شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عصر الإنهيارات
ـ ... ومنهم من يستطيع أن يرى نهر المجرَّة، ولكنه لا يستطيع أن يرى نهر بيروت!
ومنهم من نرضى عاطفته الوطنية.. ولكن لا نأمن حكم عقله!
ومنهم من يجمع حوله أكبر عدد من الحمير.. ليتحملوا عنه أعباء الوجاهة!
ـ رشدي المعلوف -
ـ إستوقفتني مشاعر هذا ((الإنسان)) الصديق.. حين هرعت إلى ((حصافته))، متأثراً بواقع الحال الذي يغمر الناس.. بأفكارهم، وبتوقعاتهم، وبالصدمات التي تفاجئ الكثير من أحلامهم، وأمانيهم.
وفي البدء.. راودتني أصداء عبارة قديمة، حفظتها، وصرت أرددها:
ـ (( لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة.. إلاّ بعد أن يتعلم: كيف يفكر )) ؟!
فهل ما زال ((التفكير)) هو نقطة ارتكاز للفعل، وللتصرف، وللقرار؟!!
أم أن الناس قد قفزوا فوق إيجابية ((التفكير)) ليسلكوا دروب الانفعال، والجنون؟!
طرحت هذا السؤال - في البدء - على صديقي الحصيف.. حين كنا نتحاور عن كثافة الحزن العربي.. فابتسم موجعاً، وقال لي:
ـ في مقابل عبارتك التي أوردتها من محفوظاتك..أتذكّر معك عبارة أخرى، كان اللبناني، العربي، عاشق اللغة (رشدي المعلوف) قد كتبها، ليصوّر بها ما يمكن أن تنطبق عليه مقولة: ((التاريخ يعيد نفسه)).. فقال:
ـ (.. ومنهم من يستطيع أن يرى نهر المجرّة، ولكنه لا يستطيع أن يرى نهر بيروت!
ومنهم من نرضى: حكم عقله، ولكننا لا نأمن عاطفته!
ومنهم من نرضى: عاطفته الوطنية، ولكنْ لا نأمن حكم عقله!
ومنهم من يجمع حوله أكبر عدد من الحمير، ليتحملوا عنه أعباء الوجاهة)!!
وهذه العبارة.. ذكّرتني - أيضاً - بصورة شعرية، قالها ((المعلوف)).. ولكني غير متأكد: إن كان قائلها هو ((رشدي)) أو معلوف آخر.. قال فيها:
ـ ((ضنَّت عليه بالدموع عيونه.. فبكى جبينه))!!
ويبدو.. أن هذه الصورة تجسد الواقع العربي اليوم!
ـ قال صديقي الحصيف: وهكذا نجد أننا نقف اليوم - كجيل بكامله - في عصر خطير، إذا جاز لي أن أسميه: عصر الإنهيارات!!
وعصر الإِنهيارات هذا.. يشير إلى الدلائل التي تُدينه، وتصفه، وتجعله مغايراً تماماً لطبيعة الحياة القائمة على: المُثل، والقيم، والأخلاق، والسلوك الرجولي، وصفات الفروسية.. تلك التي اكتسبناها من أجيال تتباعد.. من أجدادنا، وآبائنا!!
ولا شك أن أهداف العرض والطلب في حياة البشر، قد تبدلت.. وها نحن ندخل بهذا العصر إلى حياة أخرى، وإلى أفكار مختلفة.. يبدو أنها تنسجم مع طبيعة هذا العصر، ووسائله، وركضه، وأطماعه.. وإلى تعامل وسلوك، قد ننفر منهما في اللحظة الأولى، وفي محاولة التقبّل لهما.. لكنهما يُشكلان: منطق، وسمات ومصالح هذا العصر!
إن ما بَنتْه الأجيال السابقة.. يتعرض في هذا العصر، لهذه ((الإِنهيارات))!
أو أن هذا العصر - بظروفه، وبسرعته، وبتناولاته - يعمل على انهيار القيم القديمة، والأفكار الراسخة، والتعامل الرجولي، وصفات الفروسية، وطبيعة الحياة التي تواصلت بنا من الأجيال السابقة!
ـ قلت: هل تمنحني بعض الأمثلة؟!
ـ قال: الأمثلة التي تفتش عنها.. لن تتعب في العثور عليها، ولكن.. تلفَّت حولك:
ـ العدو الذي يلبس أقنعة الصداقة، ويوهمك أنه يعمل من أجلك.
ـ المعايير التي تحكم علاقات الناس فيما بينهم، عبر المصالح، والذاتية، والأطماع، والغرور، الحقد، والأخذ!
ـ المتغيرات في بنية المجتمعات.. وقد حدثت بأسباب عديدة، من أهمها:
ـ الحروب، والخوف منها.. طفرة المال، أو مساقط العوز والفقر.. إنهاك الاستعمار والحروب الصغيرة للدول النامية.. الغربة داخل النفس.. الأماني المجلودة بالفجيعة، والحزن!
ـ قلت لصديقي الحصيف: ولكن.. ألا يتميز هذا العصر بسمات تفاؤلية؟!!
ـ قال: بلا شك.. نتفاءل بثبات العقيدة والإيمان بها اطمئناناً للنفس.
وهناك الصراع الحاد بين الضمير، والخيانة.. وبين الحق، والباطل.. وبين الروح، والماديات.. وبين الوفاء، والخذلان!
هذه الصراعات.. تؤكد على: أن الإنسان - برغم تعرضه الدائم لموجات الإِنهيارات - إلا أنه ما زال يصمد في وجه التحديات، والانهيارات.. وما زال يصارع أسباب الإنهيارات، ويتصدى للمنهارين، أو ((الإنهياريين)).. ليحافظ على القيم، والمثل، والمحبة، والأمل!
ـ قلت: إن عصر ((الإِنهيارات)) هذا.. هو العصر الذي يمكن إعتباره مصاباً بمرض فقد المناعة، وضعف مقاومته أمام الكثير من الأوبئة، والجراثيم، والمقتحمات!
إنه عصر.. لم يعد يقدر على امتلاك ((مناعة)) من داخله.. يقاوم بها ما يقتحمه، وما يطرأ عليه، وما يخلخله من الداخل.. من عمق قِيَمه، مبادئه، وفكره، وروحه، وإيمانه بكثير من الثوابت، والمنطق، والحق!!
إنه عصر.. يكتوي فيه إنسانه باختلاط الأشياء، وتعتيم الحقيقة، وسرقة الحق، وتوظيف المنطق للجدل وللأكاذيب، ولقلب الصور.. وتقديمها: معكوسة!!
ولذلك.. يفيض الحزن، وتضيق الضلوع، وتصاب القلوب بالسكتة، أو بالذبحة.. وتتعرض العقول لصدمات، تكون مدخلاً إلى فقد المناعة!!
* * *
ـ واصل صديقي الحصيف حديثه معي عن: طبيعة إنسان هذا العصر.. وهو يشير إلى بعض (المعترضات) التي تأتي في صميم سلوكيات ودوافع هذا العصر!
كان يتحدث عن توريط الحياة - بالتصرف، والتعامل - في التشنجات.. وقال:
ـ لا بد أن تعترض الناس في حياتهم مشكلات.. لكنّ الناس - خضوعاً لمؤثرات العصر، ودواعيه، وهمومه - يفقدون التفكير المتّزن، ويشطّون بعيداً عن الحكمة، ويسقطون في التوتر، والانفعال.
ومثل هذه المواقف تخضع لقدرة الإِنسان على المعالجة، والاحتمال.. كما تخضع أيضاً لشجاعة الإِنسان!
إن هذا العصر المتوتر.. يجعل البعض من البشر يفقد شجاعته، أو يدّعي الشجاعة في تصرف انفعالي ومتوتر.. وبالتالي: يفقد قدرته على التحكم في الظرف، وفي الرؤية الشاملة للموقف، وعلى حسن التصرف!
ويندرج ذلك أيضاً على الشعوب، وأنظمة الحكم.. فالفرد جزء من المجموع، ولكن هناك من الشعوب مَنْ عانت أخطر المشكلات، وتغلبت على ضعفها!!
ولعلّنا نتناسى أحياناً: أنه لكل شيء ثمنه!!
* * *
ـ سأل أحد جلساء صديقي الحصيف:
ـ ما رأيك في الصديق الذي كان يهش في وجوهنا، وهو موظف صغير.. فلما قفز به الحظ إلى مدارج الوظائف الأكبر، وأصبح من ((أصحاب السعادة)) وصار سكرتيره أيضاً من المتشوقين لهذا اللقب.. إذا به ينكرنا؟!!
ـ سأله صديقي الحصيف مبتسماً: وماذا فعل بك؟!
ـ أجاب: أشعرني بالمهانة حين طلبته بالهاتف عدة مرات، وفي كل مرة يرد سكرتيره بهذه العبارة: إنه مشغول، لا يستطيع محادثتك!!
ـ قال له الحصيف: لعلّك أردت الثرثرة معه.. لا غير!!
ـ قال: بل أخبرت سكرتيره باحتياجي له.. ولو أردت الثرثرة ما كنت ألحّ في طلبه عدة مرات؟!
ـ قال الحصيف: لا عليك.. نحن في زمن يُطلب منا أن لا نعاتب أحداً.. فإن عاتبت: سخر الآخرون منك، ولا تغضب من أحد.. فإن غَضِبْنَا: تأذّينا نحن، والآخرون لا يهتمون!!
نحن في عصر (الأنا) بكل أسف!!
ـ قلت لصديقي الحصيف: يتراءى لي.. أن هذا الإنسان الشامخ، والمتطاول أحياناً، والمغرور بكل ما في رأسه من ادعاء الوعي، وبكل ما في عقله من ادعاء المعرفة، وبكل ما في صدره من تموّهات الخوف، وبكل ما في قلبه من عاطفة - خير أو كراهية - وبكل ما ينبض به من حب يخبِّئه لئلا تكون (تهمته) هي الحب فقط..
هذا الإنسان، يحتاج - بأبسط النتائج - إلى ساعات ضرورية، يضع فيها رأسه على أية وسادة، وينام مستغرقاً، شبه ميت.. فهذه هي راحته الوحيدة في عصر الانهيارات!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1860  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 387 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.