شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الواقع المرير
أخي محمد عمر
لقد غدوت أبرع الناس في التحدث عن نفسك.. فأنت تقول عنها، ما يقول الغني المحدود عن ثروة لا يأتي على آخر أعبائها الإحصاء.. وكأني بك تغمض عينيك صنيع من تتكاثر في رأسه المعاني وتتدافع، ليتفرغ للانتقاء والاختيار.. وقد بلغت بي في هذا حداً حملت به أثقل الأعباء.. فلو كنت تتحدث إليّ عن دنيا تزخر بما لا تزخر به دنيانا الوسيعة المترامية لما لقيت عقب بعد ما مضى من أمامك ما لا يقول!.. فهل قضي عليّ أن أُبلي عمري، أو ما بقي لي منه في الإصغاء إلى ما يختفي وراء جلدك، من أحاسيس متفجرة، لا تصاب بثقوب ولا يشارف حدودها الفناء.. ولا يبيح لها النقص بصفحته البغيضة؟..
وأنت تشيب بالصمت في دنيا معانيك، التي تكون طبيعة الأحياء فيها الاجترار الهادئ.. ويلنا لو كانت دنياك هذه، دنيا صخب وإعلان وكلام. أَفَلَسْتَ تقضي عليَّ وحدي بأن أُغطَّى في حميمها، لأني ما أزال المخلوق الوحيد فيها، وبهذا حقّت اللعنة عليّ.
وقد قلت عن الشعر الحزين ما شاءت لك معاني دنياك.. وفي الدنيا الشعر الطروب، فهل يقال أن الطرب والمرح في الحياة زيف تطروه العقول المفيقة، لأن الحزن في الحياة هو حقيقتها.
وقلت.. لقد فات هؤلاء -الحزانى- أن يسعدوا على نحو ما يسعد الأحياء، ولذلك جاءوا أشقياء من طراز شاذ، وكأن حقك أن تقول فجاءوا سعداء من طراز شاذ..
وأقول أنا.. إن التعبير عن خوالج النفس منذ صار فناً بيانياً -صحبته المبالغة وأثقله التهويل.. لذلك كان الشعر تهويلاً لمعاني الويل، وتهويلاً لمعاني المسرَّة.. ولا شك أن الإنسان يحسّ أقل مما يزعم، وأقل مما يقول.. ولا شيء في باطن النفس أو الفكر تعجز اللغة -أية لغة- عن الإفصاح عنه..
وقد يكذب على الأنثى أول ما تحمل.. حسُّها، فتحس أن في بطنها جبلاً لا جنيناً.. فإذا ولدته جنيناً، فهذا تعبيرها العملي عما كانت تحس.. أفتراها تقول أن بقيته الكبرى.. ما تزال تمور وتضطرب في أحشائها..؟ وهَبْهَا قالت ذاك، أفتكون عندنا صادقة؟.
فالحزن يا صديقي، ومواجع النفس، حَمْلٌ بمواليد كالجبال.. ولكن الوضع وحده يجعل الجبل فأرة بعد المخاض.. وقد يكون التعبير أكبر من المصيبة، ولكن لن يكون أقل منها، إلاّ عندما تكون المقدرة على الكلام والتصوير حقيقة عاجزة..
وقد قلت عن النفوس السائمة كلاماً ما رأيت مثله مواءمة لمنطق العقل.. فالحياة لا تلد حياة بالحركة الدائبة والصور المتعاقبة المتغايرة، ولهذا كانت باريس ونيويورك أشغل للذهن والنفس من جدة، والطائف مثلاً، لكثرة ما يتوارد فيها من الصور المتباينة.. ولكنك جعلت المقارنة.. مقارنة بين القليل والكثير.. مع أن كيفية الكثير لا تختلف عن كيفية القليل بنسبة الفرق بين الكميتين.. فالاثنان ضعف الواحد.. ولكن المليونين، ضعف المليون عدداً والكيفية عند المقارنة بين اثنين.. ومليونين، تختلف اختلافاً كبيراً لا تستوي به المقارنة الصماء، إلاّ كما تستوي المقارنة بين جدة ونيويورك.. في ميزان المزاج السائم في فترة سأمه وبثّه..
"أما مصر فبلاد لا يخشى السأم فيها الشاب إلى أن يشيخ، ولا الشيخ إلى أن يفنى، ولا الفاني -إن كان يحس- إلى أن يبعث.. لا لأن الصور فيها تفوق العدد والحصر.. ولكن لأن لكل صورة فيها نسلاً ولوداً لا يكفي لاستيعابه العمر المحدود.. وحسبك ببلاد يتغير كل ما فيها عندما يأتي المساء، تغييرات تختلف نسب الذكورة فيها وصورها ونغماتها، وإشاراتها، وحركاتها، حتى يلوح الفجر.. فإذا لاح.. كانت الذكورة التي تدعو إلى نفسها برجولة تتدلل.. وتلين.. وتميع، حتى ما يقوم الفارق بين الجنسين إلاّ بالثياب.. أو بغلظ الرنة في الصوت.. أو بالشعر في الوجه.. وقلما تراه، وهذه صورة من صور النسل الولود.. هي واحدة من ملايين".
