الإجازة |
ـ نحن ننشغل بالتفكير في الراحة.. ننشغل بالبسمة،
|
وبالخدعة المقبولة.. ونعجز أن نقلد العجائز في النوم
|
المبكر!!
|
ـ 1 ـ |
ـ جوال.. تأخذه الطرقات.. يبعده الزحام عن ((التفنيط)). |
تساقطي - إذن - أيتها الأقفال المصنوعة من التعب. وخرس الصمت. والوحدة! |
جوال.. الليل مليء بالناس.. مزدحم بالأضواء. ولكن هذا الامتلاء.. هذا الزحام في الصدور والطنين الداخلي للنفس. ترتمي نهاية الليل عند ابتدائه. |
يزم الشفتين.. يصفر يضغط على البنزين، فكل هذا الازدحام في الشوارع هو سيارات.. صخب.. قلق، ولكن النفوس فارغة. |
تمتد أصابع يده إلى راديو السيارة.. يعجبه صوت المغنية الفرنسية التي لا يعرف اسمها.. يردد مع صوتها أغنية قصيرة تقول: |
ـ ((لا ندري متى نغني.. |
لأننا عندما نشعر بالسعادة لا نسأل))!! |
اليوم.. هو أول أيام الإجازة. |
هكذا يفعل الناس حينما يؤجلون أعمالهم، ويبتعدون عن كدهم، ويهربون إلى الراحة من تعب يومي متواصل! |
ـ لماذا يحتاج المرء دائماً إلى فترة من الكسل.. من الهروب والاختباء؟! الصدى لا يجيب، ولكنه يحدث نفسه، ويبتسم بشفاه البلهاء.. سأم... |
ـ إيه... إلى أين؟! |
ما زال يحادث نفسه كالمعتوه: |
ـ وهل كل هؤلاء الذين يمشون من حولي وأمامي وخلفي عقلاء.. سعداء؟! |
ما زال يتلفت، وقدمه تضغط على البنزين.. |
ـ لا بأس.. كل الناس مثلي!! |
انعطف بسيارته إلى عدة أزقة في ((العمارية)).. بعد أن توقف أمام ((فترينات)) الشاورما. |
واشترى سندوشتين! |
ـ إنني جائع. المعدة بسيط جوعها أو هوووه. والعقل الجائع، والقلب الجائع؟! يا ولد كل شيء الآن في إجازة! |
أمام بيت قديم من دور واحد توقف. هذه ((دار))! سينما في الهواء الطلق. إنه يشاهد فيلمين الآن بعشرين ريالاً. قبل عام كان يدفع عشرة ريالات فقط. معليش.. كل شيء ارتفع سعره، فلا أقل من أن يرتفع سعر المتعة. |
دخل إلى ((حوش)) كبير رصت فيه حتى آخره الكراسي الحديد الصدئة.. |
ألوان من الناس: ينطلون على ثوب.. على فوطة.. على حذاء زنوبة صوت ((طرقعة)) الفصفص.. فلا بد أن يعمل الفم.. كل هؤلاء جاؤوا لرؤية امرأة.. لا تهمهم القصة.. لا يهمهم الحوار في الفيلم. المتعة أصبحت رخيصة يا خلق الله! |
ـ السيجارة؟! |
ـ ها؟!.. لا متشكر.. إنني لا أدخن. |
تنبه إلى هذا الصوت بجانبه. صاحبه رجل تخطى الخمسين، ولكنه يبحث عن المتعة المتحركة فوق الجدار! |
ـ الأطباء يقولون: حافظوا على صحتكم لتطول أعماركم. الطب يقول: إن التدخين يسبب السرطان يا سيدي.. الأعمار بيد الله، وإلا أيه يا أخ؟! |
ـ ها!!. صحيح صحيح. |
يمد يده إلى جاره وهو يبتسم بشفاه البلهاء: |
ـ طيب. حيث كده هات سيجارة! |
ـ ولكنك لا تدخن كما تقول؟! |
ـ واحدة لا تقتل. في كل شيء يا أخي تأكد أن واحدة لا تقتل. سيجارة واحدة لا تقتل. امرأة واحدة لا تقتل. تجربة واحدة لا تقتل. كحة واحدة لا تقتل! |
ـ يبدو أنك سعيد؟! |
ـ السعادة نسبية يا أخ. |
ـ نسبية يعني إيه؟! |
ـ آه.. نسبية بنت أم نسبية! |
ـ لازم دا اسم بطلة الفيلم؟! |
ـ لا. هات سيجارة. |
ـ هادي السيجارة من النوع الإنجليزي الفاخر. |
ـ يمكن علشان كده باردة. سيجارة لها طعم التبغ ورائحته ولونه، ولكنها مصنوعة من ورق يسمى ((السيلولوز)) ويمكن للمدمن عليها أن يستهلك منها الكثير دون أن تضر بصحته. |
ـ لكن السجائر الإنجليزي حارة.. اللي تقول عليها دي ((الكنت))! |
ـ شفت إنك مدمن. علم ما شاء الله.. علم! |
((يهمس لنفسه: ليت هذا العلم في شيء مهم؟!! |
ـ ماذا قلت؟! |
ـ ها.. لا أبداً.. باقول الدنيا حر، وأتأخروا في عرض الفيلم الأول. |
صمت جديد يلفهما رغم الضجيج الذي يملأ ((الحوش)).. |
أطفئت الأنوار، وبدأ عرض مقدمة الفيلم.. |
ضاعت حلقات الدخان في مساحة عريضة غير مرئية. فضاعت نظراته في مشاهد الفيلم. |
ـ 2 ـ |
كأنه استيقظ.. كان في جولة سياحية لمدينة هونولولو. المرأة هي المرأة. والذي يتغير هو الفستان الموضة.. حتى ولو كانت المرأة تتحرك فوق الجدار!! |
الساعة بلغت الثانية بعد منتصف الليل. يقترب بسيارته من الشاطئ. لو كانت عنده زوجة وأولاد لما استمر في هذه ((الصرمحة))، ولكن.. لو كان ((بعلاً)) لما استمتع بهذه الحرية! |
قدماه تمضيان به فوق رصيف الشاطئ.. |
الصمت يلف الليل والمكان والسماء.. لا أحد معه، ولا أحد له.. وكل الحياة في صدره. |
نحن ننشغل بالتفكير في الراحة. ننشغل بالبسمة، والخدعة المقبولة، ونعجز أن نقلد العجائز في النوم المبكر! |
سيارة صغيرة تطير فوق الأسفلت.. كفراتها ((تفحط)) الطريق.. |
ـ يا ساتر.. إلى أين يذهب هذا المخلوق بكل هذه السرعة؟! |
حتى عندما يبحث الناس عن الراحة.. يرتضون ويضيعون. ضاع في الظلام والصمت. |
الدنيا بدأت تبرد. رغم الرطوبة الشديدة هو يشعر بالارتياح.. |
دخل سيارته وأقفل الزجاج.. |
إنه يجرب أن ينام وهو جالس.. تماماً كما جرب أن ينظر إلى المرأة، وهي صورة متحركة على الجدار!! |
ـ 3 ـ |
خرج من المطعم. الشمس حارة والناس يهربون إلى بيوتهم للاستمتاع بالقيلولة. |
فراغ يا أحمد يا ولد عبد الصمد.. فراغ!! |
أطبقت أصابع يده على الجريدة. حرب بيروت لم تهدأ. الفتنة كالنار في الهشيم. العالم العربي هو الهشيم.. من يشعل النار؟! |
ـ يا شيخ.. خلاص سئمنا وأنا مالي؟! |
يقرأ: الموت حصد كل شيء. الألوان أتحدت في اللون الأحمر القاني.. قاني! |
فتاة لبنانية.. الموت حصد أسرتها كلها في ((الشياح)).. ذهبت تجري تبحث عن حبيبها.. خطيبها الذي كانت ستزف إليه قبل عام ونصف.. يوم اشتعلت الحرب الأهلية.. إنه الآن يضع حول إصبعه بقايا رصاصة بدلاً من الدبلة. الآن لم تجده.. لقد قتل! |
واصلت ركضها.. انضمت إلى المقاتلين.. تحولت إلى فدائية. لم يبق شيء قطُّ.. قطُّ. |
ـ يا شيخ.. أنا في إجازة سآخذ فنجاناً من القهوة! |
بقي وحده. جلس يحدق في حفافي الفنجان. تذكر. قام إلى جهاز التسجيل وأداره: |
ـ و ((طريقك يا ولدي مسدود مسدود))!!.. هذا ((عبحليم)) بيغني! |
ـ طيب ما أنا عارف. عمي يرفض أن يزوجني ((هالة)) ابنته لأنه ليس عندي فيلا امتلكها، ليس عندي سوى عشرة آلاف، وهو يريد أن تنام ابنته في غرفة نوم قيمتها ثلاثون ألفاً!! يغور الزواج، وعمي، وهالة، وكمان تغور غرفة النوم! |
((بصرت ونجمت كثيراً.. |
وأميرة قلبك يا ولدي في قصر مرصود.. مرصود))!! |
قليلاً من ((اللمة)) في عينيه في صدره، أو حتى في يديه. اندلقت قطرات من القهوة على بيجامته. |
ـ ((أنت يا ولد فاشل.. ما أنت قادر تلم لك قرش.. كيف أزوجك بنتي))؟! |
ـ يغور الزواج يا عمي.. ما بدي بنتك.. قرص عليها العيش. تغور قارئة الفنجان. ودي نومة.. القيلولة حلوة!! |
يحدق في الجدار: |
ـ المرأة هي المرأة.. سواء كانت تمشي، أو فوق سرير.. أو على الجدار!! |
ـ 4 ـ |
الإجازة تسكع.. فرجة على الناس، وفرجة الناس عليك.. |
يفكر.. ما الذي يفعله في الإجازة. يفكر أن يذهب إلى ((اللونابار))! |
ـ عيب يا ولد تطلع ((الدويخة)) وتنزل ويضحكوا الناس عليك. طيب فين أروح.. فين؟! |
هذا ((استريو)). ألوان. شيء أحمر، وأصفر، وموف، وصراخ توم جونز مع شكوكو.. مع وردة. مع محمد عبده وطلال.. |
ـ ندخل يا ولد.. وراح نخسر إيه؟.. يمكن كم ريال قيمة شريط.. هو شيء جديد! |
ـ تؤمر.. تحب الأغاني الجديدة لطلال.. عندنا شريط لأغاني المطربة سعاد توفيق! |
قال له البائع في الاستريو هذه الدعاية! |
ـ هس! |
ـ حاضر.. بس والله صوتها غريب وحلو! |
ـ تطلع مين دي سعاد توفيق مطربة...!! |
ـ كله يا أستاذ.. بس أنت تطلب. |
ـ أبغي شريط مسجل عليه.. مسجل عليه ولا شيء! |
ـ آه.. أنت دمك خفيف تقصد شريط خام؟! |
ـ هوا بقى شيء خام يا أخ؟! |
ـ طيب طلبك إيه.. وإلا أنت طفشان بس؟! |
ـ لا.. عندي إجازة. أبغي شريط لموسيقى قديمة اسمها: شهرزاد.. لكارساكوف! |
ـ كارسا إيه.. مين دا؟! |
ـ دا كان فاتح استريو.. أنت ما تعرف كار ساكوف؟.. دا يا سيدي منلوجست! |
ـ ها.. لا متأسفين. عندنا شريط مسجل عليه مدرسة المشاغبين! |
ـ يعني هو فضل أحد ما هو مشاغب؟.. سلامو عليكم! |
ـ 5 ـ |
الساعة الآن الحادية عشرة والنصف. موجز أنباء التليفزيون. |
ـ خلاص.. انتهت السهرة. ثم تنام! |
قام يتجول في الشقة الصغيرة. علبة سردين ملقاة في ركن الغرفة. جريدة فيها بقايا خبز. ثوب متسخ ومهمل فوق السرير. |
قذف بالثوب إلى الأرض.. أمسك بديوان شعر قديم اشتراه ذات يوم من بيروت قبل عامين.. إنه لم يفكر في شرائه.. لكن ((سعاد)) الفتاة التي تعرف عليها هناك نصحته أن يشتري هذا الديوان. |
تحولت ((سعاد)) إلى فتاة جدار... مجرد صورة مرسومة في ذهنه.. ذهنه هو الجدار! |
ـ من سنتين يا ولد يا أحمد ولم تقرأ هذا الكتاب.. خيانة إيه دي؟! |
أمسك الديوان يقلبه. اسمه: معزوفة لدرويش متجول.. يضحك: |
ـ والله ما درويش إلا أنا نشوف الدرويش المتجول.. صحيح متجول زي حضرتي؟! |
يستعرض الصفحات. يتوقف قليلاً وهو يقرأ بصوت مرتفع: |
ـ ((فأنا جسد.. حجر شيء عبر الشارع. |
جزر غرقى في قاع البحر. |
حريق في الزمن الضائع))!! |
أخرج لسانه. اغمض عينيه والكتاب على وجهه.. يريد أن يفعل كما العجائز. يريد أن يحلم بصور مرت بالأمس. |
الأمس، واليوم، وغداً.. الشبه واحد.. لا شيء يتغير! |
|