شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جابر أفندي
جمع أطراف عباءته المعلقة على المشجب.. وطواها تحت إبطه ثم عاد وألقاها على كتفيه في حركات مضطربة.. فيها ذهول وفيها سأم.. وتأفُّف.. وبعد أن أحكم العباءة على كتفيه.. تقدَّم نحو مكتبه، واندسَّ بنصفه في باطن الكرسي الدوّار الفخم، وتسللت أصابع يده بنفس حركات السأم، والذهول.. تبعثر وريقات المعاملات القليلة الراكدة فوق مكتبه، ثم.. تعود الأصابع لتجمع ما بعثرت..
واستمرت في تسلُّلها البطيء حتى موضع الجرس.. وضغطت عليه كأنها تخنقه..! وقبل أن يخمد صوته.. كان باب الغرفة قد انفرج قليلاً.. ودخل منه تمثال آدمي، على رأسه ((غترة)) تتلون بالوساخة والاصفرار.. وحول جسده ثوب أزرق كالح، وفي رجليه تسري الرجفة!..
ووقف أمام ((المدير)) يلتقط الأمر ليسارع بتنفيذه..
ثم خرج بنفس الحركات التي أدخلته..
وفي لحظات.. كان كأس الماء بين الأصابع الحائرة المتأففة.. كأنها تحاول تهشيمه..
وألقى ((جابر أفندي)) بما في الكأس.. في جوفه الساخن. وقام من كرسيه يعيد جمع أطراف العباءة وطواها تحت إبطه ثانية.. وتحسَّس موضع (العقال) على رأسه.. ثم خرج من (الإدارة).. مكان عمله.. كمن يتوجس خيفة، وألقى بنفسه المشحونة بذخيرة من التبرُّم والهزيمة.. المركَّبة على جسد مفتور.. في داخل سيارته التي بقيت له من أشياء كثيرة فقدها في أيام قليلة!
عجيب أمر هذه الحياة!
من كان يظن.. أن ((جابر أفندي)) سيتحول به طالع الحظ - الذي كان - إلى هذا الدرك من الإهمال، واللامبالاة بشخصيته ومركزه؟!
لقد كانت أيام..
كان فيها كبيراً.. يثير الاهتمام.. ويزرع بذور الخوف والحذر منه في نفوس الموظفين الذين يعملون بإمرته!.. إنه يستعيد الماضي الجميل المشرق.. وقد كان كبيراً.. يرهب ويستخدم، ويداهن مصالحه.. ليداهنه من جاءت مصالحهم تحت يديه!..
إنه يتذكر ذلك الحلم الذي تبخَّر..!
قبل سبع سنوات..
كان موظفاً متجمداً عند مرتبة وراتب متوسطين - في غير هذه المصلحة التي يعمل فيها - دفعه بريق المرتبة العالية، وعوامل السيطرة على الغير.. ليفكر في طرق متشعبة توصله في النهاية إلى هدفه ومبتغاه..
قرر أن يتفانى في خدمة رؤسائه، ومن يعلونه مركزاً، وقدراً، وشأناً.. فاستطاع بهذا التقريب أن يجد لنفسه منافذ إليهم.. تدفعه نحو ما يريد.. وترفعه إلى المرتبة التي كان يتلمَّظ كثيراً عندما يتصور نفسه فيها!..
وسرَّه هذا العمل الجديد.. وأراد أن يفهم من حوله أن التواضع صفة لا تنعدم في أخلاقه ومعاملته لهم.. فصرف تفكير الناس إلى تواضعه هذا.. وإلى الطيبة التي يظهرها في بعض تصرفاته..
وانغمس في وظيفته بكل أعصابه، ووقته، وجهده، وكان هذا - عند الناس - يحمل دلالة التفاني والإخلاص للعمل!
ونعم عامين بهذه السمعة الحسنة.. وهو أكثر سعادة ورغداً، وحبًّا للعمل الذي ارتضاه لنفسه!..
ثم حدث التغيير؟..
انتقلت أعماله - كلها - إلى مرحلة مفضوحة.. وتكرر اسمه مضغة تلوكها كل الأفواه - من كان حوله، ومن يبعدون عنه - وقدم للمحاكمة - الإدارية - بكامل ثباته وهدوئه، ورباطة جأشه.. يرسم على وجهه أمارات البراءة واللامبالاة.. وفي صدره ثورة ندم تعتمل.
وصدر الحكم بطرده من الخدمة وتصفية حقوقه المالية.. بعد أن ثبت اختلاسه وتزويره!
وتلقَّفته الشوارع الكثيرة.. ونسج التفكير خيوطه..؟!
ـ ماذا يفعل بهذا الفراغ؟!
ـ كيف يرتق هذا الفتق الذي عرَّض سمعته، وقذف باسمه إلى زوايا النسيان!؟
أين يجد ألوان الاحترام.. وذلك التحفظ الذي كان يشاهده من الناس في مجلسه؟
إنه لم يفعل إذاً!