والضحك في غير مصر ضحك يعبر عن مسرّة القلب الطافحة.. ولكنه في مصر فلسفة تسخر بالحياة.. والواقع والعمل..
والجمال فيها جمال لا يتخطى أشباهه ونظائره حيث تكون في هذه الدنيا العريضة. ولكنه مع هذا جمال يتفلسف في نفسه وفيك، فلسفة تحبّبه إليك.. لأنها تدعوك إلى أن تشاركها السخر بالحياة لحظة.. كأن اللقاء بين الجنسين اجتماع لا غاية وراءه إلاّ قضاء الوقت في مسرة.. وليكن بعد ما يكون.
والجهل في مصر، جهل مستنير، تعجب له عجبك.. والمآتم مآتم ضاحكة، فما رأيت جنازة قط إلاّ وأمامها فرقة موسيقية تعزف نغمات لا معنى للحزن والاكتئاب فيها إلاّ أنها تسير وتنطلق أمام نعش محمول.. والنعش بعد مزخرف موشّى وعليه -في موضع الرأس- طربوش فوق حامل من الخشب.. فإذا اهتز النعش بحركة حامليه، اهتز الحامل، فاهتز الطربوش.. فكأنك تسير في عرس..
والحركة في مصر حركة حياة تتدفق وتفيض.. ففي كل نفس مصري معنى من فيضان نيلها.. وحسبك أن المصري لا يُقبل على العمل إلاّ لأن المال يساعده على هذه الحركة.. ولقد كنت أعجب كيف تصدر الصحف والمجلات في مواعيدها، وقبل مواعيدها.. بيوم، وأيام.. حتى عرفت أن الأدباء في مصر أقل الناس اتصالاً بحياة مصر التي تستغرق النفوس والأفكار.. بأنهم أقل حيوية جنسية.. فهم أقل حركة..
ونسبة النساء في مصر أكبر من نسبة الرجال، ولو اعتبرت صفات الأنوثة ومميزاتها وخصائصها لداخلك الشك في أن لعنصر الرجولة وجوداً فيها.. فما تشرق الشمس إلاّ على هذا النحل خفيف الحركة رشيقها، جاد الخطوات.. يقول لك كل شيء فيه اتبعني.. ينتشر على سطح القاهرة، وفي أخفى زواياها، انتشار النمل، عندما تداس قراه.. انتشاراً تمثل حركته، الذعر والقلق، والاشتغال بشأن الحياة الأكبر.. البقاء.. النفس. وبشؤون الحياة الأخرى.. العمل.. والواجب، المسرة، بواعث الجنس..
وفي بواعث الجنس، يختفي مطلب مصر الأول.. العيش.. فالعيش فيها قاسٍ ما يرحم.. كل شيء يدعو المرأة ويناديها من وراء زجاج المعارض.. الملابس.. أدوات الزينة.. وسائل التجميل.. أسباب اللهو.. ألوان الأكل والأشربة.. فهي تتقبل الدعوة.. لتشبع.. لأنها تجوع بألف معنى للجوع.. ملء البطن بالطعام أقلها شأناً..
ووراء مصر المكشوفة للعيان، مصر أخرى.. لا تتكشف لغير ذوي قرباها.. مصر تعمرها المرأة وحدها.. ولكن المرأة المتعلمة الجديدة.. التي تلقاك بمعنى الحديد، وبمعنى الشمع في آن.. والتي تقول لك عيناها.. أيها الرجل! إن مركز المرأة في مصر حرج، فلا تزده حرجاً.. ولكنها مع هذا تستجيب إن واتتك الفرصة بعد أن تروق في نفسك، بموضع العقيدة التي لا تقبل شكاً.. فتروح وأنت تقسم، بأنها لم تكن تستجيب لغيرك.. ولو كان هذا الغير فاروق مصر.. وتغدو وقد عرفت أن للفضيلة معنى صحيحاً هو الذي عرفته.. وجمال المصرية شمعي كنفسها، يذوِّب ما لامسته أنفاسك، ولكنه يبقى بودّه، وحنانه.. ومرحه وطربه.. وطبيعته الرشيقة.. وبأنه مصري.. ويغالب الفناء..
وصوت المصرية.. وكلامها.. فتنة من فتن الخلود.. لا أظن الدنيا تلقاك بمثلها.. من فم الباريسية تخطر بين عشاقها..
إن من يريد أن يؤرخ للحياة من مصر، فليؤرخ لنسائها دون رجالها، فالرجل في مصر، دون الرجال في الدنيا، بطبيعة الذكورة، وبخصائص الفكر.. ولمحة الذكاء، وبسطة العلم.. وبأن قوى الأنوثة فيها تطغى على قوى الرجولة فيه..
وإنك لدى الأنوثة الغربية، وفيها من آثار التعقل وتعقيده، والرجولة وجفائها، ما يفسد معناها ويشوهه.. ولكنك ترى أنوثة المصرية طرازاً أصيلاً من الأنوثة بمعناها البشري كاملاً.. حتى المتعلمة التي تقلد جنسها العربي.. تخونها طبيعتها.. فلا تكون إلاّ مصرية بجملتها وتفاصيلها، على رغم أنف المقاومة والأفكار..
والحرية الشخصية في مصر -وحرية الكلام فيها- شيء ليس بعده غاية لمستنير.. فالناس كلهم، يأكلون في الشوارع سائرين وواقفين، ويضحكون، ويتبادلون النكات.. حتى نكات الجنس.. والجنسان سواء في هذا..
والرجل في مصر، أفسد الناس في فهمه للمرأة، واحتكاكه بها.. وأنه يجدر بك أن ترى علاقة المصري بالأنثى -أي أنثى- تقوم جداً وهزلاً، وقصداً واعتباطاً، على أن المرأة غانية بفطرتها. على قلة ما يلقى الرجال من الاستجابة، ومبررات هذا الفهم..
والمعارك بين الجنسين تدور ليلاً ونهاراً حيث يكثر الاحتكاك.. وهي معارك لا يخجل الرجل بالهزيمة الدائمة فيها..
والرجولة في مصر منتهكة الحرمة عند النساء.. فقد تسمع أنثى تقول لرجل.. هو أنت راجل، يا بكلاه يا بن الكلب.. يا دم.. بتحسب نفسك خفيف.. اتلهي على شيبتك.. و.. يا واد.. أوه.. أنت عاوز لك جوز.. أو أنتو شباب.. دنتو ستات بشوارب.. أو... أنت علق ناقصاك الرخصة يا صايع..
وقد سخر المصريون -تجاه النساء.. سواء في تقدير أسوأ القيم لكرامة الرجولة وحيائها.. وأنك لترى المطربة "المودرن".. تحتمل غزل الشاب من بعيد وتجرّه خلفها من شارع إلى آخر.. وهو يزداد طمعاً فيها.. حتى تطأ عتبة بيتها.. فتومئ له إيماءة القبول.. فينطلق وراءها إلى الدور الثالث أو الرابع.. ثم تقفل باب "شقتها" في وجهه.. ببصقة أو بكلمة كالبصقة.. فيروح وهو أشد طمعاً فيها مما بدأ..
وقد رأيت كيف تضرب المرأة رجلاً بنعلها وعلى مشهد من الناس، في منظر خاطف.. وكيف تحتمي بالبوليس منه.. إذا أطال مطاردتها.. وكيف يزوغ الرجل وثباً وجرياً إذا أنس الخطر.. وهو يشاطر الضاحكين عليه ضحكهم في مسرة ظاهرة..
وكنت -كالناس هنا- أسيء فهم مصر، وأسيء الحكم على نسائها.. حتى عرفت الواقع.
وصحيح أن مصر كثيرة الضحايا.. ولكنها الكثرة التي تجعلها ضخامة التكاثف العمراني بنسبة معقولة.. أفترى لو تناولنا رذائلنا بالإحصاء.. على غلظ الجميع، وشدة الرقابة، وفظاعة العقاب، ماذا كانت تكون النسبة؟..
قد تعيب على مصر سفور النساء فيها.. ولكن المصلح الاجتماعي يراه ضرورة، فلكل شيء في الدنيا عيوبه ومزاياه.. فقد أدى الحجاب عندنا إلى بوار النساء بواراً أظنه نهائياً ولو كان هذا السائد بين إناث لهن طبيعة الملائكة، لأدى إلى فساد الجنسين.
وليقل قائل أن نسبة فساد السيدات بيننا أقل من نسبتها في أية ناحية من الدنيا.. فما يكون هذا صحيحاً إلاّ بأن نضيف هذا الرقم الضخم من إناثنا الذكور إلى سابقه.. ليكون الحكم أوفى إلى الصحة والعدل..
وبعد فما تحدثت إليك عن مصر حديثاً يتم به معناها في نفسك، كما عرفت.. لكني أجملت الكلام عما تهيأ لي ذكره، مشوشاً، مضطرباً، وحسبك هذه اللمحات. وإلى فرصة أخرى.
أخوك حمزة شحاتة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :573  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج