شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث
ومشينا إبراهيم وأنا إلى الحماطة... وقد كانت منطقة فيها مجموعة من البيوت التي تطل على ساحة المناخة، وباب الشامي، وتحتها سقف لمجموعة من دكاكين مفتوحة على المناخة... منها دكان بائع الخردوات التي منها كل ما يمكن أن تحتاجه الناس من لوازم صيانة أقفال الأبواب... أو صنابير المياه أو تسليك (البربخ) ـ وهو مجرى المرحاض ـ ولكن منها أيضاً كل ما يمكن أن يحتاجه مالك (البندقية) التي طرأ عليها خلل ما... ووقفنا على سطح هذه الدكاكين وأخذنا نتفرج على طوابير العسكر، الذين كان هناك ضباط يأمرون بصوت عال بالحركة أو الوقوف... أو الانبطاح السريع على الأرض والبنادق مصوبة إلى الأمام وقال ابراهيم:
:ـ. يعني... هذا تعليم للحرب...
:ـ. ولكن... الحرب مع مين ؟؟؟ مين اللي رايح يحارب المدينة؟؟؟
:ـ. خالي، قال كلام كتير... لكن أمي هي اللي قالت أنّو أمها قالت لها عنهم حكايات تخوّف وهم الشروق، اللي دخلوا المدينة من زمان...
:ـ. الشروق؟؟؟ يعني مين؟؟؟ يعني إيه الشروق؟؟؟
:ـ. لازم همّه اللي بنشوفهم في سوق الشروق؟؟؟
:ـ. ايوه صحيح... لما نجي خارجين من جوه المدينة، وقبل ما نخرج من باب المصري، أشوف سوق طويل... فيه دكاكين تبيع أشياء كتيرة... منها الشماغ والعقال الأسود.
:ـ. لكن هادول ناس طيبين.
:ـ. صحيح.. كلهم ناس طيبين... وانت تعرف جارنا في البيت اللي في صفكم اللي إسمه القاضي... أمي تقول انّو من الشروق.
:ـ. هادا رجّال طيب.. وعياله كمان عمرهم ما يآذوا أحد.
:ـ. الحاصل... مادام الشيخ (مدير المعارف) قفل المدرسة، وقال أننا نقرأ في البيت لازم هادي الحرب اللي بيقولوا عنّها أصبحت قريبة..
:ـ. أنا يا إبراهيم أعرف الحرب... أنا من الناس اللي سفرهم فخري إلى الشام.. كنت صغير... لكن ما نسيت... كانت أصوات المدافع ورصاص الرشاش، ما تسكت لا ليل ولا نهار... والناس يموتوا من الجوع.
:ـ. وعشان كدة خالي قال لازم أمي تخزّن أرزاق.
:ـ. لكن يا ترى ايش اسباب الجوع؟؟
:ـ. السبب، هو أنّو القوافل ما عاد تقدر تجيب شي من ينبع ولا من غيرها... يمنعوها من الوصول إلى المدينة...
:ـ. لكن في الشام... في أيام الحرب اللي ما نسيتها، كانت الحكومة هي اللي عندها الأرزاق... وهي اللي يروحوا الناس ياخدوا منها اللي يسموه (التعيين).
:ـ. طيب مادامت الحكومة بتعطيهم الأرزاق زي ما بتقول، ليه الناس ماتوا من الجوع؟؟
:ـ. ما أدري... لكن هادي الأرزاق كانت الحكومة تعطيها للناس اللي سفّرهم فخري من المدينة... وما أنسى أبدا أننا فِضِلنا أيام وليالي ما نأخذ غير أقراص صغيرة من الشعير... وبعدين من شيء يسموه (الكرسنّة)... وفي الشهر مرة واحدة علبة لحم... لكن قول لي... أنتو ما سفركم فخري إلى الشام؟؟
:ـ. لأ... نحن سافرنا بنفسنا... خالي هوّه اللي سافر بنا على الجمال إلى مكة... عشان مكة كان فيها الشريف... وأنا ما أنسى أبدا أنو كان يحفضني سورة (لأيلاف قريش) وفيها الآية اللي تقول (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)... والبيت، هو بيت الله... الكعبة... أنت ما رحت مكة أبدا؟؟
:ـ. لا أنا ما رحت مكة... لكن أمي دايما بتقول إنها لازم تروح مكة عشان تحج..
:ـ. أيوه يا عزيز.. كل المسلمين لازم يحجوا... إنت ما حفظت أركان الإسلام؟؟
:ـ. إلاّ... حافضها... بس ما كنت أعرف معنى (حج البيت...).
:ـ. حج البيت يعني (بيت الله... الكعبة)...
وانتبه إبراهيم إلى صوت المؤذن لصلاة الظهر فقال وفي صوته شيء من الرعب..
:ـ. نحن اتأخرنا... دحّين أمي.. وداده (صفا) لازم بيدوّروا عليّ... هيا نروح البيت قوام... وانت شايف انّوو العسكر كمان، خلاص راحوا... لازم دحين بيروحوا القشلة... انت تعرف فين القشلة؟؟
:ـ. أيوه أعرف... هادي قدّام التكية المصرية...
:ـ. هيا نمشي قوام... ومشينا مسرعين إلى المنطقة التي نسكنها في حي الساحة... ولم نكد نظهر... حتى سمعنا أصوات، أمي... وأم إبراهيم، ومعهما أصوات (داده بشرى) من بيتنا.. و (دادة صفا) من بيت ابراهيم، يتساءلن أين كنّا؟؟؟ وكيف ابتعدنا عن البيت؟؟؟ الخ.. وكان جيبي مايزال يحمل (الكبوش) و (اليُغلْ)... ولذلك حرصت على الدخول إلى البيت وإلى الحنية التي أخبيء فيها تلك الثروة الهائلة من الكبوش... وأفلحت، قبل أن أسمع صوت (داده بشرى)... في الدهليز وهي تقول:
:ـ. يا ويلك... أنت اليوم رايح تاكلها، من أمك ومن عمّك كمان... فين كنت؟؟؟ ستّى آسيا، أم إبراهيم قاعدة في الروشان وأمك زيها... ما تقول... إنت وابراهيم كنتو فين؟؟؟
:ـ. كنا في الحماطة... بنتفرج على تعليم العسكر في المناخة.
:ـ. العسكر في المناخة؟؟؟
:ـ. وانتو إيش لكم شغل بتعليم العسكر...
:ـ. معليش يا أمي بشرى... انتي تتشفَّعلي عند أمّي.
:ـ. والله هيّه وستي آسيا، بيحلفو لازم تاكلوا العلقة... هيا أدخل وغسّل رجلينك من هادا التراب و...
:ـ. بس رايحة تتشفَّعيلي... مو كدة؟؟؟ ولم تقل شيئا، بل انطلقت تصعد راكضة إلى الطابق العلوي... وهي تسمع نداء أمي الصارخ.
* * *
وعلى مائدة الطعام، لاحظت أن عمي، لم يخلع بذلته العسكرية... وسمعت أمي تسأله:
:ـ. خير ان شاء الله.. إنت راجع المستشفى اليوم؟
:ـ. ايوه... لازم أرجع قوام.. عشان لازم نعرف الأدوية اللي في المستودع... أنا عندي كل شيء مقيد، ولكن لازم نراجع الموجود على الدفاتر.
:ـ. انت سمعت عن استعداد عبد المجيد باشا للحرب؟؟؟
:ـ. هوه هادا السبب في أنو لازم نعرف الموجود من الأدوية.
:ـ. يعني رايح يكون فيه حصار...موكدة؟؟
:ـ. الحصار بدأ... والبوسطة انقطعت... وما عاد فيه اتصال إلا باللاسلكي مع مكة.
:ـ. طيب... والأرزاق؟؟؟ الجيران... أقصد خالة أسيا ناويين يشتروا أرزاق.
:ـ. ونحن كمان لازم نشتري... لكن ما في فلوس... ما صرفوا المعاشات تلاتة أشهر، وهادا الرابع... كيف نقدر نشتري أرزاق؟؟؟ الحقيقة يمكن بالدين...
لكن.. كيف نسدِّد هادا الدين بعدين..
:ـ. بعدين.. متى يعني؟
:ـ. لمّا تنتهي الحرب.
:ـ. يعني يمكن تنتهي بعد شهر أو شهرين؟؟؟
:ـ. ما أظن... عبدالمجيد، قال للضباط أنو: (لازم ما نسلم المدينة لهم أبدا).
:ـ. بس هُمّا مين؟؟؟
:ـ. همّا اللي بيحاربوا الشريف... والشريف كمان قال كلام أنو لازم يطاردهم، إلين يدخل بلادهم... ويعطيهم درس... ما يرجعوا بعده لتهديده...
:ـ. بس هُمّه ليه بيهددوه... ليه بيحاربوه؟؟
:ـ. عشان هُمّه ما بيعترفوا بأن الشريف هو ملك كل العرب...
:ـ. لكن مين اللي رايح يكون ملك كل العرب غير الشريف... إنت عارف أنو حارب الدولة... واستولى على الشام كلها، وكمان سمعت أنو استولى على العراق.
:ـ. هادا كله، لمّا كانوا الإنجليز معاه.. يساعدوه... الأخبار هادي الأيام بتقول أنهم وقَّفوا المساعدة...
:ـ. وقفوا المساعدة؟؟؟ ليه... وهوه اللي ساعدهم ومشي معاهم الين ضاعت الدولة، وما عاد بقي لها وجود.