حاول أن يزوِّر بعض الأوراق المالية، فافتضح أمره.. فهل تحقُّ عليه هذه الأحكام؟
ولم يحتمل..
حزم حقائبه - وقد طوى بين ثيابه كل آلامه، وتوجُّعه.. ليبعثرهما على جبال لبنان.. مع نسمات الأصيل.. وغروب الشمس.. عند لحظة عناقها مع الشفق.
وتلقَّفته المناظر الجميلة.. لتضع في نفسيته بذور الارتياح والهدوء، وقد بدأ يتلمس طريق الاستقرار النفسي من جديد!
كان يرى كل الوجوه التي يقابلها.. تصطبغ بالضحكات الصاخبة والابتسامات العريضة.. وفرَّق بين هذا اللون.. واللون الذي هرب منه..
وكان يرى الباعث للفرحة التي تنفرج ضحكة على الشفاه.. وبحث عن فرحة.. عن باعث يغلِّف مأساته، ويلبس هذه النفس كل السرور.. والابتهاج وعثر على وجه.. وجد في جوانبه لمسات الضوء.. تشعُّ بالجمال والفتنة.
كانت نضرة المحيا.. ينضح من وجهها جمال هادئ.. وفي عينيها النفاذتين اتساع عميق كأسرار الجمال.. كنفسية المرأة!.. وفي عينيها زرقة كأنها محيط لا يحدُّه قرار.
وتعلَّق بهذه الأسرار.. بذلك العمق.. وبحث عن عنوانها.. عن أهلها.. عن إصبع يدها.. ليضع فيه خاتم الزواج!..
واستمد شهراً آخر.. في مذاق أيامه حلاوة العسل. ثم عاد إلى بلاده.. بهذا المحصول!
وفي بلده.. أحس بانفعالات تتزاحم في صدره.. تصرخ كلها بالقوّة.. بالعودة إلى ما كان يعيش فيه من مركز، واسم، وسمعة إنه يتمنى أن يعود كما كان.. يعود ((جابر أفندي)).
وجسَّد تلك الانفعالات في خطوات إيجابية بدأت بمشروع افتتاح محطة كبرى لخدمة السيارات، وصيانتها، وتزويدها بالوقود.. تدرُّ عليه الربح، وتضمن له رخاء العيش..
زوَّدها بكل إمكانيات الصيانة وانطلق يخلق حولها الدعاية والذيوع بكل ما توصَّل إليه تفكيره.
إعلانات في كل الصحف، ونشرات وزَّعها في جميع شوارع البلدة كلها تدعو لمشاهدة هذه المحطة الفنية.
ولم يقف..
كان يسرُّ إلى نفسه.. بأفكار ومشاريع..
ودخل بنفسه كل المصالح الحكومية، والشركات التجارية والمؤسسات..
وتوالت الصفقات.. والعقود واستطاع أن يعقد اتفاقاً مع إدارة كبيرة يتعهد فيها بصيانة سيارات الإدارة..
ومهَّد جابر أفندي لحكاية ماضيه، بمقدمات طويلة.. ثم.. قصَّ على صديقه ((المدير)) كل شيء.
واقتنع ((المدير)) بأن الحسد.. كان من الأسباب التي أودت بسمعة جابر أفندي!..
وتحفزت انفعالات (جابر) لهذه الثقة التي زرعها في نفس صديقه - المدير -
إنه الآن في نظره.. إنسان يستحق العون والمساعدة..
وتحمَّس المدير الصديق.. وطلب تعيينه، وإثباته في وظيفة كبيرة.. مراعاة لخبرته وخدماته الطويلة.
وبعد هذه الجولة الرابحة.. لم يعد جابر يترك صديقه الذي أعاد إليه ثقة الناس.. وجلا عن اسمه صدأ الهزيمة والنسيان.. فاصبح يلازمه كظلِّه.
والحياة أمرها عجيب!؟..
إنها تعطي متى أرادت السخاء للإنسان.. وتجذب إلى المنحدر.. متى شحت عن البذل..
إن جابر أفندي - الآن - يشاهد الابتسامة التي افتقدها زمناً.. تطوف على أيامه، وحياته الجديدة مرة أخرى..
سيعود إلى مركزه.. كما كان.. جابر أفندي.. صاحب المرتبة الرابعة، ولكنه، ماذا سيفعل؟!
قال هذا السؤال لنفسه!..
وأجاب: سأعطي كل من ينقصني مرتبة درساً في احترام الكبار وسأثأر للمتنكرين.. ممن ساعدوا في القضاء على راحتي وسعادتي أياماً أثقل من السلحفاة في خطواتها!.. وأشد من قوة المطرقة في ضرباتها..
ورنَّت الفرحة مصفقة بين جوانحه..
سيعود..
وأقام له الأصدقاء.. حفلات توالت إثر بعضها.. ولمس من خلالها ألواناً من مشاعر الناس.. في مثل هذه المناسبات!..
* * *
وتفرقت زمر المدعوين، وبات الساعات الباقية من ليله بأعين مشرعة يقظة.. وصدر خافق.. يتهيأ للحظات الأولى من يومه الجديد.
وانساب النور في صفاء.. وعادت الحياة إلى الشارع مع أصوات الناس وحركاتهم..
وابتدأ الحياة الجديدة.. وعلى فمه ابتسامة عريضة فرشها على وجه المستقبلين من موظفيه.. قال عنها إنها مشاعره..
غير أنها مشاعر متزعزعة لم تثبت في قلبه، ولم يستطع الموظفون أن يفهموا نوع معاملته لهم.. تارة يرتقي بهم إلى المفاهمة الإيجابية.. مناقشة إنسان لإنسان يتساوى معه، وتارة يعاملهم بالغلظة والخشونة.. يأمرهم بأسلوب فيه الوعيد.. فيزيغ قلوبهم.
وأجبرهم منطق العيش.. إلى الاستكانة لوعيده، وتهديده.. يرضخون لإشارته التي تصل أحياناً إلى حدود الخدمة الشخصية!..
كان يدخل عليه ((عم إبراهيم)) وهو موظف كبير في سنِّه.. ورئيس مكتبه.. وفوق يديه المعاملات.. ويشير ((جابر أفندي)) إلى مكتبه، وإلى المعاملات وينحني ((عم إبراهيم)) وهو يضع الأوراق فوق المكتب.. ويقفل الباب في هدوء - دون مناقشة!
ويخرج.. يشقُّ لنفسه طريقاً.. وسط المراجعين الذين يكثرون من الإلحاح عليه.
ويشير لهم إلى مكتب - جابر أفندي - دون أن ينبس بحرف ويتركهم مع الحيرة الكبيرة.
وتنتقل الأوراق بين يدي الفرَّاش، وهو يعيدها إلى قلم التحرير.. فوق مكتب - عم إبراهيم - لتعاد عليها الكتابة مرة ثانية.. لتغيير أسلوب.. وإبدال وجهة الأوراق.. ووضع حل آخر غير الذي كتب.
لقد كانت أساليب متنوعة.. حذقها كل موظف يعمل لديه، وشذ عنها بعض الموظفين عنده. فلم ينفِّذوا ما يودُّه.. وتحشرجت معاملتهم له في حلقه، فلم يعد يفكر إلا في طريقة يتخلص بها منهم،
وكان يوم..
جمع حول مكتبه خمسة موظفين، ووضع في أيديهم قرارات نقلهم إلى أماكن أخرى!..
واندفعت حناجرهم تضطرب بسيل من التساؤل:
ـ ماذا فعلنا يا جابر أفندي؟
ـ ما هي الفعلة التي ارتكبناها في حق الوظيفة أو العمل؟!
ويرفع جابر أفندي رأسه.. ببطء وثقل قائلاً:
ـ إنها مصلحة العمل.. اقتضت هذا النقل!.. ثم أشار بيده إلى باب الغرفة دون أي اعتراض منهم!..
ومرَّت شهور.. تشتت فيها عقد أولئك الموظفين، ورمت بهم الأيام في أجواء متفرقة.. غريبة.
وفي ذيل الشهر السادس.. جاءهم الخبر:
ـ لقد قدَّم (المدير) استقالته وتخلّى عن العمل؟
وجابر أفندي أين مصيره؟
كيف يعمل.. بعد أن تركه صديقه - المدير - ؟
ترى هل يستطيع فرض أسلوبه على - المدير - الجديد؟
وانطلقت حناجر الموظفين.. تضخم هذه الثرثرة، والتساؤلات الطويلة التي لا تنتهي..
ـ ماذا يفعل جابر أفندي؟
* * *
وانتفض جابر أفندي وهو يتشبث بمقود السيارة، وتحسس العرق.. وهو ينداح من جبهته، ويغمر وجهه، ثم أزاح الغطاء عن رأسه.. ليكشف عن بضع شعيرات بيضاء.
وتقلصت أصابعه المتشبثة بمقود السيارة.. وهو يتمتم لنفسه:
ـ ماذا يفعل ((جابر أفندي))؟!..
ـ أين ذهب الذي كان؟!
ـ كيف يتقرر مصيري مع - المدير - الجديد.. مع إنسان لا أعرفه؟!
ـ لقد سمعت أن - المدير - سيختار لي عملاً جديداً في مدينة - الدمام - ولكن.. لا.. لا يمكن؟
وانطلقت السيارة.. تقفز.. بعد أن كانت تسير بخطوات بطيئة، وابتعدت.. غابت في زحام السيارات الكثيرة.. متجهة إلى محطة البنزين!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1125  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج