عندما حل الأستاذ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأستراليا مواطناً له من الحقوق والواجبات ما لأي مواطن أسترالي وذلك عام 1997م، كنت على يقين بأنه لن يغير جلده أو يخلع قدميه من طين ((السماوة)) ليركض بهما في ساحات ومتنزهات ((سيدني)).. بل سيظل أبداً ((طفل النخل في غابات أديلايد)) يحن باستمرار إلى رغيف التنور، وجمرات الوجار، وسعفات النخيل، وشواطئ الرافدين، وعلاقة الإنسان بالأرض والسماء في أرض العراق المرهقة جل تاريخها بغطرسة وصلف حكامها من كل لون وجنس.
لم يخب ظني أبداً، فقد ظل شاعرنا الكبير وفياً لحنجرته ومبادئه وقاموسه.. وعندما أهداني ديوانه ((قليلك... لا كثيرهن)) حسبته يركن ـ ولو لمرة واحدة ـ إلى استراحة محارب يستجمع من خلالها قواه في بلاد الغربة التي صار أحد مواطنيها، بل رمزاً من رموز أدبها المنفتح نحو الآخر بكثير من الحرية والتسامح.. إلا أنه أبى إلا أن يأتي بقصيدة يتيمة أهداها لرفيقة دربه زوجته الفاضلة السيدة أم الشيماء.. ثم عرج على هموم وطنه الأصلي الذي لم ينفك مصدر آهاته ونفثاته وآلامه وذكرياته.. هكذا حال الشاعر الصادق مع نفسه وقضايا وطنه ومواطنيه، يحمل من الهموم ما يثقل كاهله، وينسحب ذلك على جمع من ذويه ومحبيه ومتابعي إبداعاته.. يظل يهفو أبداً نحو مرافئ النور ومواكب النوار ويستجمع شظايا نفسه ليرسم بها فسيفساء الجمال في عالم القبح، ويرتق بها بسمة الطفل الغرير وسط جنون الكبرياء وجراحات الوطن، إنه ساحر الكلمة الذي يعد الناس بولائم العرس الأسطوري فيقدم لهم نهاية كل حفل أيقونة من دم الشهداء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل لقمة العيش وهم يبسطون أيديهم الراعشة وأسمالهم البالية خلف زخات الرصاص وغلالات الدخان المنبعث من آخر انفجار هنا أو هناك.. حتى أضحت أخبارنا المصورة أو المنقولة بالكلمة المسموعة والمقروءة جزءاً من سيمفونية ساخرة، وكوميديا سوداء، لا تعرف الرحمة في زمن استهلكت فيه المشاعر، وغاص الوجدان في وحل النسيان.
هكذا انطلق شاعرنا ((السماوي)) في محاولات مستميتة ليحقق معادلة صعبة لاستنهاض مكامن الجمال وإزالة الغبار والصدأ عن مكوناته وإهابه، فهل استطاع أن يؤدي هذه الرسالة على الوجه الذي يتطلع إليه ويشاركه فيه القارئ؟ إنه سؤال عريض بعرض ((خيمة الوطن)) الذي غرس نفسه نصلاً في جوفه، ولن يستطيع الإجابة عليه إلا القارئ الكريم من خلال منظوره الخاص، وتفسيره وتفاعله مع قصائد هذا الديوان الصغير حجماً والكبير عطاء وألقاً ورصداً لتجاذب الأضداد في النفس البشرية أينما كانت.
كم هو جميل أن نراك أيها ((السماوي)) تحاول أن تحيك الشوك إكليلا لشعب يرتهن يومه بغد أجمل وأروع، يسير في جنازات الأحبة ويرنو إلى أعشاش زُغب قطعاً سوف تُلقي إلى مزبلة التاريخ كل أنواع المهانة، والتخاذل، والذل، والخنوع.. إنها دورة الحياة والأمل الوردي التي لو لاها لما كانت حياة.. وكم هو جميل أن نراك تسقي هذه البسمة الواهنة في جسد وطن يستحق حياة أفضل بكثير مما هو كائن.
وفي هذا السياق يجد القارئ الكريم في داخل هذا الديوان قصائد أخرى تحت عنوان ((نقوش على جذع نخلة)) هي في الواقع ديوان سابق رأى شاعرنا الكبير أن يضمه إلى قصائد أخرى لتصدر جميعها تحت عنوان هذا الديوان الذي بين أيديكم، إضافة إلى قصائد أخرى لم تنشر من قبل.. وكلها ينتظمها خيط واحد هو (الوطن) المهيض، غير أنها تغدو جحيماً يُلوِّح كل من تسول له نفسه بيع الدم ((العراقي)) رخيصاً على مائدة المغامرات الإقليمية أو الدولية، ومواخير المصالح الآنية الضيقة.. إنها نافورة حمم لا تعرف الرحمة، بل تسقي السم الزعاف أي عنصر يخرج عن تصورات شاعرنا وقدره الذي أملى عليه عشقاً أبدياً ينوء به أينما حل في بلاد الله الواسعة، يحمل على كاهله كل موروث بلاد الرافدين التاريخي والثقافي والفني ليرتكز عليه ويرسم لوحات متفردة في حب ((العراق)) كرمز يجري في شرايينه.
فالسماوي حين يتغزل، أو يرسم بالكلمات، أو يتغنى بالطبيعة، فهو في كل الأحوال متلبس بشهود ((العراق)).. ((العراق)) الذي تلطخ بدماء الشهداء والأبرياء، ((العراق)) الذي ينام على صوت الانفجارات ويصحو ليعانق عشرات الجثث مجهولة الهوية.. ((العراق)) الذي ما عرف يوماً القتل بالهوية، فإذا به يصبح ضمن أسلوب حياته اليومية.. وهكذا تتجمع عناصر الفجيعة لتجعل من ((السماوي)) لحناً حزيناً وناياً منكسراً على ذاته، قد يجتر الذكريات، لكنه في كل الأحوال ينتفض في غير مذلة ليحمل سياط الحق ويضرب بها جحافل الظلم التي ما فتئت تقتحم خيام ((العراق)) وتسرق الرغيف والحلم من عيون الأطفال، وذكريات الأطلال.
هنيئاً للعراق بك أيها ((السماوي)) الذي يرشف من قطرات المزن، ويزين أبياته بنور الثريا ليهبط إلى الأرض حاملاً قوارير المسك والعنبر يضعها تحت قدمي حبيبته العراق كي تتجاوز أحزانها وتفرح بغد مشرق يثق العاشق الولهان في أنه حتماً سوف يأتي وإن طال الغياب، فالأرض الولود لا تعترف بالعقم، ولا بمواسم القحط والجفاف واليباب، إنها فترات عجاف لن تلبث أن تنطوي، وتترك المجال إلى أعوام فيها يُغاث الناس وفيها يعصرون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن تهل على العراق سريعاً، وتجعل الحزن سهلاً، وتلهم هذا الشعب الصابر الأبي معاني الصمود والإصرار على البقاء لما فيه خير الأمة جمعاء.
وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.