شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أريد أن أحيا
أصرّ عريف أن يقرأ هذه الرسالة وقرأها
أخي محمد عمر
الآن فرغت من قراءة رسالتك، وعرفت أنك تستقبل طوراً نفسياً مدى الحركة فيه أن تدور على نفسك. وهذا أسلوب من العيش يُعفي الحيّ فيه من جهد الحركة، فيكرع من رحمة الله التي لا تنفد. والصبر يا سيدي شيء لا يَلجأ إليه القلب المشبوب إلاّ متى أحس بعجزه عن الطلاب والغلاب، فهو باسم الإذعان أو التسليم أو الانقياد أو اليأس أو الزهادة، أولى. وما أعرف أني صابر على شيء، ولي فيه غير الصبر حيلة، ولكنا -معاً- وغيرنا من الناس، أو كثرتهم، نفهم الصبر على أنه مغالبة النفس، ومصابرة الصعاب، على أمل الفوز، وحرارة النشدان، فهذا -حفظك الله- الأمل، وليس الصبر..
فما أوردته في رسالتك على معنى الصبر والاستسلام، قد جريت فيه على طريقة السلف، أو على طريقة الوهم الشائع..
والحياة يا صديقي -بعد- دولاب ما يكفّه عن الحركة أن أحد قواطعه جمع رأيه على أن يأنف هذه الحركة ولا يشترك فيها، ولا أن جميع قواطعه تجتمع على مثل هذا الرأي، فما دامت "العجلة" تدور، فالقواطع تدور وإن كانت في ذاتها معطلة الحركة، إلاّ أن استطاعت أن تقطع صلتها بالدولاب وفي هذا معنى مماتها..
وللدولاب -يا سيدي- رأي في نفسه وفي سيره وسرعته، يقل أو يزيد أو يتساوى، بما ترى له الدواليب الأخرى، أو بما ترى له أمداء ما يستطيع تحقيقه، ولكن للقواطع، أو لأحدها، أن يظن أنه هو الدولاب، وباعث الحركة، وسببها، وأن يرى أن الدولاب "قاطع" كبير يلتوي لأن الاستقامة تعوزه.
وبعد، فإن كنت لا ترى في ما يقول القوالون جديداً، فذلك لأنك تعيش بفكرك السبّاق في مستقبل الحياة لا في حاضرها!! وما علينا بعد إلاّ أن نعتقد أن مجهود الحياة، والأفكار، والعقول، والتفوق والعلوم، باطل.. وأن الدولاب قاطع ملتوٍ لا يسعه أن يستقيم.. وهذه -على الأرجح- نتيجة لا تزلزل أعصابي، لأني قدير على هضم الأرزاء، بالرغم من أني أضعف الناس عن احتمالها.
وتقول أننا تناولنا في أحاديثنا اليومية ألواناً من مشاكل الفكر والإحساس ما أحسبنا انتهينا فيها إلى غير رأي متفق عليه، أو مختلف فيه.. وأنت تسوق هذا الكلام دليلاً، على أن التعرية تكشف معها خبايا النفوس، وتزعم في جد أنه لم تبق لي فكرة منطوية في نفسي، لها صلة بالحياة، لا تدريها.. فإن كان هذا تمهيدك لأن تدعي "جديداً"، فإني معلن تنازلي عن مجموعة نظراتي في هذا السبيل.
إنها الألفة يا صديقي، وليست التعرية، ولطول المسايرة عصف، حتى بالجمال وهو مادة البقاء للنفس الشاعرة العاشقة. وكل شيء في الحياة قديم، يمكن أن ينقلب على عينك جديداً، متى سرت بحس المتطلع الراغب، لا بحس السائم المنصرف.
وما أنكر أني اختلفت في عينك عما كنت فيها، يوم كانت العلاقة جديدة، بل ما أكثر سروري بأن كان الأمر هكذا.. ولكنك في عيني كما كنت عرفتك. ولكن أهذا من ضبعك بي أو بنفسك؟ كلاّ. إنه من ضبعي بنفسي.. فما أبحت لها قط أن تحمل عليك أعباء حسّها الثقيلة، وتكاليف مطالبها الوعرة.. ولا تطلعتُ من وراء جلدك إلى ما يخفيه، إنما عرفتك إنساناً كالناس يكون قوياً فاتناً، إذا أسعده الجهد، ولم يضق به ذرعه، ويكون ضعيفاً يستثير الشفقة، إذا انقطع به لغو به -أو تزاحمت أنفاسه.. فإذا قال قائل إنك ضعيف المقدرة على الاستفزاز، قلت فهو بهذا الضعف قدير على أن يحملني على حبّه. وما أردتك داعية، تلمّ الناس حولي، حتى يؤسفني أن تكون ضعيف التأثير فيهم... وإذا حسبت أنت أن للأدب أثره في العلاقة التي نتبادل أواصرها في نشاط تارة، وفي همود أخرى، عددت لك من الكتب ما قرأت لتعرف أن كتاباً ثمنه قروش، يضمن لي ولك من فائدة العشرة وجمالها ومتاعها، ما لا تضمنه صداقة أديبين، بل عشرين أديباً..
وأنا يا صديقي العزيز، عرفت ضعف الحياة في نفسي، قبل أن أعرفه في نفوس الناس، فإن جئت أعيب عليك الكذب أو الجشع، أو فتور الحيوية في جاذبيتها الفعّالة، رجعت إلى واقع الحياة، وإلى صداه في نفسي وأفكاري، وماضي عمري وحاضره، وما حفل به من المؤثرات مداً وجزراً، وسعادة وشقاء، وعدت إلى قوانين الاستطاعة والمقدرة، وطبيعة شعور الحي ودوافعه الإنسانية، والحيوانية، وعكفت على طائفة من الأفكار والقوانين والقواعد، أعرض عليها أمرك، فأكون أخيراً، كمن ينصب محكمته للدفاع عنك. وهو يعني الدفاع عن الحياة، أو عن رأيه فيها.. أو عن حياته هو كإنسان.
فأنت ترى أني أدفع عنك عوادي الفناء في نفسي وبواطن إحساسي، وأنت ترى أني إنما أخذتك وآخذتك بما لا يخرج عن طوق إنسان عادي أن يحققه، فبقيت على حالك في نفسي لم تتغير. وقد قلت لك مرة ونحن نسير ليلاً.. إن تسعة أعشار شقائنا إنما تجيء من ناحية إفراطنا في تقدير قيمنا. وكانت هذه الكلمة عنوان حديث طال حتى ضنكت به، أو حتى ضنك به كلانا.. فاليوم أقول -يا صديقي- إن تسعة أعشار فجيعتنا في من نحب ونود، إنما تجيء من ناحية إفراطنا في تقدير مزاياه وافتراضها. والمثل الأعلى للإنسان أو للحياة، ما يزال فكرة لم تتحقق بعد، ولو شاء الله لها أن تتحقق، لكان معنى هذا، أنه شاء للحياة أن تنتهي. والكمال -كما قلت مرة- نشيدة الحياة المطولة.. ونحن نعرف الجمال الكامل، ونتطلبه، ولكنا نتبلّغ أحياناً، ونتدله أحياناً، بما يعدّ تحت الصفر بالنسبة لما نعرف ونتطلب..
وقد قال محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، بطل الإنسانية لامرأة ارتعدت فرائصها في حضرته.. أو لرجل، فما أعرف إلاّ معنى الحادثة: هوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد..
فإذا غصصت بشيء مني، أو بشيء فيَّ، وهالك أن أكون هكذا، فاعلم أن هذه الغصة، عقوبة إفراطك في افتراض مزية لي أعجز أنا، أو يعجز الناس عن تحقيقها. والصديق يا صديقي، ليس أجيراً، سائق حياته الوحيد أن يرضي رغبات متبوعة. فالصداقة -في ما أعرفها- صدق، والصدق حرية النفس والفكر وقانون انطلاقهما من كل قيد. والصداقة بين رجلين، تختلف عن الحب، لأنها أقدر على التعقّل والحرية.. ولذلك كانت مزاياها وتبعاتها والتزاماتها أبعد أثراً في مواقف الجد والدوام ومغالبة الفناء وأسبابه..
ولقد كان عريف يقول لي يوم الجمعة، في حديث طويل ممتع، أن غلطتي التي تحول بيني، وبين استمرار افتتان الناس بي -على نفاذي في هذا- أني أتكشف لهم عن دخائل حياتي ونفسي وفكري وطبائعي، في سهولة وسرعة.. فيكونون أمامي بعد السعي والرغبة في الاتصال بي، كمن يقول: أهذا هو؟..
إنه هنا يترجم لنزعاته المكبوتة، ويمثل لإفراطه في تقدير قيمته، ولبرمه بتعاسته لعجزه عن تقريرها وفرض الإيمان بها على النفوس والأفكار. وإلاّ فقد عرف -كما عرفت- أني أوثر الضعيف على القوي أحياناً، والساذج البسيط على الرائع الفاتن. ولست مع الأقوياء أضعف سبباً، ولا أقصر خطواً، ولكن لأني أفرض لنفسي -في نفسي- قيمة الصفر يتحرك على يمين الرقم فيكون سبب رفعته وحياته، ويتحرك على يساره.. فلا يزيد ولا ينقص بحركيته لأنه الصفر فحسب..
وأنا كثير الكلام -لا شك-، ولكني لا أقول إلاّ ما أريد أن أقوله، ويندر أن يتحلل لساني من قيود إرادتي. وكذا أنا في سيري، أو في سلوكي الاجتماعي، أو في حياتي كإنسان، لا أفعل إلاّ ما أريد أن أفعله، وإن كنت أفعل ما أكره أحياناً، فلست مغلوباً في هذا على إرادتي، لأني لو لم أشأ أن أفعله، ما فعلته.. ولأني أريد أن أحيا..
وأنت تقول أننا في جو يستحيل أن تكتسي الأفكار فيه لباساً جديداً، فهل تعد هذا ذنباً لي، يتحتم عليَّ أن أعتذر إليك عنه؟ لطالما قلت إن الحياة نفسها لا تقدم الجديد إلاّ في أسلوب وحركة.. وأنا قد أحببت خمسين جميلاً، وأعجبت بمئات، فهل كان لكل جميل خلقه المستقل الذي يغاير خلق أغياره؟.. كلاّ. إنها الوحدة، والقرابة، والمشابهة.. ولا شيء إلاّ اختلاف الأسلوب، أو التباين في معنى.. أو في حركة.. أو في لفتة..
والحياة أغنى وأقدر على تنويع ذخائرها، فلماذا لا تطلع علينا كل يوم، إلاّ شمس كل يوم، ولماذا كان البحر فيها هو البحر، والجبل هو الجبل. والأنثى هي الأنثى.. إلاّ الأسلوب.. إلاّ الأسلوب؟؟..
لست أكثر شعوراً بما دعوته.. "هذه القدمية العتيقة".. في رسائل أصدقائي، فمنهم من لا أبلغ غباره مقدرةً على التلاعب بالألفاظ، وتوليد المعاني وتركيبها، ومن أخور دون مقدرته على المماطلة، ومن تبعث العبارة من كلامه حرارة الحياة في دمي، حتى أراها على غير ما كنت أراها. فهل تقاس الكلمة بما تعنيه في ذاتها المحدودة، أم بما تفتحه أمامنا من آفاق وأمداء، وما تبعثه عن حركة؟..
أما الجديد، أما الجديد، فشيء لا تفعله الحياة، على ما نؤمن به لها من استطاعة. فما نرهق غيرها بأعباء التزامه دونها!..
وبعد، فإن كان في هذا الكلام الطويل، ما يمسّ استغلال شعورك بنفسك، أو ما يلهب حماستك، ويجرك إلى غشيان حومة الجدل في عراك كلامي يطول ويمتد، فلأنك لا تدقق في اختيار ألفاظك لمعانيك تدقيق من يعرف أن لكل شيء تبعته.. أو لأنك تخطئ أحياناً فتسيء الظن بعمق فهم سامعك، وما أختار لك أن تكون هكذا، فربما ضاق مجالك بين الأحياء به..
وللهزل كما يعلم كلانا، مناسباته وأساليبه، وله أيضاً مبرراته وحدوده. وأخشى أن تكون قليل الصبر على أن أكون غير ما كنت، أو غير ما أريد أن أكون. فهل كنت تهزل أم تجد حين قلت "ما زلت أنت وما زال كل قوَّال هنا يعيش وفي ركن منزوٍ من نفسه كمية مختزنة من الرأي والعقيدة لم تتغير، ولن تتغير أبداً"؟؟
أفهذا من ضمن ما تتسع له حدود الصداقة والود وتبعاتهما؟..
إنني لا أجد في أن أحتملك غضاضة أو مضضاً، لأني لم أفرض نفسي "كقوَّال" قيمة يضيق بي أن ينحدر بها تقديرك. ولكني لا أريد أيضاً بأن تشقى لأنك تفرض لفكرك المقدرة المطلقة، أو الحق في إعطاء هذه الأحكام وفرضها.
وإذا كنت -حتى الآن- لا أعدو عندك قوَّالاً من القوالين، فإنما تكون عندي إنساناً يستحق التأديب. وما يرضيني أن تخشى هذا الوعيد، ولكن يرضيني أن تستخف به.. لا لأني، أكثر من قوَّال، ولكن لأنه ليس من حقك أن تقول هذا في مجال التودد إليَّ، كأنك تقدر فيَّ تحجر الفطنة.
والآن حسبك بما اتسع له وقتي -على ضيقه اليوم- وإلى اللقاء حيث يريد "الجديد" الذي يستطاع معه مران النفس ورياضتها على ما يشبه المشقة، في حياة ضاقت بركود الراحة وطمأنينتها..
واقبل تحياتي،
أخوك حمزة شحاتة
أخي محمد عمر:
دي حتة تعليقة على الهامش.. وفي الكتابة في ذيل رسالة الأخ حمزة ما يجعل التعليقة "زعراء".. حتماً، والواقع أني مشتاق محموق من عدم إرسال الروايات وإلى اللقاء في الطائف لفتح اعتماد القيامة الشفهية معك.
ودمت
أخوك عبد الله عريف
 
طباعة

تعليق

 القراءات :505  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج