سطر..بدفء حمامة! |
(1) |
• هذه الليلة لها!! |
ورغم هذه "الملكية" الخاصة بها فيه.. إلا أنها - هذه الليلة - ترفضها.. تهرب منها. تتحاشى صوته، حتى لا يطلب منها خصوصية الحوار، وخصوصية النظرة، وخصوصية الوقت الذي يضمهما معاً.. دون أن ينغص صفوهما، وتوحدهما عزول، ولا شريك! |
ولكنها - هذه الليلة - لا تريده. |
احتارت كيف تصده.. دون أن يغضب، أو أن يحنق عليها! |
انفعاله سريع جداً. |
وهي الآن تسترجع بعض كلماته لها: |
ـ صدقيني.. أنا لا أفتعل الخصام معك، أكثر من هذا الحرص.. فإنني ألوم نفسي كلما أغضبتك، أو آلمتك، أو مارست استفزازي عليك. |
ـ سألته: ولماذا تستفزني.. |
تحطم أعصابي، فأثور عليك؟! |
ـ أجابها: لعله الحب الشديد لك، والغيرة عليك.. هذه التي |
تحرقني في اليوم مئات المرات.. |
ـ قالت: ولكن.. لماذا تغار. |
ألست تثق في مشاعري الخالصة لك، ألا تحس أنك "الرجل" المتربع في سويداء قلبي؟! |
(2) |
استرجعت هذا الحوار المبتدأ |
بينهما، والمتواصل دوماً.. |
كلما احتدت الكلمات. |
وساءلت نفسها مندهشة في منتصف هذا المساء: |
ـ حقاً.. لماذا أرفضه هذه الليلة؟! |
لم تقدر أن تفصح عن شعورها المفاجئ هذا في أذنيه. |
وشغلتها الحيرة، ورمتها في هواجس عديدة، وفوق أسئلة مدببة! |
إنها تعرف نفسها جيداً. |
ليست هذه المرة الأولى التي ترغب فيها أن تخلو إلى نفسها، |
وتنعزل عن مجتمعها، وصديقاتها، وهواتفها. |
مجرد "حس" غير عادي.. يدفعها أن تدخل إلى غرفتها الخاصة، وتغلق الباب عليها من |
الداخل، وتتدثر بلحاف سريرها جيداً، وتشرد بها أفكارها، وهواجسها، ومعاناتها، وهمومها، وطموحاتها، وأحلامها. |
زحام عجيب من الصور، والمواقف، والأصداء. |
وزحام أكثر كثافة.. في استرجاع جانب من شريط العمر، والذكريات، والتجارب. |
وقد شعرت بحميمية لصيقة بأن تعيش هذه الليلة مع هذا الزحام الذي توافد على نفسيتها، وتذكرها، وتأملاتها. |
ـ وعادت تسائل نفسها: هل هذا هو السبب الوحيد الذي جعلني أهرب من لقائه، والجلوس معه، والدفء الذي أحسه دائماً بقربه؟! |
ربما كان هذا السبب دافعاً منطقياً لرفضها. |
ويخايلها سؤال آخر.. ما لبثت أن ابتسمت لهذا السؤال في أصدائه! |
ـ ترى.. هل برد حبي له؟! اختلجت قليلاً، وسرت هذه الرعشة تلف جسمها الممشوق.. |
وكانت ابتسامتها مرتبطة بهذا الخاطر الذي فاجأها، وبتخيلها لشكله هو.. حين يعرف أنها قصدت ألا تراه هذه الليلة، فيبادر بانفعاله المعهود أمامها، ليقول لها: |
ـ لابد أن الملل قد اصطادك.. |
أصبح حبي عادياً في حياتك، وشعرت أن عاطفتك نحوي قد أصيبت بالصميم، وبالثلج! |
(3) |
حتى الآن.. مازالت تعاني من حيرتها، أمام هذا الموقف الصعب! |
هو الذي أبلغها بقدومه. هو الذي جذب إصغاءها، وغسله في دفء صوته، حينما كان يصور مدى اشتياقه لها. |
تذكرت الآن شيئاً مهماً.. لعله فسره بطريقته المعتادة! |
فعندما كان يتدفق صوته في سمعها.. معبراً عن حرارة اشتياقه لها، كانت هي - على الطرف الآخر - تتلقى هذا التدفق باعتيادية ملحوظة.. لم تكن تتجاوب مع دفء عباراته وتعبيره، ولكنها كانت تصغي، وكأنها مذهولة، أو شاردة بعيداً، بعيداً عنه! |
ـ صحيح.. ترى ماذا حدث لها؟! |
كانت تشتاق إليه كثيراً.. تتمنى أن تراه كل لحظة. تغار عليه من وقته الآخر الذي يقضيه بعيداً عنها، ويتحدث مع غيرها. |
كانت تسأله: متى ستأتي؟! |
هذه الليلة بالذات.. سقطت في الحيرة، والاستفهام، والدهشة. |
هل من المعقول أن عاطفتها قد فترت نحوه؟! |
إنها تحبه بكل إحساسها. تفكر فيه كل لحظة. تتخيله. تركض إليه كلما دخل عليها. |
فماذا حدث هذه الليلة؟! |
لعلها ضاقت ذرعاً بأسئلته المتلاحقة. بغيرته الحارقة. بملاحقته لها. |
المرأة تحب الرجل الذي يغار عليها، ولكنه - أحياناً - يعذبها. لا.. بل هو يعذب نفسه أكثر من نفسها. يتألم. يثور. يحترق. ومرة رأته يبكي! |
قالت له: لا أحب منظر الرجل وهو يبكي.. المرأة فقط - هي التي تبكي! - |
ـ قال لها: الرجل لا يبكي دائماً مثل المرأة، ولأبسط الأسباب.. لكنه يبكي في الصدق. يبكي في القهر. يبكي في العجز. يبكي عندما يحب بأعماق قلبه، وهذه الدموع لحظتها تنزلق من أجله حتى لا ينفجر.. حتى لا |
يتسلط.. حتى لا يتحول إلى ألم مضاعف.. لذلك هو يبكي! |
لماذا تتذكر كلماته الآن.. وهي التي أصرت هذه الليلة أن ترفضه؟! |
ـ يا الله.. إنني أكاد أنفجر. |
أريد الإجابة الحقيقية التي تفسر تصرفي هذا. عذاب أن لا نعرف: لماذا فعلنا تصرفاً ما! |
(4) |
رن جرس الهاتف بجانبها.. بقيت تتطلع إليه. ما زالت في قمة حيرتها: ترد، أو تصمت؟! |
لم تستطع المقاومة. اشتاقت إليه رفعت سماعة الهاتف. فوجئت بصوت صديقتها، قالت لها مازحة: |
ـ غريبة.. تليفونك غير مشغول! |
حتى صديقتها القريبة منها لا تريد أن تثرثر معها. أنهت المحادثة بسرعة. |
أطفأت ضوء "الأباجورة"، وبقي ضوء التلفاز وحده يواجهها، ولكنها لا ترى الصور على الشاشة. هنا في رأسها شاشة أكبر. صور مختلطة ومتناقضة. |
فشلت أن تنفي هذا الرجل من تفكيرها. وفشلت أن تجد إجابة عن سؤالها: لماذا لا تريده هذه الليلة؟! |
كانت مدعوة عند صديقة لها.. تحتفل بميلادها. حتى هذه الدعوة رفضتها في داخلها. |
ـ هل هي متوترة؟! |
ـ أبداً... إنها تنعم باسترخاء نفسي فقط... تريد أن تبقى مع نفسها. وحدها وصمت غرفتها. وحدها وأفكارها وحدها وما ترغب أن تسترجعه من أعماق نفسها، ولا تبوح به لأحد! |
تعرف أنه دائم الأسئلة إلى حد الاستفزاز معها. يسألها عن شريط حياتها. عن ذكرياتها. عن ارتباطاتها والتزاماتها. |
ـ يقول لها: أرفض أن أبقى في حياتك نداء تطلقينه حين تريدين، وفي نفس الوقت تحتفين بنداءات الآخرين عليك.. تخافين أن يتألموا من رفضك لمشاعرهم! |
ـ تقول له بحدة: المشاعر لا تمنح إلا لشخص واحد. قلبي لك. وحدك تسكنه.. فلماذا لا تصدق؟! |
ـ يقول لها: ولكن اهتمامك بالآخرين يماثل اهتمامك بي، إصرارك على استمرارهم في حياتك.. مشاركة لي في عواطفك! |
ـ تقول له: إنني لا أطيق إيلام أحد. إفهم هذا جيداً، ولا تكن أنانياً. |
(5) |
استوت فوق سريرها.. كأنها تذكرت شيئاً. قالت لنفسها: |
ـ لو اهتم هو بامرأة أخرى غيري.. ماذا كنت سأفعل به؟! |
هذا سؤاله الدائم لها. لكنها تحبه هو. تسكن إليه هو. ترتاح معه هو! |
وحاصرتها الأسئلة. عصفت بها الحيرة. شعرت بصداع شديد. |
لقد رفضته هذه الليلة، فثار.. اهتاج، وأخذ يهذي بكلمات جارحة! |
أحزانها تتعاظم، وتتصاعد بعد ذلك من حشاشتها. |
ولكنها قررت أن تكون هذه الليلة لها.. كأنها "حمامة" بيضاء وادعة، تفر إلى الدفء من ثلوج قاسية تتراكم صقيعاً في صدرها. |
يحتاج الإنسان في لحظات شفافة إلى التوحد مع نفسه.. إلى سماع داخله.. إلى مراجعة مشواره الطويل. |
لقد ظن أنها تكرهه هذه الليلة.. لكنها كانت تفر منه كحمامة، لتعود إليه بعد ذلك كعش! |
إنه الفرار من اقتحامه لحياتها.. من تسلطه على مشاعرها وأفكارها.. من أنانية امتلاكه لها! |
(6) |
لقد انتهت الليلة التي لها.. ولم تكن أكثر من سطر بدفء حمامة! |
وبقيت الأسئلة تتجدد مع الصباح القادم، وحيرتها تتضاعف.. كأمواج بيضاء، تتدافع من وسط البحر، لتتكسر عند شواطئ نفسها!! |
|