شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شيخ الأمناء
أمين الخولي
لم يكن النشاط الأدبي في النصف الأول من هذا القرن العشرين موقوفا على الجماعتين الأدبيتين المعروفتين اللتين طار صيتهما في سماء الأدب، وأعني بهما:
(1) مدرسة العقاد والمازني وشكري، ومن ذهب مذهبهم، وثقف ثقافتهم العربية والإنجليزية، ونهلوا من هذين المنهلين، ودعوا إلى تجديد الأدب العربي عن طريق وصله بالآداب الأوروبية، وفي مقدمتها الأدب الإنجليزي، وتعبيره عن الحياة الجديدة التي وصلت النهضة الحديثة إلى كل جانب من جوانبها المادية والفكرية والفنية.
وقد وصف العقاد مذهب هذه الجماعة بأنه مذهب إنسانيّ، مصريّ، عربيّ.
إنساني، لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان، خالصاً من تقليد الصناعة المشوهة، ولأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح الخواطر الإنسانية عامة، ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة.
ومصري، لأن دعاته مصريون، تؤثر فيهم الحياة المصرية.
وعربي، لأن لغته هي اللغة العربية.
وقد أطلق بعض المعاصرين على هذه الجماعة (جماعة الديوان). وقد قلنا رأينا في إطلاق هذا الاسم على تلك المدرسة في غير هذا المكان.
(2) جماعة أبولّو: وهو اسم المجلة الشهرية "أبولّو" التي أنشأها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وأبو شادي هو الذي أطلق على نفسه وعلى أشياعه اسم "جماعة أبولّو" فقد كتب تحت اسم مجلته أنها "مجلة فنية لخدمة الشعر الحي" وأنها من إصدار جماعة أبولّو. وقد أسند أبو شادي رياسة هذه الجماعة إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، إلى أن توفاه الله بعد شهر من صدور العدد الأول، فأسند رياستها إلى خليل مطران. وقد انضم إلى هذه الجماعة بعض الشعراء مثل أحمد محرم.
وقد استطاعت مجلة "أبولّو" أن تبرز في ساحة الشعر عدداً كبيراً من شعراء الشباب إذ ذاك، من أمثال إبراهيم ناجي، وعلى محمود طه، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وحسن كامل الصيرفي، ومحمود حسن إسماعيل، وصالح جودت، ومختار الوكيل، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم من شعراء الشباب في مصر والمهجر والعالم العربي، على الرغم من أن هذه المجلة ماتت في عمر الزهور، ولم تعش أكثر من عامين إلا قليلا..
ومعنى ذلك أن هاتين الجماعتين قد قامتا على أساس من الإحساس بحاجة الحياة الأدبية إلى الفن الشعري في عالمنا العربي إلى النهوض وبعث الحياة فيه، ليصل إلى مستوى الآداب في العالم المتحضر الحديث.
وإلى جانب هاتين الجماعتين برزت مظاهر التجدد في أعمال بعض الأدباء الذين استقلوا بشخصياتهم المتميزة بعيداً عن هاتين الجماعتين من أمثال مصطفى صادق الرافعي، والدكتور طه حسين، والدكتور محمد هيكل، وأحمد حسن الزيات.. وغيرهم..
* * *
وقد أبى الأستاذ أمين الخولي إلا أن يركب متن الزعامة في عالم الأدب، فأنشأ جماعة ثالثة سماها "جماعة الأمناء" لتكون مدرسة "للأدب والحياة" أو مدرسة "الفن للحياة".
وقد كانت هذه المدرسة الجديدة تختلف اختلافاً ظاهراً عن المدرستين السابقتين، وذات سمة متميزة، ودعوة إلى اتجاه جديد في دنيا الأدب.
وقد حدد أمين الخولي بنفسه أهداف جماعته "الأمناء" وجعل شعارهم هذه العبارة "كريم على نفسي".!
أما الأهداف فإن لها جوانب سلبية، وجوانب إيجابية، وهي أربعة أهداف: أولها ألا يكون الفن ارتزاقا وضعياً، ولا تكسبا متجرا، يخدم الشهوات والأهواء، ويحمي الأصنام والأوهام.
وفي مقابلة هذا الهدف: أن يكون الأدب نشاطاً وجدانيا ساميا، يسعد الفرد والأمة، أو يفي بحاجتها، ويحقق في الحياة الكريمة غايتها، كسائر ألوان نشاطها.
وثانيها ألا يكون الفن نسيانا للذاتية، وإهدار للشخصية، يجول في الأرجاء، يرجم بالظن، ويحدس بالوهم.
ويقابل هذا الهدف: أن يكون الفن في مصر من مصر ولمصر، فهو في كل إقليم طابع شخصيته، وصورة نفسيته. وهو في الأقاليم المتواشجة ذو طابع عام وراءه خصائص عامة.
وثالثها ألا يكون الرأي الفني العام توجيه مسيطر، ولا احتكار متجر، ولا تهويش مضلل، ولا وضع يد، ولا مضى زمان.
ويقابل هذا الهدف: أن يكون الرأي الفني العام دقيقاً فنيا متجدداً يستعصي على الاستهواء، ويحكم التقدير، فيذهب الزبد جفاء، ويخلد المجيد على الزمن.
ورابعها ألا يكون درس الأدب وتاريخه تناولا سطحيا، وترديدا تقليديا لما لا يساير تقدم الإنسانية، ورقيّ الحياة الفعلية.
ويقابل هذا الهدف: أن يكون درس الأدب وتاريخه على منهج تصححه الخبرة الإنسانية بالحياة والنفس والجماعة، ويمثل التقدم الإنساني، والرقي العقلي.
* * *
هذه هي تعاليم المدرسة الجديدة "مدرسة الأمناء" كما حددها الشيخ أمين الخولي، وهي مبادئ وتعاليم واضحة تكشف عن أهداف الجماعة وفلسفتها التي تميزها من المدرستين اللتين سبقتاها إلى الوجود.
فإذا كانت المدرسة الأولى تدعو إلى مذهب "إنسانيّ، مصريّ عربيّ". وكانت المدرسة الثانية تدعو إلى "الشعر الحيّ" أيّ الشعر الذي يعبر عن صاحبه، ويتجاوب مع أصداء الشعر الإنساني، فإن هذه المدرسة الثالثة تدعو دعوة صريحة إلى (الإقليمية) في الآداب والفنون، بحيث لا تتجاوز ذاتية أصحابها، وإقليميتهم إلى رابطة الجنس أو أية رابطة من الروابط الإنسانية الأخرى.
* * *
وقد يحسن أن نقف وقفة قصيرة نلقي فيها شيئا من الضوء على شخصية الأستاذ أمين الخولي مؤسس الجماعة ورائدها، وهو أستاذ جامعي كبير، تخرجت على يديه طائفة كبيرة من طلاب العلم في مدرسة القضاء الشرعي، وفي كلية الآداب، وفي الأزهر، يعتد أكثرهم بأستاذيته لهم، وبانتمائهم إليه. فقد كان الرجل محببا إليهم، قريبا إلى قلوبهم، بما كان يتلطف في معاملتهم، ويأخذ بأيديهم، ويدفع عنهم إذا أخذ غيره بتلابيبهم، فكانوا منه أشد بالخلصاء أو الأصدقاء منهم بالتلاميذ أو الأبناء. وكان منهم أشبه بالصديق منه بالمعلم أو الأستاذ.
نشأ الشيخ أمين في قريته "شوشاي" بمركز أشمون بمحافظة المنوفية، وتعلم في كتاب القرية، ثم التحق بالجامع الأزهر، ولم يتم تعلمه فيه، ولكنه التحق بمدرسة القضاء الشرعي، وتخرج فيها سنة 1920م.
وكانت مدرسة القضاء الشرعي تتخير طلابها من خلاصة الطلاب الأزهريين، وتتعهدهم بالتربية، وتأخذهم بحب النظام، وتصقلهم صقلا جديداً بفضل أساتذتها من كبار العلماء، وبحزم مديرها "عاطف بركات باشا" الذي كان يعمل بجد وصرامة على تخريج طبقة متميزة من العلماء والفقهاء القادرين على فهم الدين وفهم الحياة.
وقد تخرج في مدرسة القضاء جماعة من النابغين من أعلام القضاء، وعلماء الفقه والأصول والمنطق وعلوم اللغة من أمثال الأساتذة أحمد أمين، وعبد الوهاب خلاف، وفرج السنهوري، وعلي الخفيف، وعلي حسب الله، ومحمد أبي زهرة، ومحمد الزفزاف.
وقد كانت مدرسة القضاء بنظامها ومعارفها ذات أثر بالغ في تكوين الشيخ أمين، وفي صقل مواهبه، وفي تمرسه بأسلوب الجدل الذي حذقه واشتهر به..
وعين بعد تخرجه في هذه المدرسة إماماً في المفوضية المصرية في روما وبرلين. وكان ذلك تقليداً تحرص عليه الحكومة المصرية إذ ذاك، فتعين عالماً من علماء الدين في كل مفوضية تمثلها في البلدان غير الإسلامية، حتى يظل موظفو تلك المفوضيات وغيرهم من المسلمين على صلة بعقيدتهم، وحتى لا تفتنهم عن دينهم مظاهر الحياة المادية في تلك البلاد الأجنبية، وكان هؤلاء الموظفون في المفوضيات وطلاب البعوث في تلك الديار يرجعون إلى ذلك الإمام فيما يلتبس عليهم من شئون دينهم ودنياهم. وكان هذا التقليد مرعيا منذ عهد محمد على الذي عين الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إماماً للبعثة المصرية في فرنسا.
وقد كان لهذه الأسفار أثرها في إلمام الشيخ باللغتين الإيطالية والألمانية، وقراءته بعض ما كتب بهما مما يتصل بعقليته وثقافته التي حصلها في مصر.
كما كان لهذا الاتصال بالعالم الأوروبي وللتفاعل مع هذه الثقافات الأثر البالغ في نزعة الشيخ إلى التحرر الفكري، ورغبته في التجديد، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من طبيعته الجدلية.
وعاد الشيخ أمين إلى القاهرة ليدرس في مدرسة القضاء التي تخرج فيها، ولينقل بعدها إلى كلية الآداب حتى بلغ فيها درجة الأستاذية، ويرأس فيها قسم اللغة العربية، ثم يترك الجامعة ليعمل مديراً للثقافة في وزارة المعارف، ثم يعين عضوا في مجمع اللغة العربية، حتى توفاه الله سنة 1966م.
ولعل في هذه الإلمامة السريعة ما يكفي للتعرف على شيخ الأمناء، وعلى العوامل التي أثرت في بناء شخصيته.
ومعنى هذه التسمية "جماعة الأمناء" أن الذين ينتمون إلى هذه الجماعة كانوا من الذين استطاع الأستاذ أمين أن يطبعهم بطابعه الخاص، ولعلهم جميعا يعترفون بذلك الطابع، فقد كان كل واحد منهم يذيل توقيعه في آخر ما يكتب بعبارة "من الأمناء"، ليؤكد هذا الانتماء، وليتميز به عن غيره من الكاتبين..
* * *
قلنا أن جماعة "الأمناء" أو أمين الخولي وأتباعه كانوا من أصحاب دعوة واضحة إلى اتجاه أدبي جديد في تأليف الأدب ودراسته ونقده، وهي الدعوة إلى "الإقليمية" التي لا يكون الفن أو الأدب بغيرها معبراً عن صاحبه، أو عن الجماعة المحدودة التي يعيش بينها.
وتجد هذه الدعوة الصريحة في نص الهدف الثاني من أهداف جماعة الأمناء، ونص هذا الهدف: "ألا يكون الفن نسياناً للذاتية، وإهداراً للشخصية، يجول في الأرجاء يرجم بالظن، ويحدس بالوهم.. وأن يكون الفن في مصر من مصر ولمصر، فهو في كل إقليم طابع شخصيته، وصورة نفسيته".
وهي نغمة كانت تتردد في الحياة العامة، وفي الحياة السياسية في فترات من هذا القرن في مواجهة التيار الإسلامي والعربي الجارف الذي تعلقت به مشاعر السواد الأعظم من أبناء الكنانة.
وقد تحمس لدعوة الشيخ أمين جماعة من المقربين إليه من تلامذته الذين كان يلقنهم هذه الأهداف في محاضراته التي كان يلقيها على طلبة قسم اللغة العربية في كلية الآداب. وكان في طليعة هؤلاء الحواريين الدكتورة عائشة محمد علي عبد الرحمن "بنت الشاطئ" زوجته، والدكتور محمد العلائي صهره، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور شكري عيّاد، والدكتور محمد أحمد خلف الله.
ومن أبرز الأمناء التي أنتجتها الدعوة إلى الإقليمية أن نشطت دراسة "الأدب الشعبي" في الجامعة، وأن تكون رسالة عبد الحميد يونس التي أعدها للحصول على درجة الدكتوراه عن "أبي زيد الهلالي سلامة" وأن يعمل في قسم اللغة العربية مدرساً فأستاذاً مساعداً حتى تتيح له الظروف من يعينه على بلوغ القمة في سلك هيئة التدريس في الجامعة، وهي درجة الأستاذية، بعد أن استحدث له كرسي خاص في قسم اللغة العربية، أسموه "كرسي الأدب الشعبي".
وأرجو ألا يفهم من هذا الكلام أنني أحـاول الغض من شـأن الدكتـور عبد الحميـد يونس، أو التشكيك في علمه وفضله، فإنه في رأيي في مقدمة علماء كلية الآداب علماً وخلقاً وأدباً..
ولكن الذي أريد أن أقرره هو أن اتجاه الرجل إلى التخصص في الأدب الشعبي، أو إنشاء كرسي خاص لهذا الأدب في جامعة القاهرة، وتخرج طائفة من المتخصصين فيه، كان ذلك كله بتأثير الدعوة إلى الإقليمية، أو "مدرسة الفن للحياة" التي كان يتزعم الدعوة إليها أمين الخولي.
ويبدو أن النزاعة إلى "الإقليمية"، أو الدعوة إلى العناية بالأدب المحلي كانت مستولية على الأستاذ أمين الخولي قبل تفكيره في إنشاء "جماعة الأمناء" التي حملت هذا الشعار، ودعت إليه في إصرار. فقد قام بتدريس مادة جديدة سماها "الأدب المصري" لطلبة قسم اللغة العربية بكلية الآداب.
ووقف بهذا الدرس عند محاولة التعرف على "المنهج" في دراسة هذا الأدب المصري. ولم تتجاوز هذه الدراسة الجانب النظري، فقد كان الرجل صاحب عقلية فقهية، تجيد الجدل وصناعة البرهان، وكان لا يصبر على القراءة والتحصيل.
وقد ظل يدرس هذا "الأدب المصري" مدة غير قصيرة لم يعرض فيها لنصوص من هذا الأدب كي يستنبط منها معالمه، ويتعرف منها علـى خصائصه، إن كانت لـه خصائص تميـزه عن الأدب العربي في شتي مواطنه وأزمانه، لما يحتاج إليه استخراج النصوص من إطالة النظر في الدفاتر والكتب والدواوين.
* * *
ذلك أثر من آثار "الأمناء" في تأكيد مفهوم "الإقليمية"، ودعم الاتجاه إليها في الدراسات الأدبية.
وربما كان هذا الاتجاه وليد الإحساس بضرورة البحث عن آفاق جديدة للدرس الأدبي ما دامت هنالك رغبة شديدة في التجديد، وما دامت الأبواب المفتوحة في عالم الأدب قد غصت بالرواد من المؤلفين والباحثين والمدرسين، فكان لا بد من البحث عن منطقة مجهولة في عالم الدراسات الأدبية يستطيع دعاة التجريد أو هواة التجديد أن ينفذوا إليها، والإدلال على غيرهم بارتيادها، أو السبق إليها.
على أن العناية بالأدب الشعبي ودرسه وتدريسه في الجامعة كان من الخطورة بالدرجة التي ينبغي أن نتوقف عندها، فقد نجح الدكتور عبد الحميد يونس في تأصيل هذه المادة، وفي تخريج طائفة كبيرة من المتخصصين في دراسة ذلك الأدب، وتبع ذلك كثرة البحوث والمصنفات في الأدب الشعبي.
وكان الذي يتوجس منه المحافظون ويخشونه هو أن تكون العناية بهذا الأدب الشعبي على حساب الأدب العربي، أو أن يؤدي تمجيد العاميات أو اللغة الواقعية إلى التهوين من شأن العربية الفصحى.
ومن عجب أن تتسرب العدوى إلى أكثر البيئات تزمتا وحفاظاً على تراث العروبة والإسلام، وهي جامعة الأزهر التي جنحت في دور "تطويرها" وتجديدها إلى التقليد، فجعلت "الأدب الشعبي" مادة مقررة يدرسها طلاب كلية اللغة العربية، وعهدت بوضع مناهج هذه المادة وتدريسها إلى الدكتور عبد الحميد يونس رائد الأدب الشعبي، ثم إلى تلامذته من بعده !
* * *
وكان من "الأمناء" من تجاوز دائرة هذا التجديد الذي يجد له كثيراً من الأنصار والدعاة، ليرخي لجواده العنان، فينطلق في طريق غير مأهول، غير عابئ بما يعترض طريقه من صخور وأشواك..
وفي رأيي أن هذا السلوك لا يخلو من المغامرة أو المخاطرة التي لا يؤمن فيها العثار، لأن فيها تحديّا لقيم أجمع الناس على الإيمان بها.
ومن ذلك أن واحداً من أقطاب "الأمناء" وهو محمد أحمد خلف الله، أعد رسالة تقدم بها إلى كلية الآداب ليحصل بها على درجة الدكتوراه في الأدب في موضوع "القصص الفني في القرآن الكريم".
وقد درس خلف الله في رسالته ما تحدث به القرآن من قصص الأنبياء، وأخبار الأمم السابقة، وانتهى في دراسته إلى القول بأن قيمة القصص القرآني إنما هي في أسلوبه الفني، وليست فيما تضمن من حقائق تاريخية، أي أنه شكك في صحة هذه الأخبار كما وردت في قصص القرآن!
وقد أحدث هذا الرأي ثورة عارمة في أروقة الجامعة، إذا اعترض على تلك الرسالة أستاذان كبيران هما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ أحمد الشايب، وكانا عضوين في لجنة التحكيم، ورفضا مناقشة هذه الرسالة رفضاً حاسماً.
ودارت معركة حامية الوطيس خارج أسوار الجامعة على صفحات الصحف والمجلات بين مؤيدي المعترضين، وبين المدافعين عن خلف الله بدعوى حرية الفكر التي امتهنت، أو وئدت في الجامعة !
وأصاب رشاش المعركة أمين الخولي أستاذ خلف الله والمشرف على رسالته، ولم يسلم منها مناوئوه من رجال الجامعةّ!.
فالأستاذ أمين الخولي في نظر أشياعه ومؤيديه رائد من رواد حركة التجديد، وداعية في طليعة الدعاة إلى حرية التفكير.
