديس ويغمره بمشاعر الرغد.. فهو يصوّر ما يتمناه.. وكثير مما نتمناه.. أجمل ألوف المرات من الواقع المشهود.
* * *
يقول توفيق الحكيم: يصف الكاتب الحر، ولعلّه يعني الناقد:
الكاتب الحر في نظري هو الحكم النزيه في حلبة اللاعبين.. إنه هو الذي يحصي الأخطاء بغير تمييز ولا تحامل.. وهو الذي يفضح سر الخارجين على أصول اللعب القويم.. وهو الذي ينبه الغافلين إلى كل خطر يدنو من قواعد المثل العليا.
* * *
((ماليرب)) زعيم المدرسة الكلاسيكية في الأدب الفرنسي في القرن الخامس عشر، بلغ من حرصه على الجزالة والدقة وجلال الأسلوب أنه قال: إذا أنهيت مقطوعة شعرية من مائة بيت مثلاً، لا بد لك أن تخلد إلى الراحة عشر سنوات.. وبهذا وحده تستطيع أن تصنع شعراً تسابق المعاني فيه الألفاظ.. ولم يكن شموس اللغة، وغريب مفرداتها مما يحرص عليه ماليرب.. إنما هو المعنى الدقيق في اللفظ الأنيق.. وهو القائل: ابذل كل ما تستطيع من جهد، لتكتب شعراً سهلاً تشرق فيه المعاني، في إطار من ألوان قوس قزح بعد أن تتبدد غيوم الأمطار.
* * *
من المشكوك فيه أن تكون جميع الألحان القديمة، التي عرفتها المدينة على الأخص قد اندثرت ولم يبق لها أثر في الألحان المحفوظة عندنا اليوم، ونحن نعلم أن ازدهار الفن في مكان بعينه يغري البلدان الأخرى باقتباسه.. فليس بعيداً أن نجد ألحاننا في تركيا، وفي المغرب العربي.. وفي إسبانيا.. واستبعد فارس، لأنه قيل إن فحول المغنين إنما أخذوا ألحانهم منها بعد الفتح.
* * *
قد يذهل القارئ حين يسمع من يقول: إنه لا يوجد في العالم فن وإنما الذي فيه فنانون.. حتى الفنان يصاب بخيبة أمل ساحقة.. حين تلقي نظرة على عمله، وتقول له إني لا أرى فيه سوى شخصيتك.. سوى محاولة تعبير عما في ذهنك.. إنه يريد أن تقول له.. إن ما تراه فن.. بينما الحقيقة، إنه لا وجود لهذا الفن لولا الفنان..
وبنفس المقياس، يمكن أن تقول إنه لا وجود للأرض والعالم، إلا بوجود الإنسان الذي يراهما ويعالج شؤونهما.. أفترض أنك لم تولد قط.. وقل كيف يمكن أن تعرف ما عرفت من هذه الحياة.
* * *
لو أتيح للطليعة من فناني المملكة العربية السعودية، الذين أتاحت لهم الدولة دراسة الفن في أرقى معاهده في أوروبا أن يفرغوا لقراءة التراث العربي، القديم وإلى نهاية الدولة العربية في الأندلس، فإنهم يستطيعون أن يضيفوا إلى مسيرتنا الحضارية، ما يعتبر سبقاً لم يلتفت إليه كل الذين درسوا الفن وعالجوه في مختلف بلدان العالم العربي..
* * *
استهدفت الكلاسيكية، في جميع مراحلها، تصوير الأفضل والأجمل.. والأدق.. ولكن الحياة، في واقعها، ليست هذا الأفضل والأجمل الأدق.. ليست المثال.. ومن هنا، قيل إن الكلاسيكية كانت دعوة إلى حلم قلّ أن يستطيع تحقيقه الإنسان.
* * *
مسؤولية الفنان، أهم وأعظم من مجرد النقل والتصوير.. مسؤوليته أن يعكس انفعال المشاعر وارتعاشات الوجدان.. وارتسامات الأحلام التي تعجز عن أن تراها العين و أن تسمعها الأذن.
مهمة الفنان والفن، أن يغني اللحن الذي يهزك ويحرك مياه البحيرة في أعماق النفس الإنسانية.
مهمته أن يغني الحياة وأن يزيد من ثرائها في معاني الروح والقلب والوجدان.
* * *
الفن بين الضبابية والوضوح، يظل تحدياً للذوق.. الضبابية تتحدى أن تفهم ماذا يريد الفنان أن يقول.. والوضوح، يتحدى أن ترى ما استطاع الفنان أن يراه، وأن يريقه على القماش ألواناً وظلالاً في تعانقها وانسيابها همسة لا يسمعها إلا الإنسان المخلص.
* * *
شعور الفنان بذاته، ضرورة، لو تخلى عنها، و لو تنازل عنها، لكان في ذلك سبيله إلى التفتت والأمحاء.. إذ في هذا الشعور بالذات، حافزه الأكبر والأقوى، إلى أن يشق طريقه الوعرة، نحو الاستقلال.. وهذا هو الفرق بين من يستطيع أن ينسخ أو يردد أفكار غيره، بين من يعطيك أفكاره ويكشف لك عن دنياه.
أجمل ما في الفن أنه يتجرد من الغاية.. وإن كان يظن أن غاية الفن هي التعبير عن الجمال، فلنا أن نتساءل، ما هي الغاية من التعبير عن الجمال.. إن البشر يستطيعون، أن يمارسوا مألوف حياتهم، وأن يستمتعوا بالجمال، دون أن يحتاجوا إلى التعبير عن شيء.. وهذا يعطينا مدى تجرد الفنان وهو يعكف على قصيدة شعر، أو على رسم لوحة، أو على نحت تمثال أنه يعلم سلفاً أن الحياة تستطيع أن تستغني عنه أو هي مستغنية عنه دائماً.. ولكنه يظل عاكفاً على فنه ودون أن يفكر في الجدوى، بقدر ما يفكر في أن يقول ما يريد.
* * *
ليس من شك في أن ما أنعم الله به علينا من الحواس، هو سبيلنا إلى معرفة الجمال، وما نتمتع به من الإدراك والمشاعر والوجدان، هو بدوره سبيلنا إلى الاستمتاع بهذه المعرفة.. ولعلّ من أعجب ما تستطيع أن تحققه المشاعر والإدراك والوجدان، أنها تبدع للجمال صورة في أعماق النفس، حين تصاب حاسة الإبصار مثلاً بالعجز عن الرؤية.. أو حين يتاح للأذن أن تسمع دون أن يتاح للعين أن ترى..
ذهب علماء النحو، ولا يزالون، إلى أن النحو، إنما عنى بحركة أواخر الكلمة في مكانها من الجملة لضبط محل الكلمة من الإعراب.. ولكن فاتهم إلى جانب هذه الحقيقة، حقيقة أخرى وهي أن هذا الضبط - في طبيعة اللغة العربية - إنما استهدف موسيقى الكلمة وجرسها وتوافقها مع طبيعة الأداء.
* * *
تدرك المرأة بغريزتها لمسات الجمال في قسماتها وتكوينها.. ولكن الرجل هو الأقدر على الحكم بصحة إدراكها. ومن أعجب المفارقات في هذا العصر، أن الرجال - وليس النساء - هم الذين يبتكرون أحدث الأزياء، ويضعون أدق مقاييس الجمال.
* * *
الجمال مطلب النفس الإنسانية، وهو - على تعذر تعريفه وتحديده - المطلب الوحيد الذي يستغني عن التعريب والتحديد، ويظل معروفاً كأنه إحدى البديهيات في منطق التصور والإدراك، ولا بد أن نسلم بأن مجرد وجوده، بمختلف عناصره ومنابعه، دعوة ملحة، وإثارة خالدة لحوافز الفن..
* * *
قليلاً ما يتحدث الفنان عن فنه.. ومما قاله بعضهم: (الفن الذي أحلم به هو فن فيه الطهر والصفاء يبتعد عن الإثارة والتهييج.. وأنا أستهدف رجل الفكر وصاحب المشاعر الوجدانية السامية، فأحاول أن أقدم إليه ما يستريح إليه وجدانه، أو ما يحرك هذا الوجدان ويدفعه إلى التأمل العميق.
* * *
نخطئ كثيراً، إذا نظرنا إلى شطحات الفن الحديث، في الرسم والشعر والموسيقى، على أنها مجرد انفلات سببه العجز عن التمسك بالضوابط والقيود التي يفرضها العلم بأصول الفن. إنها هي أيضاً لها قيود وأصول.. والدليل، أن النقاد يعرفون، من هو الأصيل في التعبير الفني الحديث، ومن هو المقلد الدخيل..
* * *
أي فنان يستطيع أن ينقل الموضوع الذي يراه على مساحة الكانفاه، وإنما يمتاز الفنان العبقري، عن غيره، بأنه يستطيع أن يقول لك، ماذا في عيني الجميلة التي يرسمها وهي تقف أمامه.
* * *
من نظريات علماء الجمال أن كل ما خلق الله سبحانه جميل، لأن كل شيء يحيا، وكل حياة جميلة..
ومن هنا، كان من رأي بعضهم، أن الفنان غير مدعو، لأكثر من أن ينسخ عن الطبيعة كما هي، وليس مطالباً بأن يختار وينتقي ويضيف إلى المرثي أو المنظور شيئاً.
وقالوا: يكفي الفنان أن تكون له القدرة على المحاكاة.
* * *
تهيج أمواج البحر، وترتفع وتتلاحق، ويرتفع هديرها، ثم تسكن الريح، وتتراخى حركة الموج، حتى ليخيل إليك أنها والسماء الصافية الساكنة سواء.. وما يحدث في أعماق نفس الفنان، شيء كهذا وهو يعالج موضوعاً من مواضيع الفن.. إنه يبدأ عملية التكوين في اللحظات التي تتراخى فيها حركة الموج، وتسكن الريح، ومن هنا يمكن القول، إن العمل الفني الأصيل، عاطفة يسيطر عليها العقل.
عني الفن، منذ كان، بالجمال المنظور.. بما تقع عليه العين، على اختلاف في التقدير والتقييم بين غابر من الزمن وحاضر، والشعر والأدب، هما وحدهما اللذان عنيا بجمال غير منظور.. لا تراه، ولكنك تشعر به يتسلل إلى نفسك، ويغمرها، ويثير فيها كوامن المشاعر.. ذلك جمال النفس.. جمال يستقر دائماً في الأعماق..
المرأة الجميلة خيال
والمرأة الدميمة حقيقة
* * *
النغمة المسموعة جميلة
وأجمل منها النغمة التي لا تسمع
* * *
كم من أحلام الفنان يظل حبيس المحاولة الجاهدة، لتفسير هذه الأحلام.. ولا سبيل إلى هذا التفسير إلاّ بألوان، يراها حلماً، ولا يجدها حقيقة.. وفي اللحظة، التي تشع فيها هذه الألوان، وتسطع على الكانفاه.. يعيش الفنان أحلامه الذهبية، وطريقه إلى الخلود.
* * *
لا مناص للأدب المسرحي من أن يستهدف قضية من قضايا المجتمع.. أو شريحة من حياته.. وحتى المسرحيات التاريخية كتلك التي عرف بها شكسبير، كانت تصور قضية في التاريخ، ولكنها لا تخلو من علاقة بالمجتمع الذي يشاهدها.. ذلك، لأن المسرح، فن اجتماعي بطبعه يتعذر أن ينعزل عنها.. والمسرحية التي تعالج موضوعاً فنياً بحتاً بأسلوب للفن، نصيبها الفشل دائماً.. وبهذا يختلف الفن المسرحي عن بقية الفنون.. في الشعر تستطيع أن تكون ذاتياً، وأن تكتب لنفسك، وأن تنطلق على هواك، ناظراً إلى مجتمعك، أو ملقياً به وراء ظهرك، وفي الرسم يستطيع الفنان، أن يكون ذاتياً بحتاً فيعالج المواضيع التي تعنيه هو وحده.. وما يعنيه هو وحده قد لا يعدم طائفة من المعجيبن، ولكنه يصل ذاتياً، وكذلك الموسيقى يمكن أن يؤلف الموسيقار، مقطوعة لنفسه.. لإشباع عاطفة في نفسه.. أما في المسرح، فلا مناص أبداً من التعلق بالمجتمع.. لأن المجتمع هو الذي يشهد المسرحية.. وهو الذي يدفع ليراها..
* * *
تستطيع الكاميرا (عدسة التصوير) أن تعطيك من الحقيقة الظاهرة ما قد يعجز الفنان عن مدى الدقة فيه.. ولكن تعجز الكاميرا، أن تعطيك، ومضة الذهن، وانفعال النفس.. ومسرحية الخيال.. وما في النفس من قبح وجمال.. وذلك مجال الفنان..
* * *
ما أكثر ما عالج الفنانون مواضيع شقاء الإنسان.. ومتاحف الفن زاخرة بما أبدعته العبقرية المحسة التي عبرت عن مشاعرها الإنسانية النبيلة، بما أراقت على القماش، من ألوان وظلال ولكن.. كل العبقرية، في جميع مشاعر الفنانين، وأحساسيسهم تعجز أن تصور خلجة من خلجات نفس إنسان أذله الحرمان، ولكنه يصر على أن لا يعترف بالذل.. وأن يظل شامخ الجبهة وضاء الجبين.
* * *
لا يجد العامة معنى لأن يشتري أحدهم لوحة بمئات الألوف من الجنيهات.. ومنهم من يعتبر من يقدم على مثل هذه الصفقة، رجلاً أحمق أو مجنوناً.. وسينقضي دهر طويل جداً.. ربما أكثر من ألف عام.. ليفهم هؤلاء أن ألوف الجنيهات، التي تدفع ثمناً لعمل فني.. هي أقل القليل لما يعبر عن المستوى الحضاري في حياة البشر.
من الشائع خطأ، أن لأغلب الفنانين - ومنهم الكتّاب والشعراء والموسيقيون - مظهراً من مظاهر الشرود الذهني، والشذوذ على المألوف في الملبس والهيئة العامة، وللفنان قدرة ذاتية على الإغراء بالتقليد، بحيث تنتقل مظاهر الشرود أو الشذوذ إلى آخرين لا علاقة لهم بالفن.. ويمكن أن نعلل لانتشار مظهر الاستخفاف بالمظهر وترك اللحية وشعر الرأس ينموان إلى الحد المزعج، إلى مظهر بعض المغنيين والموسيقيين في أوروبا وأمريكا، ومن ثم في جميع أنحاء العالم.. هؤلاء لا شك ظاهرة تؤكد ضعف الشخصية وانحلالها، وفقرها في القوى والخصائص والكفاءات إلى حد يضطرها إلى التعويض عن كل النقص بالظهور بمظهر الفنان.
* * *
طبيعي أن يستلهم الفنان واقع مجتمعه، وأن يعكس أثر بيئته.. ولكن قد يضيق الفنان بواقع مجتمعه، لما يعانيه هذا المجتمع من تخلف، وقد يحاول الهرب من بيئته لما ينخر في هذه البيئة من علل. وما تكابده من ضمور وشحوب، وليس أمامه حينئذٍ إلا أحد سبيلين.. أحدهما يتطلب تضحية. وهو نقد الواقع وإظهاره بكل ما فيه من بشاعة ونكر.. وقد يتعرض بذلك لسخط المجتمع عليه.. والآخر أن ينطلق مع خياله وأحلامه في المستوى والصورة التي يتمنى أن يرى عليها مجتمعه وبيئته.
قد تصل الحاجة إلى التقدم العلمي والتقني، إلى حد يزهد معه الناس في الكثير من الفنون وليس مستبعداً أن تلجأ بعض الأمم النامية إلى الاستغناء عن بعض المعارف الإنسانية لتوفر جهدها على اللحاق بركب العلم في مجالات الطب والهندسة والميكانيكا، وما إليها مما تقوم عليه الصناعة وما يحقق البناء الاقتصادي.. ومع ذلك فإن الفنون والمعارف الإنسانية تظل أشد إلحاحاً على طموح الحضارة.. في مستواها الأرفع والأسمى.. إذ يستحيل أن يعيش الإنسان في خواء روحي، وجدب نفسي.. فتلك دون شك صحراء يتعذر أن تخصب الحياة.
بين صحف كتاب مهجور وردة جافة.. لو مستها يد لتناثرت بتلاتها بدداً.. وكلمة على هامش الورقة.. كلمة واحدة هي (منها).. وطار على أجنحة الذكرى.. متى اشترى هذا الكتاب؟.. كيف ظل كل هذه السنين مهجوراً.. والوردة منها.. منها.. وأزاح نظارته السميكة عن عينيه.. وأخرج من جيبه منديله ليمسح دمعة وشفتاه ترددان منها.. منها..
صورة.. أشك أن يستطيع رسمها فنان.
* * *
لكي نعرف فناناً، لا تكفينا لوحة واحدة بل لا بد من النظر في سياق نتاجه كله وفي نسقه إذ ربما حملت لوحة واحدة طابع الفنان، ولكن لوحاته كلها هي التي تلزمنا باكتشاف أبعاد فنه وشخصيته.. وما ينطبق على الفنان ينطبق على الشاعر، إذ لا يكفينا أن نقرأ القصيدة أو الاثنين، أو حتى مجموعة من القصائد، لا بد لنا أن نستوعب نتاجه كله في مرحلة من مراحل حياته الفنية، ليتاح لنا أن نكتشف ما يكمن في وجدانه، من حوافز الشعر.
حين يتجه الفن - وأعني الرسم بالذات - إلى هذه الضبابية التي تهرب من التفاصيل وتستغني عن العمق.. فإن على الفن، في المملكة العربية السعودية، أن يتجه اتجاهاً مضاداً.. لأن الفن العربي الإسلامي في الأندلس وفي استانبول، قد عني بأدق التفاصيل في الوحدة الزخرفية المنتزعة من الطبيعة الصامتة على الأغلب.. وليس في ذلك تراجع إلى القديم وإنما فيه محاولة لإحياء روح التراث.
ليست نظرة الفنان إلى الحياة والناس، بالضرورة نظرة صائبة وموفقة.. كثيراً ما يرى في الطهر والبراءة مكراً وخداعاً.. وقد يرى في الجمال الذي يبهر الأبصار قبحاً وشوهاً.. وعلى سبيل المثال.. فإن البراءة وطهر النفس هما أول ما يطالعك ويملأ مشاعرك من وجه الطفل.. إنك لا تملك وأنت تتأمل هذا النقاء الذي يموج في نظراته إلا أن ترى ملامح من عالم، لا يسعك إلا أن تسلم بأنه عالم السلام والحب والصفاء.
ومع ذلك فالشاعر الفنان، عبد الرحمن شكري، الذي كان أسبق شعراء هذا القرن، إلى تجديد أغراض الشعر، والانتقال بها إلى أغراض الوجدان، وتجارب النفس.. هذا الشاعر، يقول:
(إني أرى على وجوه الأطفال ما تكنه أخلاقهم من بوادر الجشع والبخل واللوم والقسوة ولكن ضعفهم، وقلة حيلتهم، تسدلان على هذه الملامح حجاباً مضيئاً رقراقاً.. كالسراب.
* * *
لحظات الإلهام التي ينتظرها الفنان الشاعر.. أو الفنان الرسام. أو الفنان الموسيقار ليست على الأساس فيما يبدع.. إنما الأساس أن تكون لديه البيئة الفكرية الملائمة لتلقي ما يتداعى في ذهنه.. في لحظات الإلهام..
ليس في الفن أشكال نهائية أو أبدية.. بالأثواب الجاهزة لا تطيقها أجساد لموهوبين وكل موهوب يختار الثوب الذي يستريح فيه.
* * *
البناء الموسيقي في قصيدة الشاعر الحديث مركب من فلذات نغمية تعلو.. وتنخفض تصطدم.. وتفترق.. ترق وتقوى.. تهد وتنفعل..
من هذه الفلذات النغمية.. من هذه الحركة الدائمة.. والمتناقضة في نفس الوقت ينطلق البناء الموسيقي للقصيدة.. وهو إلى البناء السيمفوني أقرب منه إلى دقات الساعة الرتيبة.
* * *
طريق الشهرة والنجاح فن الفن، قد يطول إلى حد يبدو للفنان الأصيل أنه لا نهاية له وليس ذلك، لأنه لم يحقق الشهرة والنجاح، وإنما لأن طموحه أكبر كثيراً من كل ما يتحقق له مهما اعتبره الناس ضخماً يملأ الآفاق.
* * *
يرى الفنان الجمال.. فينفعل، وتموج روحه، وتشتعل أشواقه.. فيعمد إلى ريشته وألوانه، ويفرغ على القماش، مشاعره، فإذا الجمال لعبته وملهاته، وهو في نفس الوقت مأساة حرمانه.. ويرى غيره الجمال.. فيمارس تصرفاً لا يبتعد به كثيراً عن تصرف العجماوات من الخلق.. وهذا هو الفرق بين الاثنين.
* * *
أجمل ما في الموسيقى، أنها تستغني عن خطوط الأشكال وعن الظلال وعن الألوان، ولا علاقة لها بالضوء.. وتستغني عن الكلمة أيضاً.. ومع ذلك تستطيع أن تملأ خيالك وأعماق نفسك بكون من الصور والألوان والمعاني والظلال.. وأعجب ما تمتاز به أنها اللغة التي يفهمها البشر جميعاً.. حتى الأطفال في سن الرضاع..
لوحة الفنان، ليس فيها إلا منفضة سجاير.. طافحة بأعقابها.. وقلم لا يظهر منه إلا بعضه، إذ تغطيه صفحات من كتاب.. ورقة بيضاء.. بيضاء كلها.. ليس فيها حرف واحد.. إنها أبلغ تعبير، عن معركة الكاتب في مواكب الفكر، وأسراب المعاني.. لم يرض عنها.. لأنها أبعد كثيراً ما يتبلور في ضميره من موضوع إبداعه الذي قد يظل حبيساً ربما.. لسنوات طوال..
* * *
نقد الجمال عمل يتطلب - مع التذوق ورهف الحس وبعد النظر - الكثير من الخبرة والرصيد الضخم من الأرتواء من منابع الحسن، ومناهل الفتنة، ومكامن الجمال ولا يعني ذلك بالضرورة الأفتتان، والتعلق أو الحب، وإنما هو يعني وفرة المخزون من صور الجمال.
* * *
في حياة الفنانين كثير من قصص أغرب من الخيال.. فيها البؤس الذي يقف به في الحضيض بينما إبداعه الفني في القمة الشامخة.. وفيها العجز حتى عن سماع تصفيق المعجبين بالسيمفونية الرائعة التي يقود فرقة عازفيها وهو الذي ألفها.. ولكن من أعجب هذه القصص قصة الرسام (فان جوخ).. قيل تزوج فتاة ودعته الظروف لمفارقتها.. وليلة الوداع قالت الفتاة تداعبه.. إنها تحب أذنه.. ولو إنها تركت لها كانت خير تذكار منه.. وكم كانت دهشتها بالغة مذهلة حين وصلها رسول فان جوخ يحمل إليها لفافة فيها أذن الرسام العبقري.. وقد نظفت من الدم، ولفت بعناية وبذوق الفنان..
* * *
ليس كالكلمة، وسيلة للجمع بين فنين هما الرسم والشعر،.. تستطيع الكلمة، أن ترسم ما يطوف بذهن كسيح من صور النقمة والألم وربما الحقد أيضاً.. ولكن كل ما يستطيعه الرسام الفنان، هو أن يصور الكسيح.. وقد يبلغ من رهف الحس وتعمق الموضوع، أن يريك في مشيته، أو في نظرته، و في تقبض وجهه، بعض ما في نفسه.. وفرق بين البعض من الشيء والشيء كله. بين النهلة من بحر.. وبين البحر.
الجمال هو حرية التكوين ضمن حدود التناسق والتناسب، وفي ذلك يكمن قانون الحرية في الحياة نفسها، إذ الحرية بلا قيود التناسق والتناسب هذه مع المجتمع وطبيعة البيئة، هي الفوضى التي تعود بالإنسان إلى قانون الغاب.
ولتتصور هذه الحقيقة في جمال الإنسان.. كيف تكون السمات في الوجه لو أن الأنف مثلاً أخذ حريته في الطول والعرض، أو لو أن إحدى الشفتين أخذت سبيلها إلى الامتداد كما تشاء.. أو لو أن العينين اتسعتا فملأتا الساحة بين الأنف والصدغين.
* * *
الفنان الذي امتلأت نفسه بفنه قد يعيش منفرداً على ذاته.. ولكنه يظل مع ذلك في قلب العالم، في أشد بؤر الضوء تجمعاً.. يتجاوز كل حد محسوس.. وكل حاسة ملموسة.. وفي تلك اللحظة التي يلتزم فيها الصمت، يعيش هدير عاصفة الحياة في قلبه، وانهمار موسيقى الفكر والفن والجمال في وجدانه.
يقول كانت: إن العباقرة حين ينتجون لنا آثارهم الفنية، قد يخرجون على كل قاعدة ومثال، ولكن ما أعظم أن تأتي الأجيال، لتجد، في حرية العبقري، القواعدَ والأمثلةَ ومُثلَ الجمال.
* * *
يقول رودان.. إن الفنان ينقل المنظور من الطبيعة ولا يبتعد عنه.. إنه ينقل ما يراه.. وهو لا ينحرف كما يُظَن.. لكن ما يراه يختلف عما يراه غيره من الناس، فيكون الفن انحرافاً عن الأصل في نظر هؤلاء الناس، وليس في نظر الفنان.. والسر هو في اختلاف النظرة فقط.
* * *
لأرسطو رأي فيما نسميه اليوم ((الصدق الفني)) ويسميه هو ((الكذب الفني))..
يقول أرسطو: لقد علمنا هوميروس الكذب بصورة لائقة.. ومع هذا لا يجوز أن يبلغ الكذب حدَّ الاستحالة.. ولكن - مع ذلك للشاعر أن يصف الأشياء والأحداث بالصور التي يجود بها خياله.. يمكن أن نغفر له الخطأ في حقيقة علمية، لأنه غير مطالب بالدقة العلمية فيما يقول.. ولكن لا نغتفر له العجز عن التعبير والتصوير.
* * *
يقول المثال الأمريكي ديفيد سميث، وهو يصنع تماثيله من الحديد: عمل الفنان هو الفن في اقتناعه الشخصي.. فإذا كانت هناك حقيقة في الفن، فهي حقيقته الذاتية، التي قد لا يراها سواه.
* * *
بعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم ظاهرة لا تزال تنتشر في مختلف حقول الفن.. وهي رفض الكثير من قيود الفن التي ظلت تهيمن على الأعمال الفنية طيلة قرون.. وكان من مواليد هذا الرفض، ما ظل يتوالى على ساحة الفن من أعمال تحررت، أو حاولت أن تتحرر، من هذه القيود..
وانتهت الموجة إلى الشعر، ورأينا ما لا يزال ينتشر من محاولات، يبدو أنها تلقى ترحيباً من عشاق الرفض والتحرر.
ولكن يظل السؤال الحائر الذي لا بد أن نسمع الإجابة عنه من النقاد هو:
أين الشعر؟ وأين الفن، في كل ما يتلاحق من عطاء الشعر والفن في هذه الأيام؟
* * *
نقد الجمال - في الفنون على أنواعها - قد يعتمد اليوم، على قواعد وأصول مدروسة، ولكن ذلك لا ينفي أن الجمال ظل يعالج بالنقد، اعتماداً على التذوق ورهف الحس وعمق الإدراك لمواطن ومكامن الجمال في العمل الفني.. وأغلب الظن أن النقد الناجح سيظل يتمرد على القواعد والأصول، ما دام التذوق يتطور، والحس يزداد رهفاً والإدراك، يزداد عمقاً.
* * *
يختلف الناس في درجة الإحساس بالجمال، حتى ليبدو هذا الإحساس، - أحياناً - وكأنه نوع من الإلهام.. أما التعبير عن هذا الإحساس، وعن قدرته على بعث المعاني، فهو رسالة الفنون من شعر ورسم وموسيقى، لا يستطيع أداءها إلا من وهب الملكات الفنية المختلفة، وعرف كيف يغذي هذه الملكات بالتعمق في أسرار الفن.
* * *
ليس للعمل الفني الأصيل قواعد وأصول، ولكن مادة أداء وإظهار هذا العمل الفني تظل محتاجة إلى القواعد والأصول.
الكاتب مثلاً، قد يبدع قصة رائعة في أصالتها الفنية، لا يتقيد في تكوين أبطالها وأحداثها بقاعدة معينة، لأنه يبدع ويُكوِّن، ولكن أسلوبه في التعبير عن الأحداث والتجارب، ولغته التي يستعملها في هذا الأسلوب، وديناميكية الحوار، كلها تحتاج إلى أن يكون له رصيده المعقول من العلم بقواعد النحو والصرف والفواصل، وبالمفردات اللغوية وظلالها وما يتداعى معها في ذهن قارئها، وقبل ذلك، بطريقة بناء الجملة بداية ونهاية.
* * *
من آراء قدماء النقاد - من آرائهم أن الشعر أشد غموضاً من النثر، وأن له مواضيع معينة لا يحسن أن يتخطاها، وهي في الأعم والأغلب: الوصف والغزل والرثاء والمديح والهجاء بينما النثر يستطيع أن يضرب في كل موضوع بسهم، إذ ما الذي يمنع الكاتب الناثر أن يصف؟ وأن يتغزل؟ وأن يأتي برائع البيان حين يرثي؟ وبالساطع المعجز حين يمدح؟ وبأشد المعاني إيجاعاً وإيلاماً حين يهجو؟ ولكن - مع ذلك - يظل الفرق بين الشعر والنثر كبيراً.. يظل الشعر أحبَّ إلى النفوس، والسر يكمن في غنائيته وموسيقاه ولا شعر بلا موسيقى إلا في هذا العصر.
* * *
تذوق الجمال يحتاج إلى أكثر من مجرد النظرة أو التأمل.. يحتاج إلى عين ترى الأفق المترامي بكل ألوان الشفق، في ذلك الذي يستقبل ظل الهدب، فلا يعتم ولا يغيم، وإنما يشرق ويتوهج، وكأنه يقول: في هذه الظلال، ضوئي الخاص، الذي لا يراه إلا الذين يتذوقون الجمال بعين تعرف مكامن الجمال..
* * *
قال أرسطو: قد تكون الأشياء قبيحة الأصل.. ولكنا نرتاح إلى رؤيتها في الفن لأنه يُجمِّلها.
ومع أنه لا يرى في الفن إلا محاكاة وتقليداً، فإنه يقول: ليس ضرورياً أن يكون الفن كالواقع.. بل يحسن أن يكون أفضل منه.
* * *
النقل من المرئي، أو المسموع تستطيعه الكاميرا كما يستطيعه المسجل فليس في ذلك فن، ومن هنا ندرك، أن الموسيقى ليست تقليداً للطبيعة، وإنما هي أسلوب تأليف للمعنى ودقة فهم للمشاعر والأحاسيس التي يخاطبها الموسيقار.
وأن الموضوع الفني الذي تبدعه ريشة الفنان شيء لا علاقة له بالواقع المشهود..
وقصيدة الشعر التي ينطلق فيها الشاعر من رؤياه وتجربته ليست نسخاً لوجود ولا تعبيراً عن محسوس.. وإنما هي كشف عن عالم قد لا يكون له وجود إلا في ضمير الشاعر، وفي لهب عواطفه ومشاعره.
* * *
بينما يرى بعض علماء الجمال القدامى، أن الفنان غير مطالب بأكثر من النسخ من المرئي في الطبيعة و المسموع فيها كما هو، ويرى بعضهم الآخر - وهم المثاليون - أن الفنان ملزم باختيار الأجمل والأمثل بحيث يظل موضوع الفنان يبتعد عن المألوف والطبيعي. فإن نقاد الفن في العصر الحديث، يرون أن الفن ليس في التقليد والنسخ، وليس توخياً للأجمل والأمثل وإنما هو أن يضيف الفنان إلى موضوعه أحاسيسه ومشاعره كما يتوهمها أو يشعر أنها متفاعلة في وجدان الناس.
* * *
قال شوبنهاور عن الجمال: الطبيعة في تحقيقها للجمال تبدأ من البسيط..
وترتفع درجة الكمال في الجمال بارتفاع درجة التعقيد.. فكلما ازداد التعقيد ازداد اقتراب الجمال من الكمال.
ولهذا كان الجسم الإنساني أعلى وأسمى وأشرف المرائي في الجمال لأنه أكثرها تعقيداً وانطلاقاً من هذه الحقيقة يصح أن يقال:
في جسم الإنسان - كل مطالبكان القلب الفن في الجمال.. حتى التعقيد والإغراب والغموض.
* * *
المفروض في الفنون، أنها لا تستهدف غاية، سوى الإمتاع والإرضاء، أو تفسيراً للمعاني وإيجاد شعور نفسي بالارتياح لها.. وهي لا تعترف بالزمن، إذ ليس مما يعني الفنان أن يقدم عملاً في إطار الزمن. وهذا هو السر، في أننا نعجب بالقصيدة من الشعر نظمها الشاعر قبل مئات السنين، ونقف في ذهول، أمام لوحة رسمت قبل قرون، حتى اللحن الموسيقي يرضينا وهو آت من بعد سحيق في الزمان.
* * *
في هذا العصر وربما في عصور قديمة، استطاع الفن أن يفرض وجوده، وأن يجعل البشر يدركون حاجتهم إليه لا كعنصر ترفيه، أو كمظهر من مظاهر الترف والأبهة، وإنما كضرورة لا غنى عنها. ومن هنا أصبحنا نرى اليوم حرص مختلف المنتجات الصناعية، على أن تضفي على إنتاجها لمسة الفن في الشكل واللون وانسياب الخطوط وتعانق وانسجام ((الجزء مع الكل)).
قد نكون على مشارف عصر - هو القرن القادم، يجد فيه الفنان حلمه الخالد وهو أن يغني الحياة، وأن يعطيها معنى أكبر من مجرد إلحاحة إلى العيش.
* * *
أبشع أنواع البخل.. بخل القلب بالحب..
وما أشد تعاسة أولئك الذين يعجزون عن إنفاق الكنز الوحيد الذي لا يفنى.. وهو (الحب).
إنهم يبخلون بأشعة الضوء التي تمزق كسف الظلام في مجاهل الطريق.. ليس أبخل ممن يحجب عنك ضوء الشمس.
* * *
صغيرتك التي تستقبلك بأهازيجها حين تعود إلى البيت وتتعلق بك وعلى ثغرها.. (بابا).. وبين ذراعيها الصغيرتين الناعمتين دنياها من حبك..
ما أفظع ما يكون بخلك وشُحُّك إذا لم تأخذها بين ذراعيك.. إذا خيبت أملها في حبك.. في فرحتها بلقائك.
* * *
وهذا الطفل.. ابنُك.. الذي يملأ البيت ضجيجاً.. وحين أحس بخطوتك داخلاً، حبسَ أنفاسه واختفى خوفاً منك.. ما أعظم سعادته وأبهج أفراحه حين تبحث عنه، وتمنحه كلمة حلوة.. وتأخذه بيدك ليحدثك بلثغته التي تقطر شَهداً، وغنة صوته التي تعزف أجمل الألحان.. ليقول أي شيء.. وما أشد بؤسَه، وانسحاق قلبه وتفطر مشاعره، حين تلاحقه بالشتائم والصفعات، لأن مرحه الصاخب جريمة في تقديرك وحسك المغلق، وظنك الأجوف أن متاعب يومك لا تنتهي إلا بسجن الأفراح من حولك..
وهذه الزوج.. زوجُك.. ماذا تخسر بالله، إذا ما ابتسمت في وجهها؟ إنك لا تدري أنها تعيش على هذه الابتسامة في كل ما تواجهه من متاعب البيت والأطفال.. وربما قلة المال وسوء الحال.
* * *
وهذا الصديق، أو لعلّه الزميل في العمل.. ما أكثر ما تربح من اعتزازه بك، وعطفه عليك، لو أنك تضيف إلى تحية الصباح المألوفة كلمة اهتمام.. كسؤال عن صحته.. أو عناية بمشكلته.. أسفاً إذا لم تحل.. ومشاركة في الفرحة إذا أراد الله لها الحل..
* * *
وأخيراً هذا الذي تعتقد أنه عدوّك، يتربَّص بك.. يريد أن ينهش لحمك لو استطاع.. ما أسرع ما تتساقط أنيابه وتتثلَّم مخالبه وأنت تأخذه في الأحضان وتشعره بالحب.
ثم ماذا تخسر في كل هذا؟ لا شيء.. بل المؤكد أنك الرابح أنك تربح ما لن تستطيع شراءه بكنوز العالم.. تربح الحب.
الحب الذي يمزق، ويهشم كسف الظلام في الطريق.. إلى حياتك كإنسان..
الإحساس بحركة الزمن، في هذا العصر وعلى الأخص بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا بد أن يبلغ مداه العميق في كل عمل، وفي كل إنتاج .. وكما في أي نشاط، صناعي أو علمي، فإن مختلف وجوه النشاط الفني، لا بد أن تساير الإحساس بحركة الزمن.. ولعلّ هذا من أكبر العوامل، التي دفعت إلى ساحة الحضارة، في هذا العصر اتجاهات الفن الحديث، ليس فقط في الفنون التشكيلية وحدها وإنما في مختلف الفنون الأخرى ومنها الشعر والموسيقى.
* * *
في الفن التشكيلي، لم يعد لدى الفنان متسع من الوقت لعمل يعتمد على إبداع الدقة والمهارة والتفاصيل الصغيرة.. وفي الفنون التعبيرية لم يعد لدى الشاعر أو الموسيقار، متسع من الوقت لاتباع الأصول التقليدية. فكان من ذلك ما نقرأ وما نسمع من عطاء، قد ينفر منه أبناء الجيل الماضي أو الحاضر ولكنه المحبب والمألوف لدى أولئك الذين وثبوا إلى الحياة في القرن الواحد والعشرين.
* * *
كلما تقدمت الأمم في ميادين الفن والثقافة.. وكلما اشتدت صاروخية حركة الزمن، كلما اشتدت حاجتها إلى المزيد من روافدَ نَشِيطة تمد مسيرتها بالطاقة التي تمكنها من ملاحقة حركة الزمن ومعايشتها، وكذلك الاستمرار في انطلاقها نحو الآفاق الجديدة التي لا تتراءى إلاَّ لأولئك الذين يُصمِّمون على ارتيادها كما يرونها في المتغيرات المتوقَّعة في القرن الواحد والعشرين.
يقال عن ليوناردو دافنشي، أن عالمه الخاص، يحيط به ما يجعله أشبه بالمجهول الذي لا يراه سواه.. ذلك أنه كان شديد الطموح، لا يقنع بالذي يسهل مناله، وإنما يتوخى المراقي الصعبة التي لا تخطر ببال.. ومن هنا كان الليل هو زمنه الذي يحب، وفيه يجد المجال الذي يستطيع أن يحلق فيه بطموحه وتطلعاته.
* * *
قالوا إن الفن هو ذكاء الإنسان، الذي يعالج المرئيات في الطبيعة، ويحركها لتحقيق تطلعه إلى الأجمل.
* * *
أياً كانت الحياة فإنها تظل تجربة، وأياً كانت التجربة، فهي مسيرة في الزمان.. أَبعادٌ لفصل من تراجيديا أو كوميديا الحياة.. والتعبير عن هذه التجربة مسؤولية الكاتب والشاعر، ومسؤولية الفنان.
* * *
مع ما استطاعت خصائص الكلاسيكية أن تحفظه لنا من روائع التراث، في الفن، شعراً ونحتاً وتصويراً فقد واجهها النقاد المعاصرون بالتمزيق والهدم. فقالوا إنها حين تصور من الحياة أجمل وجوهها، تخدعنا عن الواقع الذي نعايشه بمخازيه وقُبحه، ونتطلع إلى التخلص منه.. المثال الذي لن نراه والجمال الذي مآله إلى الشوه والتنفير وإيهامنا أنه الحقيقة التي من أجلها يجب أن نعيش خديعةً رخيصة آن للإنسان أن يعيها.. وما لم يكن الفن صادقاً، مع واقع الحياة ومع ضمير الفنان، فإنه يخسر معركة البقاء.
يطلق تعريف الفن بما عرف للنص، على أعمال كثيرة متنوعة، ولا علاقة لها بمفهومنا الثقافي عن الفن، فلنا أن نقول فن التفصيل، وفن فلاحة البساتين، كما نقول فن التصوير وفن الرسم وفن النحت وفن العمارة.. وطبيعي أن تتسع كلمة (الفن) لتشمل الموسيقى والشعر والتمثيل والباليه والقصة.. غير أن المألوف أن تطلق كلمة ((فن)) على الفنون الجميلة التي اختلف العلماء في حصرها وتحديدها فإذا توقفنا عند فن الرسم أو النحت مثلاً فإننا نجد أن مهمة الفنان ليست في أن يصور ما يراه.. وذلك ما تستطيع أن تفعله الكاميرا بإتقان يعجز عنه الفنان دون شك، إنما مهمته أن يحقق شيئاً أعظم من مجرد النقل.. أن يقول بالخطوط وبالألوان والظلال وبحركة الريشة، شيئاً أكثر من مجرد الصورة التي يراها، أن يعبر لنا عن إحساسه ونظرته إلى المرئي الذي يصوره.
ولا يكفي لتقدير الفن، أن يستطيع الفنان التعبير عما في نفسه، إذ لا بد من أن يوحي إلينا هذا التعبير بتلك المعاني والصور التي تحرك في نفوسنا المشاعر النابضة بصور الجمال:
ولكن - رغم هذه النظرة الدقيقة - فإن مجرد محاولة التعبير التي يقوم بها الفنان، تعطينا ذلك الإحساس الغامض بأن الجمال مطلب بعيد الآفاق.. وأن الإنسان يحاول التحليق في تلك الآفاق.
* * *
الفن الذي لا يعنى بغير (الجميل) في الطبيعة، فن ضعيف: لأن الجميل في الطبيعة ليس بالضرورة جميلاً في الفن.
إنما تتجلى قدرة الفنان، في تعمقه موضوعاً قد يعتبر من أسوأ ما تقع عليه العين ومع ذلك، فنظرة الفنان إليه تجعله قضية من قضايا الفكر، أو قضية من قضايا المجتمع.
* * *
في الفنون، محاولة دائمة للتعبير، والشعر أو النثر أوسع مجالاً من أي فن آخر. يستطيع الرسام مثلاً أن يعبر عن فكرة بالخطوط والألوان والظلال، ولكنه لا يعطيك فرصة التوسع في الخيال كما تعطيك الكلمة الشاعرة.. أما الموسيقى فقلما تستطيع أن تتصل بأكثر من حاسة السمع، وما تسمعه يعجز عن أن يعطيك أكثر من الإحساس الغامض بالكثير الغائم غير المحدود، وأحياناً غير المفهوم.
* * *
قد يحاول الفنان - وأعني الرسام والشاعر والموسيقار - أن يغمض عينيه عن بيئته ومجتمعه، فيقدم العمل الفني وعليه مسحة الغربة والانفلات.. ولا يعيبه ذلك، لأنه في هذه الإغفاءة عن البيئة والغربة عن المجتمع، يقدم تطلعه إلى بيئة أكثر حيوية، ومجتمع أكثر ازدهاراً أو سمواً أو نبلاً، أو أوفر شجاعة وإقداماً.
حين يندغم في البيئة، ويعكس لنا واقعها، فإنه أقرب إلى سجل لما يشعر أو يرى وليس هذا سبيل فنه إلى السمو.. ولكن حين ينفلت، فإنه يعكس لنا طموحه وأمله وحلمه البعيد والسعيد.
* * *
عرف بعضهم الجمال فقال: هو الحركة في السكون، وانسياب التوفز الناهد في الهدوء الوديع..
الشعر في المدرسة الرمزية، ليس من عمل العقل، وليس التفكير من أدواته، وإنما هو إلهام يتدفق من اللاوعي.
وهذا ما يجعل الشعر الرمزي يبدو غامضاً، ولكنه يعطيه في نفس الوقت، مجالاً للكثير من التأويل والتصور اللذين قد لا يكونان مما خطر ببال الفنان، ولكنهما يخاطبان اللاوعي عند جمهرة من القراء.
* * *
كان يظن إلى ما قبل سنوات، أن من المستحيل، كتابة الأنغام التي يتحدث عنها أبو الفرج الأصفهاني ويحدد مواقع الأنامل من خنصر وبنصر ووسطى على العود.. وكتابة الأنغام هو ما يسمى بلغة اليوم (تنويطها).. والتنويط اشتقاق من (نوطة) وفي الاشتقاق مرونة لطيفة لا بأس بها.. ولكن يمكن أن نعدل عن الكلمة إلى كلمة نعرفها ويستعملها حتى الفرنجة.. وهي (كتابة).. فهم لا يقولون (بيتهوفن نوط سيمفونيته مثلاً).. وإنما يقولون (كتبها)..
ومعذرة للاستطراد.. فالذي أردنا أن نقوله هو أننا قد سمعنا أن موسيقاراً في مصر استطاع أخيراً أن يكتب أو (ينوط) الألحان التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني.. وليس بعيداً اليوم الذي نسمعها فيه.
* * *
لم يستطع الفن قط، أن يجد أجمل ولا أغنى من جسم المرأة، تناسقاً، ودقة تركيب، وتدرجاً في الحركة وانسياباً حلواً في الانتقال، من شكل إلى شكل، بل ومن خط إلى خط في التكوين العام، دع عنك اللون، وما يسطع أو يخبو في البشرة من ظلال، لكل ظل منها معنى يؤديه تعبيراً عن الجمال، بل دع عنك، الصوت، وما في غنته أو بَحَّته، أو همسه، أو لثغته من قدرة على الإيحاء بمعنى غامض من معاني الحسن والفتنة وتبارك الله أحسن الخالقين.
* * *
سئل أرسطو عن تعريف الجمال فقال:
دعوا هذه المسألة للعيان..
قد يذهب بعض المأخوذين بالتقدم التكنولوجي، إلى أن الإنسان، في طريقه إلى الاستغناء عن الفنون.. وذلك لأن الزمن لا يزال يلتهم جهد الإنسان بحيث لا يترك له تلك الفرصة التي يهجع فيها، ليقرأ مقطوعة من الشعر أو ليصغي إلى عمل موسيقي ضخم، أو ليتأمل تمثالاً أو لوحة لفنان.. ولكن ما أكثر ما يخطئ الذين يذهبون هذا المذهب في تقديرهم أو إيمانهم بالتقدم التكنولوجي ويخطئ أيضاً أولئك الذين يظنون أن التكنولوجيا تعجز عن أن تُسهم هي أيضاً بوسائلها الجديدة، للإبداع الفني.. ليس بعيداً أبداً ذلك اليوم الذي يقدم فيه العقل الألكتروني المتطور روائع للفن، قد يعجز عن إبداعها خيال عظماء الفن، حتى في الشعر.
* * *
منظر طفل متشرد، يتراكم على شدقيه الذباب، وتتلامح عظامه من ثيابه الممزقة، ليس منظراً ترتاح إليه العيون.. قد تشفق عليه.. قد تمتد إليه الأيدي بقطعة نقد، أو بِكِسْرة خبز.. ولكنه بالنسبة للفنان أجمل موضوع.. فإذا استطاع أن يعطينا - إحساسه وانفعالاتِ نفسه، وأظهر لنا في عيني الطفل البراءة التي لا تزال عاجزة عن الحقد.. فإنه يضعنا أمام قضية من قضايا الإنسان المعاصر، في صراعه الدامي مع الحياة.
ليس الفن محدوداً في هذه الروائع التي تتألق وتتبختر في متاحف الفن في عواصم العالم الكبرى لأولئك العباقرة، الذين تسنموا الذرى، وتربعوا على عروش الخلود.. كلا فإنك تجد نماذج من الفن الرفيع، مع العمق العفوي، في إنتاج الكثيرين الذين لم تتفتح عنهم محاراتهم، لأن الغواص لا يدري أن الكثير الغالي من الجوهر يكمن في محارة، يتركها، لأنها غارقة في الرمال.
* * *
الفن بنوعيه - التعبيري والتشكيلي، منذ ثلاثين عاماً، يعاني مخاضاً هو نتيجة محتومة للرواسب التي تركتها حالة التفاعل، التي ليس من المبالغة أن يقال، إن الإنسان في كل تاريخه لم يجرب مثلها. ومن طبيعة هذا المخاض، أن يتخذ طابع التجربة، وأن يخضع لعامل الانتخاب والتطور، ومن طبيعة هذه العوامل أن تعطي الكثير الذي قد يندثر، ولكنه يظل مرحلة لها مميزاتها وسماتها. وربما، وربما لمعجبين بها أيضاً.. وإلى أن يتم تطور متكامل، قد يستغرق أجيالاً، لا بد أن نتقبل ما يطرأ على الفن، وما يعانيه الشعر، وما تمر به الموسيقى من ظاهرة، نظنها تنافراً وصداعاً وشذوذاً.. بينما هي ضرورة يمليها كل تطور، في جميع مراحل الحياة.
التكنولوجيا مطلب العصر، وعلى الأخص بعد أن وصل الإنسان إلى القمر وصور المريخ، ومن هنا كان إقبال الدنيا على العلوم.. والرياضيات، والميكانيكا.. وما إلى ذلك من عناصر تكوين التقدم التكنولوجي.. ولكن يجب أن لا ننسى أن هدف التقدم العلمي هو الانتصار في صراع عاصف.. أما الفن فما أسمى ما يهدف إليه.. إن هدفه الوحيد أن تنعم الحياة بلحظات حب وسلام.
كما تتطور العلوم والتكنولوجيا، وتبلغ هذا المدى الذي بلغته في هذه الأيام، تتطور حواس الإنسان المعاصر بالنسبة للفن من شعر ورسم وموسيقى.. ففي الشعر.. لم يعد ذوق إنسان العصر يطيق مواضيع الشعر التقليدية، وتلك المطولات التي يزهو الشاعر بشرود قوافيها وزحمة التشابيه والاستعارات فيها.. ربما كان السبب هو أن الوقت لم يعد يتسع لمثل هذا الغثاء.. وفي الرسم، يستطيع ذوق إنسان العصر أن يفهم من نقطة سوداء في فراغ.. أو من خط أخضر على خلفية صفراء.. أو من جزء من هدب ولمحة عين أكثر مما يفهم عن كل التفاصيل التي يحفل بها عمل فني من الأعمال التي نشاهدها في متحف اللوفر في باريس، أو في متحف (تيت) في لندن.. أما في الموسيقى.. فهذا التشنج العنيف الذي يملأ ساعات الليل والنهار، يعبر عند إنسان هذا العصر، عن واقعه الذي تتلاحق فيه متاعب الحياة، كما تتلاحق مئات المطارق في أيدي عمال يحاولون أن يصنعوا من الصلب، أداة تتطلبها الأسواق.
* * *
سؤال كثيراً ما طرح وكثيراً ما اختلفت الإجابة إليه.. وهو:
هل ينبغي أن يلتزم الفنان بالدعوة إلى فضيلة معينة أو خلق معين أو سلوك معين؟ أم أن له أن ينطلق، فلا يلتزم بشيء؟ وإنما يقدم العمل الفني خالصاً، بكل خصائصه وبكل شحنة الإخلاص فيه.. وللناس أن يفهموا منه هدفاً أو أهدافاً، أملاها العمل الفني الصادق المجرد من كل غرض أو هوى، سوى غرض الفنان، في تقديم العمل المتكامل.
وللإجابة عن هذا السؤال، نواجه، مشكلة معقدة أشد التعقيد.. وهي مضمون رسالة الفن؟ هل هي مجرد الخَلْق والابتكار؟ أم هي هذا الخلق والابتكار، في اتجاه مرسوم، وغرض محدود، وهدف مقصود..
ومرة أخرى، تواجه هذه الأسئلة بسؤال.. هل تتاح للفن سبل الانطلاق والتحليق إذا حدد له الاتجاه، والغرض والهدف؟ أم أن هذا التحديد، يكبِّل الفن والفنان بالقيود التي تجعل منه مجرد آلة تحكمه وتُسيرِّها الحدود والقيود؟
* * *
تميل مختلف مدارس الفن، في الشعر والرسم والموسيقى، إلى الأخذ بمبدأ حرية الفن.. حرية الانطلاق، دون قيد أو شرط.. دون اتجاه أو غرض أو هدف.. فذلك هو سبيل الفن، إلى اكتشاف الجديد من الآفاق، وهم يرون، أن الجديد والمجهول، والذي ينتظره الفنان الحر، لا يزال أكثر وأوسع وأكثر خصباً وعطاء من كل ما يزخر به تراث الإنسان من عطاء الفن في مختلف العصور.
* * *
بقدر ما تتنوع المعارف والعلوم في هذا العصر، بقدر ما يشتد الحصار على الفنان بحيث يجد حوله غابات لا حصر لها ولا عد، من تطلعات الإنسان وطموحه، ومن انفلاته وانطلاقه، وجموحه وتنوع مفاهيمه، ونظرته إلى الحياة.. كيف يستطيع الفنان أن يواجه كل هذا وأن يتواءم مع عصره.. ذلك هو السؤال الذي تذوب الشموع في الليالي الطويلة التي يقضيها الفنان في الإجابة عليه.
* * *
ترى من الذي يستطيع أن يتعمق، أو حتى يلمح، تلك المعركة الصاخبة التي تدور في ذهن الفنان، وهو يشق طريقه إلى ما يمكن في ضميره من معانٍ، يعرفها.. وربما يعايشها، ولكنها تأبى أن تتجرد من تلك الغلالة التي تستر أهم أسرار فتنتها وبؤر الإشعاع فيها.
مأساة الفنان دائماً أنه يرى أكثر مما يرى الغير.. ويريد في نفس الوقت أن يرى الناس رؤاه وأحلامه.
* * *
العمل الفني الأصيل، يحتاج لفهمه إلى وقت، لأن الأصالة فيه هي العمق وبعد الغور، ومن هنا كانت ولا تزال كارثة الفنان الأصيل، الذي يتعلق به ادعاء الفهم من النقاد.
موضوع الربيع والمشاعر التي يبعثها في النفوس، موضوع تقليدي، طرقه جميع الشعراء في جميع اللغات، ومع ذلك يستطيع الفنان أو الشاعر العبقري أن يشع فيه من روحه ومشاعره وأشواقه، فإذا هو موضوع جديد، يكاد يجعلك تشعر أنك لم تعرف الربيع إلا مع هذه الروح والمشاعر والأشواق.
* * *
كل قيمة العمل الفني تنحصر في قدرة الفنان، على أن يبعث في هذا العمل روحاً جديدة ولوناً جديداً.. وأن يتيح لنا أن ننظر إليه من زوايا جديدة.
* * *
أجمل ما في الموسيقى، أنها تستغني عن خطوط الأشكال وعن الظلال وعن الألوان، ولا علاقة لها بالضوء.. وتستغني عن الكلمة أيضاً.. ومع ذلك تستطيع أن تملأ وجدانك وأعماق نفسك، يكون من الصور والألوان والمعاني والظلال.. وأعجب ما تمتاز به أنها اللغة التي يفهمها البشر جميعاً.
نقد الجمال عمل يتطلب - مع التذوق ورهف الحس وبعد النظر - الكثير من الخبرة، والرصيد الضخم من الارتواء من منابع الحسن، ومناهل الفتنة ومكامن الجمال. ولا يعني ذلك بالضرورة، الافتتان، والتعلق أو الحب، وإنما هو يعني وفرة المخزون في الوجدان من صور الجمال.
* * *
أصعب ما يواجه الفنان - اختيار الموضوع الذي يعالجه على الكانفاه، أو يدفقه في كيان شعري، أو يسكبه في لحن - ومع أن الحياة تزخر بما يبدو كثيراً متنوعاً من عطائها، فإن واقع الحال هو أنها محدودة العطاء. بحيث يجد الفنان نفسه مطوقاً بما سبق أن سخت به الحياة على من سبقه من الفنانين. ومن هنا جاء تمرد الفنان في هذا العصر.. إنه تمرد الرغبة في التخلص من براثن التقليد.
* * *
لم يعد (المضمون) في الفن هدفاً.. كما لم يعد الفنان، يعني بأن ينصح أو يعظ أو ينبه أو يلفت النظر إلى هنة من هنات المجتمع أو رذيلة من رذائل الفرد.. كلا.. وإنما الذي يكرس الفنان له فنه، هو مشاعره نحو مفهومه من الجمال.. وليس ضرورياً أن يكون هذا المفهوم (تناسقاً أو تماثلاً أو ألواناً معينة وظلالاً.. يكفيه أن يبرز شريحة من نظرته قد لا تعجبك.. ولكن ثق أنها ستجد الكثيرين ممن يعجبون ويقدرون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1445  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.