لم يكن لأي فن من فنون العرب التي أبدعوا فيها، أن حظي باهتمامهم كما حظي به الخط العربي والذي أصبح من بعض أركان رسالتهم حيثما حل الإسلام ديناً وحيثما توطد شأنه، فكانوا أن سعوا إلى كل ما يصونه في قواعد وثوابت، تحد مجرى الحروف وتفترض لكل ضرب من ضروب الخط مقاساته من ناحية، وتفتح من ناحية ثانية المجال واسعاً لكل ما يعزز جهود المتفاضلين في تجويد الفروق بما لا ينال من خصائصه الجوهرية، حتى تآلفت معه كل الفنون والصناعات اليدوية في مختلف الأقطار الإسلامية، فوهبته كل مادة اتسعت له، من خصوصيتها في الرق أو الخشب أو العظم أو الحجر أو الورق أو المعمار أو الزجاج أو النحاس أو مختلف أنواع الأنسجة، ما تطورت به أشكاله وتعددت نماذج حروفه واختلفت أقلامه، وأصبح العلم بفن الخط من فضائل المتعلمين فهو كما يقول الإمام علي: ((من أهم الأمور وأعظم السرور)). وصار للمجيدين في صنعة الكتابة فضل الدالين إلى الخير والإيمان، يحمله كابر عن كابر وصية في عنقه، ويتبارى الحكّام والولاة في رعايته، كما أجمع رجال الدين على اعتباره جهداً مباركاً، حتى أن عبد الله بن العباس الملقب بحبر الأمة قال في أحد الخطاطين: ((إن رجلاً كتب بسم الله الرحمن الرحيم فأحسن تمطيطه فغفر الله له)). وإن الوالي عبد الله بن طاهر رد مظلمة أحدهم لأنها لم تستكمل نفسها في خط جميل: ((أردنا قبول عذرك فأقطعنا دونه ما قابلنا من قبح خطك، ولو كنت صادقاً في اعتذارك لساعدتك حركة يدك، أو علمت أن حسن الخط يناضل عن صاحبه ويوضح الحجة ويمكنه من درك الغاية)).
وكان بعض القادة من المسلمين يوصون بخطاطيهم خيراً عندما تضطرهم أمور الدولة للسفر، وكان كل منهم يحاول جاهداً أن يصل إلى المبرزين منهم وإلى جمع أعمالهم. حتى أنه يروى أن سيف الدولة الحمداني كان يحتفظ بقرابة خمسة آلاف ورقة مكتوبة بخط عبد الله بن مقلة، كما أصبح لكل بلد أن يتفاضل على غيره من البلدان بما أضاف خطاطوه من جديد يشد به إلى نسب إليه.
وإذا كانت الكوفة قد اعتمدت الخط الكوفي وأولته من رعايتها له ما مد سبباً لانتسابه إليها، وما كان لها منه مذهب في الكتابة تنافس به غريمتها، البصرة على مثل ما كانت تنافسها في مذاهب أخرى في النحو واللغة والفقه، فإن مثل هذا الأمر لم يبق مقتصراً على الكوفة، فقد أصبح بدعة كل قطر أو مصر من العالم الإسلامي إن مكنّته ظروفه من إضافات إبداعية مهمة، فيوم أن عرفته إيران كان لنا منه ((الخط الفارسي)) متمثلاً بروائع لا تجاري، ويوم أن استقر في تركيا جندت له من يبدعون فيه، وحسبك في ذلك ما كان لهم من جهد إبداعي في ((الديواني)) والطغرائيات الرائعة، وإن شد رحاله إلى المغرب العربي اشتقوا له من الكوفي القديم ضروباً لا يحدها حصر ولا تنظمها قواعد مما مد الخطاط المغربي بحرية واسعة في إبداعاته، وإذا ما صار إلى الهند ابتكرت لنا كوفياً هندياً، ويوم أن مر بالصين أعطته من جمال خطها ورهافة فرشاتها ما أغنت رحلة هذا الخط. وذلك أن تضيف إلى ذلك كله ما أبدعه الفاطميون في ((التوريق الفاطمي)) للخط الكوفي وما تواصلت معه من جهود في الزخرفة، وفي رسالة لأبي حيّان التوحيدي عن علم الكتابة يذكر من أنواع الخط الكوفي وحده والتي شاعت على أيامه، اثني عشر نوعاً كالإسماعيلي والمكي والمدني والأندلسي والشامي والعراقي.. الخ.