والأحمدان: أحمد أمين وأحمد الشايب في نظر أولئك الخصوم متزمتان، أو رجعيان، أو متخلفان، أو ما شئت من تلك الأوصاف التي يخلعها عادة دعاة التجديد في كل أمر من الأمور على المعتدلين وأهل الحفاظ على القيم الإنسانية التي تعارف عليها الناس، أو على الذين يخالفونهم في الرأي..
وإذا كان الحديث ذا شجون، يجر بعضه بعضاً فإني اذكر أن الصحف المصرية نشرت ذات يوم خبراً خلاصته أن خلف الله رفع أمر رسالته إلى القضاء شاكياً كلية الآداب والجامعة اللتين عوّقتا عمله، وقيدتا فكره..
وأذكر أنني سألت العقاد يرحمه الله في رأيه في تلك القضية، وكان صريح رأيه أن من حق كل إنسان أن يفكر كما يشاء، وأن ينشر ما يحلو له أن ينشره، وليس لأحد أن يحجر عليه أو يسلبه هذا الحق، واستشهد بالآية الكريمة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
قال العقاد: وعلى الذين يخالفونه في الرأي أن يصاولوه ويناقشوه، وأن يقرعوا الحجة بالحجة، وينقضوا البرهان بالبرهان.
ثم قال: ومع الاعتراف بأن حرية الرأي لا يمارى فيها منصف، فإنه لا يجوز للجامعة -وهي أكبر مؤسسة علمية في البلاد- أن تجيز رسالة يشكك صاحبها في شيء يمس العقيدة في بلد دينه الإسلام، لأنها إن فعلت ذلك خرج الكفر باسمها، ودل ذلك على أنها تقره وتضفي المعنى العلمي الرسمي على عمله، أو على فكره الغريب. وهنا تكمن الخطـورة إذا وافقت الجامعة على مناقشتـه أو إجازته !
وأيا ما كان الرأي فقد كانت هذه المعركة مظهراً من مظاهر النزعة التحررية التي أخذ الشيخ نفسه بها، وشجع أمناءه على التشبث بها.
* * *
والواقع أن حركة التحرر، أو حركة التشكيك في المأثور، والتمرد على القيم السائدة كانت قد بدأت قبل ذلك بوقت غير قصير.
وفي رأيي أن ذلك كان أثرا من آثار اتصالنا بالغرب عن طريق البعوث التي أوفدت لتلقي العلم في أوروبا على أيدي علماء غير مسلمين، واطلاع أولئك الوافدين على بعض الاتجاهات الفكرية الجديدة التي سرت في المجتمعات التي انتجعوها، أو عن طريق كتب ترجمت إلى اللغة العربية، وفيها ما يدعو للتحرر والشك والتمرد بدعوى حرية الفكر، أو مقتضيات المنهج العلمي في البحث.
ثم أخذت هذه الحركات طريقها إلى الجامعة في محاضرات الدكتور طه حسين التي كان يلقيها على طلبته في قسم اللغة العربية، وفيما نشره من كتب في مقدمتها كتابه عن "الشعر الجاهلي" الذي يعرف عامة أهل الفكر وعامة أهل الأدب ما أثار من أزمات.
ومن آثار هذه الحركات أيضاً كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي ألفه الشيخ على عبد الرازق، وجر على صاحبه أكثر مما جر كتاب "الشعر الجاهلي" على طه حسين.
حركات متعاقبة يتصل بعضها ببعض، أو هي حلقات في سلسلة واحدة، ما أحوجها إلى دراسات تجمع شتاتها، وتؤلف بينها، وتبحث عن العوامل الظاهرة والخفية وراء شيوعها في هذا القرن.
وربما كان وراء هذه الحركة سر، هو الرغبة في الشهرة عن طريق جذب الأنظار إلى الجديد، ولا شيء أدعى إلى الانتباه من قول يمس عقائد الناس، ويثير فيهم الغيرة على مقدساتهم.
وقد بدأ ذلك في الجامعة تحت شعار "تجديد الدرس الأدبي".
ولعله كان من حسن الحظ ضعف الإقبال على قسم اللغة العربية إذ ذاك. ومن الطبيعي أن يجد الشيخ أمين الخولي بنزعته التحررية طلبته في ذلك المناخ الذي كان هو أحد العاملين فيه، وكان الدكتور طه حسين يمثل فيه دور الأستاذ أو الرائد.
ومن الطبيعي أيضاً أن يركب الشيخ أمين تلك الموجة، وأن يساير ذلك الركب، وهو يشير إلى ذلك في قوله:
"دخلت كلية الآداب في أواخر عام 1928م، والجو كله منتعش منعش يهفو إلى الجديد، ويشعر بثقل الوقوف الجامد لدراسة العربية وعلومها منذ مئات السنين، وقد قامت المعركة الكبرى بين المتشبثين بهذه الحياة يحاولون بثها في تلك الدراسات وكتبها ورجالها، وبين المتوقفين فـي ذلك كلـه المناضلين دون أيسره، بدأت المعركة في الجامعة، بل في كلية الآداب دون غيرها، وتطاير شررها، وانتشرت شظاياها على المعاهد التي تدرس اللغة، كدار العلوم والقضاء الشرعي".
ثم يقول: "كنت إثر عودتي من أوروبا إلى مكاني في مدرسة القضاء أدرس مواد من الثقافة الإسلامية، فإذا هذا الشرر وتلك الشظايا تفزع القائمين بتدريس العربية وأدبها، وتنفرهم عن مكانهم.. وكنت متصلاً بأبناء هذه المعركة وأنا في أوروبا حيث تفيض الدنيا جدة وتوثبا. ولكني كنت أقف فيها موقف غير المحارب الذي لا يكره انتصار المهاجمين فيها، ولا يتشبث بهزيمة المعاندين أو المدافعين" !!
تلك مشاعر الشيخ أمين تجاه تلك المعركة كما صورها بقلمه في مقدمة كتابه "فن القول".
ولا أستطيع القول بأنه أرخي العنان المطلق لتلك النزعـة التحررية ولكني أستطيع أن أقـول ـ وقد عرفت الرجل عن كثب ـ إن شخصيته تختلف اختلافا كبيراً عن شخصيات أقرانه من رجال مدرسة القضاء الشرعي الذين أشرنا إلى بعضهم فيما سبق.
* * *
وأستطيع أن أقول أيضا إنه كان متردداً بادي القلق من هذه الناحية على الرغم مما عرف عنه من الحزم والمضاء، والعنف في بعض الأحيان. وقد صحبه هذا التردد، وعاش معه فترة طويلة من حياته في الجامعة وخارجها.
وفي رأيي أنه كان وراء هذه الحياة القلقة المترددة عاملان يترددان في أعماقه، ويتنازعان مشاعره، وهو لا يستطيع الاستجابة المطلقة لأحدهما دون الآخر. وهذان العاملان هما:
1ـ الرغبة في الظهور بمظهر التماسك والحفاظ على مظاهر شخصيته الأولى بحكم تربيته، ونشأته في القرية، وثقافته الإسلامية التي حصلها في كتاب القرية، وفي الجامع الأزهر، وفي مدرسة القضاء الشرعي، وبحكم عمله إماماً في مفوضيتي مصر بروما وبرلين.
2ـ تأثره بمظاهر الحياة الأوروبية في الفترة التي عاش في أوروبا، ومحاولته خلع مظاهر طابعه الأصيل، حتى يستطاع مجاراة البيئة التي يعيش فيها، ورجال الدبلوماسية الذين كان يعمل معهم، ثم عمله الأخير في كلية الآداب التي كانت تبحث في إصرار عن الجديد الذي تقدمه إلى الثقافة المصرية، لتثبت شخصيتها، وتؤكد وجودها.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1663  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.