شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(1)
كانت الردهة الواقعة على سيف الشارع العام في سوق الليل يسمونها (برحة الحراج)؛ لأنها كانت مجمعاً لآلاف الحاجيات التي تعرض للبيع بالمزاد العلني قبل أن ينقلوا هذا الحراج إلى موقعه اليوم خلف شارع المسعى.
وكان يكتنف البرحة قهوتان متقابلتان أعدت فيها مئات الكراسي الصغيرة من السعف الخشن المجدول ليصطف عليها روّاد الحراج من باعة أو مشترين يستعرضون الموجودات التي ينادي عليها الدلالون بأصوات صارخة تضج بها البرحة ضجيجاً لا يطاق.
وكان أروع ما في القهوتين قهوة العم (سليمان) فقد كان يعنى بأرضها كنساً ورشاً، ويتركها تشع في الضحوة الأولى من النهار برطوبة لذيذة، تغري روّاد الحراج بالجلوس إلى كراسيها، وتجذب جميع المتبطلين في مكة إلى ارتيادها ليقضوا ضحوة النهار في جوّها الرطب يسليهم صراخ الدلالين، ويلوِّن الحياة أمامهم تنوع الحاجات المعروضة من أثاث نفيس، ودواليب قديمة، إلى علب فارغة من الصفيح، وفصوص من الماس النادر.
وكان المحترفون في صناعة الحراج يجلسون متحفزين لشراء ما يفيدهم من المعروضات، بينما يجلس المتبطلون إلى جانبهم في انتظار فنجان القهوة السادة يقدمه إليهم العم (سليمان) فيرشفونه متلذذين بنكته مسرورين بالجو الرطب الذي ينقلون أنظارهم فيه بين أصناف المعروضات وأنواعها.
وكان العم سليمان يتقاضى ثمناً لفنجانه (هللة) واحدة وهي توازي ربع القرش، وإذا اشتهى بعضهم الشاي فإنه ينشط إلى مكان قريب ليشتري مقداراً من السكر والشاي بما يوازي نصف القرش ثم يدفعها إلى العم -سليمان- ليصنعه لهم مقابل (هللة) أخرى.
وكان من الملازمين لمقهى العم سليمان في ضحوة الحراج شاب ضامر الوجه لا يرى إلاّ ساهماً كأنه يطيل التفكير في شؤون بعيدة كل البعد عن جميع ما يحيط به في قهوة العم سليمان، وبرحة الحراج.
ليس في صاحبنا ما يدل على اهتمامه بمعروضات الحراج شأن محترفي التكسب فيه، كما أنه لم يكن من المتبطلين، إذا أريد بالتبطل الخلو التام من العمل، فقد كان مطوفاً عريقاً ورث التطويف عن سلسلة من أجداده.. كانت لهم شهرة واسعة في كثير من بلاد الشرق العربي.
كان قد انتهى من موسمه من أسبوعين حيث ودع آخر حاج كان في بيته، وأحصى حصيلته مبلغاً من النقد صالحاً للتوسعة على بيته أكثر من شهرين.
وليس من شك في أن حصيلته من الموسم كانت مدار تفكيره.. فإنها بالرغم من كونها كانت صالحة للتوسعة على نفسه إلى أمد محدود فإنها لم تكن كافية بحال لأن توزع على شهور العام في أرقام تتكافأ مع نفقات موازنته البيتية، أو نصفها مهما حاول ضغط المصاريف، أو اختزالها.
كان يقول في نفسه: إني قضيت عامة العام السالف مشتغلاً بحصيلة الموسم فقد استغرقت أسفاري إلى مواطن حجاجي، وفي سبيل التعرف إليهم شهوراً طويلة، ثم عدت إلى مكة لأستأنف الجهد والعمل في تنظيم الكتابة إليهم، وتذكيرهم بأمري في مكة، وإعداد العدّة لانتظارهم.
لهذا فالمفروض أنها حصيلة عام كامل يجب أن تستوعب أرقامها حاجة العام ونفقاته إذا روعيت القواعد العامة للمهن، وسائر طرق الكسب المشروعة.
وما انتهى تفكيره إلى هذا الحد حتى وجد نفسه يتساءل: هل مزاولة التطويف مهنة يمضي في شأنها ما يمضي في شؤون المهن من قواعد متعارفة؟ أم هي محاولة يهدف فيها مزاولها إلى استرضاء من يخدمهم من الحجاج؛ ويبذل ما يبذل في سبيل اكتساب عطفهم، واستدرار معونتهم؟
واستغرقه التفكير في هذا، فلم ينتبه لمرور الوقت حتى كانت الشمس قد تعالت أشعتها وبدأت تفترش قهوة العم سليمان، وتشيع فيها وقدة حامية. فانطلق يتحامل على نفسه، ماضياً في طريقه إلى بيته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :516  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 60 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.