كان لاعتداد العربي بلغته واعتزازه بآدابها وحكمها،وذلك منذ أن وعى بعض أروع مظاهر حضارته فيها، ومنذ أن كرمها الله باختيارها لغة كتابه العزيز وأقسم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (القلم: 1)، لقد كان لاعتداده بما تناقلته شفته من روائع هذه اللغة، إن شحذ همته في أن تكون لبوس الكلمة المسموعة على مثل مستواها في الكلمة المكتوبة وبما يماثلها من علو الشأن، فإذا كانت الأولى روحاً فلتكن الثانية الجسم المجسد لجمال الروح ((فالخط هندسة روحانية بآلة جسمانية))، كما يقول المستعصمي وقد ورد في مأثور كلام العرب الكثير مما يشير إلى التعاضد ما بين ما هو مكتوب وما هو مسموع كقول الفارابي بأن ((الخط أصيل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد))، أو قولهم ((حسن الخط إحدى الفصاحتين)) ومثله قولهم ((الخط لسان اليد وبهجة الضمير))، أو قول عبد الحميد الكاتب ((البيان في اللسان والبنان)).
هكذا اجتمع للخط العربي كل ما يؤكد ازدهاره وينوّع أشكاله ويشد به إلى زخارف غنية بجمالياتها الهندسية والورقية، فيستقيم له أن يقوم فناً متكاملاً يتخطى مهمته في الكتابة إلى نزوع في الفن التشكيلي، وهو ما أغرى بعض الأوروبيين من غير المسلمين على أن يوظفوا الخط العربي في بعض عماراتهم وتحفهم، على مثل ما عثر عليه من جملة ((باسم الله)) مكتوبة بالخط الكوفي على صليب برونزي من آيرلندا يعود إلى القرن التاسع الميلادي، وللباحث في هذا المجال أن يقع إلى العديد من الأعمال الفنية لرسامين ونحاتين من القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حافلة بنماذج من الخط العربي ومنها صورة للعذراء لفنان إيطالي اسمه ((يتونوتسي)) وأخرى باسم ((احترام السجين)) لدافيريانو، منها أيضاً قطعة نحتية لاندريه فيروكيو (1435 ـ 1488) أستاذ دافينشي. وهناك أمثلة للخط في العديد من الكنائس الأوروبية، وقد أفرد الدكتور صلاح العبيدي لهذا الأمر دراسة نشرتها له مجلة ((آفاق عربية)) في أحد أعداد عام 1979، وجاء فيها: ((ويتضح أثر الخط العربي أيضاً على أبواب الكنائس الأوروبية مثل كنيسة ((نوتردام)) في لابوي، وكنيسة ((لافوت شهاك)) وكنيسة ((بيتور في البا)) وكنيسة ((القديس بطرس)) في هيرو في فرنسا، ففي باب كنيسة ((لابوي)) كتابة محفورة في الخشب باللغة اللاتينية إلى جانب كتابة بالخط الكوفي تمتد في جوانب وأعلى هذا الباب. ويبدو أن الكتابة تكرار لعبارة ((الملك لله)) وفي باب كنيسة ((هيرو)) نجد زخارف مشتقة من الكتابة العربية بالخط الكوفي. ولم يقف استخدام الكتابة العربية عند هذا الحد بل إننا نجدها أيضاً في مكان كان المرء يتوقع أن يجد فيه نزوعاً مسيحياً بارزاً، أنه شاهد قبر مكتوب باللغة العربية أقامه الملك غريزاني في سنة 1149م لأمه المتوفاة في كنيسة شيدت خصيصاً لها)).