ثالثاً: منهج الفن الإسلامي/ لمحمد قطب |
يلفتنا عنوان الكتاب، وينبهنا ثبت محتواه إلى معيار التوازن من حيث صلته بالفن، وهي الصلة القمينه بجهود الباحثين المحدثين تحديداً وتوضيحاً لهذه الصلة. |
ذهب المؤلف إلى أن الأدب يعكس نظرة الأديب وتصوره للإنسان والكون. ومن هذا المنطلق شرع يناقش مميزات الأدب الإسلامي، فاعتبر من مقوماته أنه "متوازن" لأن التوازن "قيمة أساسية مطردة لا تتخلف في المنهج الإسلامي، ولهذا كان طبيعياً أن يكون الأديب المسلم "متوازناً" وأن يكون الأدب الذي يصدر عنه "متوازناً" أيضاً". |
ثم طفق يشرح هذه الجزيئات، فقال مثلاً عن التصور الإسلامي للكون: "التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان هو أشمل تصور عرفته البشرية اليوم، إنه التصور الذي لا يأخذنا من الوجود، ويدع جانباً آخر، وإنما يأخذ الوجود كله بمادياته وروحانياته ومعنوياته وكل كائناته... إنه التصور الذي لا يأخذ الإنسان جسماً وروحاً بغير اعتبار لطاقة العقل. ثم هو لا يأخذ هذه العناصر متفرقة منفصلة بل يأخذها مترابطة متحركة، مع ترابطها في واقع الحياة"
(1)
. |
أراد أن التصور الإسلامي هو تصور "متوازن" شامل لجميع جوانب الحياة. |
بل إنه صرح بذلك عندما تعرض لتصورات غير إسلامية، وبيّن ما فيها من قصور و "خلل في التوازن" فقال: |
"ذلك أصفى تصور لحقائق الوجود، وأشمل تصور للكون والحياة والإنسان، وأشمل تصور في تاريخ البشرية كله، فكل فكرة أخرى وكل نظام وكل عقيدة قد أخذت شيئاً من هذه الجوانب المتعددة، ولم يأخذها كلها، فنشأ من ذلك قصور في التصور وخلل في التوازن، وخلل في الاتساق، والإسلام وحده هو الذي شملت فكرته هذه الجوانب كلها في توازن واتساق"
(2)
. |
وألحظ قيمة معيار "التوازن" الجمالية واضحة في حديثِه عن الجمال في التصور الإسلامي. يقول: "وأول ما يلفت الحس في الجمال أنه نظام ولكنه ليس ضرورة، ولهذا النظام -كما يبدو في صفحة الكون- مظاهر متعددة، منها الدقة، والتناسق، والتوازن والترابط وخفة الحركة رغم ثقل الأوزان"
(3)
. |
ويقول في موضع آخر: |
"ومن ثم يتعين الجمال في الحياة الإنسانية بصفة عامة: أنه نظام مطلق من الضرورة. هذا النظام يقتضي موازنة الكيان البشري كله في داخل النفس وفي واقع الحياة؛ يقضي في داخل النفس ألا يصبح الإنسان جسداً وحده أو عقلاً وحده أو روحاً بمفردها، وإنما كياناً واحداً ينظم كل هؤلاء"
(4)
. |
وهكذا وجدت الكاتب أدرك القيمة الجمالية العالية الناتجة عن "التوازن". ولكنه اكتفى بأن أشار إليها دون محاولة وضع المنهج الذي ينتظمها، على الرغم من أن الكتاب تضمن فصلاً عن "الجمال في التصور الإسلامي". |
وفي حديثه عن الكون والعلاقة القائمة بين مخلوقاته نجد الكاتب يوضح نوع هذه العلاقة، وأنها قائمة على التوازن بما فيها الإنسان -أحد المخلوقات الموجودة في ذلك الكون- حتى ينعم بالحياة على سطح الأرض: "فأجرام السماء متوازنة، آية توازنها ذلك النظام الدقيق المضبوط الذي لا يختل قيد شعرة وهو سمة واضحة في المجموعة الشمسية التي نحن جزء منها، وفي الأرض بصفة أخص... والحياة الإنسانية ينبغي أن تسير على الناموس الأكبر الذي يحكم الكون والحياة كلها فتتوازن بكل ما فيها من طاقات"
(5)
. |
ثم يأخذ في التفصيل أكثر فيقول: |
"تتوازن الأشواق الطائرة والضرورات القاهرة. |
تتوازن النزعة الفردية والنزعة الجماعية. |
تتوازن النزعة المادية والنزعة الروحية. |
تتوازن طاقة الواقع وطاقة الخيال. |
يتوازن الحب والكره. |
يتوازن العمل والعبادة. |
تتوازن مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. |
تتوازن مصلحة الجيل ومصلحة الأجيال. |
يتوازن كل شيء في هذه الحياة"
(6)
. |
ويتحدث الكاتب أيضاً عن "التوازن" عند حديثه عن تركيب الإنسان من قبضة من الطين ونفخة من روح الله يقول: "ومقتضى هذا الامتزاج في مفهوم الإسلام: أن الإنسان يقضي ضروراته الأرضية الحيوانية على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، ويحقق أشواقه الروحية الملائكية على طريقة الإنسان لا على طريقة الملاك"
(7)
. |
ويقول: "إن الإنسان في نظر الإسلام ليس شقين منفصلين: شقاً أرضياً يعمل وشقاً سماوياً يتعبد. إنما العبادة عمل والعمل عبادة. والإنسان بشقيه شيء واحد، وملاك الأمر في هذه الشؤون كلها هو "التوازن". وهو صفة تكتسبها النفس من السير على منهج الله"
(8)
. |
وعندما يتحدث عن خروج الإنسان على العقائد والنظم يبين لنا أن هذا الخروج يتبعه دون أي شك خلل في توازن المجتمع فيقول: "حين ينفلت الإنسان من كل قيد، اجتماعي أو اقتصادي، أو إنساني، وينطلق يستجيب لكل هوى في نفسه وكل نازعة، فإنه من ناحية لا يعود إنساناً، لأن الإنسان ذو قوة ضابطة يستخدمها بوعيه وإرادته لتنسيق الحياة الإنسانية وإشاعة التوازن فيها، ذلك التوازن الذي يقتضي ألا تصطدم أهواء الناس، ولا يتفكك المجتمع وينحل نتيجة لشرود كل واحد من أفراده على هواه، ومن ناحية أخرى يكون خارجاً على ناموس الكون الذي لا تشرد أفلاكه على هواها، ولا تنفلت مما يربطها بغيرها من الأفلاك من رباط جاذب متين"
(9)
. |
وعن العواطف البشرية في التصور الإسلامي، أجده يشرح هذه العواطف مبيناً انعكاس العواطف على الإنسان وأنها تتغير قيمتها من خير إلى شر، أو بالعكس بحسب الموقف، وهنا يصرح بقيمة "التوازن" في هذه العواطف، وفي ذلك يقول: "الكُرْه طاقة بشرية مساوية وموازية للحب في الفطرة، ولها مجالات واسعة في النفس والحياة، والكره كالحب يصعد ويهبط. ويكون خيراً مرة وشراً مرة، بحسب ما يتوجه إليه، فالكره الذي يتوجه به الإنسان نحو الفساد في الأرض، نحو الشر المنبعث في الأحياء، نحو الظلم والطغيان والانحراف، هو كره نبيل. كالحب النبيل، وواسع شامل يشمل كل أمور الحياة. والكره الذي يتحول في نفس صاحبه إلى كراهية الخير للناس والحقد عليهم وكراهية كل شيء جميل، وكراهية الاستقامة والنظافة والصعود والترفع هو كره هابط منحرف شأنه مريض"
(10)
. |
وفي تعريفه للفن الإسلامي، وجدت أن ميزة هذا الفن عنده، أنه يقوم على "التوازن" الشامل جميع جوانب الحياة، يقول: "الفن الإسلامي يُعنى عناية خاصة بحقيقة الشمول والتكامل في النفس البشرية، فلا يجب -مثلاً- أن يعرض الجانب المادي من الإنسان وحده بمعزل عن الجانب الروحي. ولا يجب أن تعرض الصراعات الاقتصادية والطبقية كأنها الحقيقة الكاملة للحياة البشرية، وتغفل بجانبها القيم المعنوية والروحية والأشواق الإنسانية العليا؛ لأن ذلك بتر للحقيقة البشرية وتشويه لصورتها"
(11)
. |
ويوضح هذا "التوازن" أكثر فيقول: "وهو كذلك تصور متوازن - لا يشتط في تقدير قيمة من القيم الإنسانية على حساب قيمة أخرى، ولا ينسى أحد جوانبه ليذكر جانباً آخر، ومن هذا الشمول والتوازن يمكن أن ينبثق فن إنساني رفيع، فن يشمل حياة الإنسان كلها، باطنها وظاهرها، ويشملها في عالم الضرورة القاهرة وعالم الأشواق المرفرفة. في عالم الواقع وعالم المثال. في دنيا الفرد وعالم الجماعة، في لحظة الإنتاج المادي، ولحظة الإنتاج العقلي ولحظة الإنتاج الروحي، وفي لحظة هبوطه ولحظة رفعته"
(12)
. |
وهكذا بعد هذا العرض لما جاء في كتاب "منهج الفن الإسلامي" من حديث عن "التوازن" فإن أهم ما لحظته أنه جعل الفن الإسلامي فكرته الأساسية، وأن كلامه عن "التوازن" جاء طبيعياً في معرض حديثه عن مميزات التصور الإسلامي للكون والإنسان ذلك التصور المبني على التوازن بين مخلوقات الكون جميعاً. |
ومما يمنح الكتاب أهمية أنه تحدث عن العواطف البشرية وعن القيمة الجمالية للتوازن، فكان بذلك واضعاً لبنة من لبنات المنهج، وإن لم يتم بناء تلك النظرية، فالمنهج في اعتقادي محتاج إلى مزيد من التعقيد والتدقيق الذي يقربه من الوضوح لا سيما في مجالات التطبيق. |
فتناول الكتاب كان تناولاً جيداً ينقصه إبراز الفكرة التي يتميز بها الكتاب من حيث نظرته إلى "التوازن" باعتباره منهجاً للفن الإسلامي، في مجال التطبيق على فنون الأدب المختلفة. |
* * * |
|