:ـ. بيقولوا... انّو بيطلب منهم ينفذوا وعدهم... في انّو يكون ملك كل البلدان العربية الشام والعراق... وكمان بلدان المغاربة...
:ـ. مادام وعدوه.. لازم ينفذوا... مو كدة؟؟
:ـ. هادا كان كلام... كلام فارغ... عشان همّا اللي يبغوا يحكموا جميع البلاد اللي خلصوها من حكم الدولة العثمانية.
ثم توقف عن الأكل... وألقى على الساعة في معصمه نظرة... وقال وهو يضحك ضحكة خفيفة... وكمان عبدالمجيد باشا قال ليحيى بك إنهم محتاجين (بارود)... المخزون عندهم ما يكفي إذا طالت الحرب...
:ـ. بس، وهوّه البارود في المستشفى.؟؟
:ـ. لا.. البارود، انا اللي مطلوب مني اني أصنعه.
:ـ. بس.. يعني، ما في عليك خطر؟
:ـ. البارود دايما خطر.. إذا وصلته النار ولو شرارة صغيرة!
:ـ. وفين رايح تصنعه... في مستشفى ((درب الجنايز))؟؟ لابد ما هو كتير.
وضحك وهو يقول.. المطلوب ما هو أقل من مائتين كيلو جرام... وبعدين إذا الحرب استمرت لازم يكون عندنا دايما احتياطي 300 كيلو جرام..
:ـ. يعني رايح يكون عندهم مصنع كبير...
:ـ. بس أنا خايف انهم يطلبوا مننا (ديناميت).
:ـ. وانت تعرف تصنع الديناميت كمان؟
:ـ. بالطبع.. لمّا كنا في حرب اليمن صنعنا ـ أنا والإخوان... بس خسارة، لمّا صدرت الأوامر نيجي هنا ـ في الحجاز... تركنا في المخازن شيء كتير.. لازم اليمنيين، وهُمّه بيحاربوا بعض، قتلوا ناس كتير..
ولا أحتاج أن أقول إني قد أصغيت إلى هذا الكلام بتركيز واهتمام شديدين... كانت المرة الأولى التي أعلم فيها أن عمّي يستطيع أن يصنع البارود... والديناميت... ولا أستطيع أن أصف اليوم ما أحسست به من الرغبة في أن أتعلم صنع البارود والديناميت... وتساءلت بيني وبين نفسي:
ـ لما لا أطلب منه أن يصطحبني إلى مستشفى درب الجنايز... فأكون في خدمته وهو يصنع البارود أو الديناميت... ووجدت أن هذا أفضل من أن ألعب في الشارع. ولم أجرؤ على الإفصاح عن رغبتي... ولكن بعد أن نهض عن المائدة... وذهب... تسللت إلى حضن أمي، في جلستها على السرير... استغربت... إذ أصبح من النادر جداً أن تحتضني هي، أو أن أحاول أنا الالتصاق بها واحتضانها كما كنت أفعل أيام زمان قبل أن تتزوج.. وقبل أن تصبح أختي هي التي تتمتع بالأحضان والقبلات والتدليل.. وأدركت أنني سأطلب منها شيئا... واحتضنتني فعلاً بحرارة... وقالت:
:ـ. ها.. ايش تبغا؟؟
:ـ. أبغ أروح مع عمي، مستشفى درب الجنايز... عشان أتعلم كيف يصنع البارود، وما كدت أكمل عبارتي حتى انتفضت... وأبعدتني عن حضنها وقالت:
:ـ. أنت ولد أصبحت تخوفني... إيش اللي جايب في راسك، إنك تتعلم صناعة البارود.
:ـ. ما هو أحسن من اللعب في الشارع؟؟؟
:ـ. اسمع يا عزيز... أبغاك تفهم اللي أقول لك هوّه...
وامتدت يدها إلى أذني.. واحتدمت لهجتها وهي تقول:
:ـ. اصحا.. اصحا انّو أحد... وما أدري كيف قعد يتكلم.. وانت بتسمع.. كان لازم ما تسمع هادا الكلام أبدا... ولا أدري كيف، وبأي إحساس قلت لها:
:ـ. هو يا أمي عارف إني أصبحت رجّال... والرجّال ما يتكلم في الأسرار اللي يسمعها..
:ـ. خلاص انكتم دحّين... وأصحا... أصحا تتكلم مع العيال عن اللي سمعته.
:ـ. بس... باين إنو الحرب قريبة...
:ـ. قول ربنا يبعدها عننا ويكفينا شرها... قول يا رب... يا رب...
كانت هذه العطلة التي تمت بإغلاق المدرسة، هي أهم ما جعلنا ننتظر الحرب. فإذا اجتمعنا للعب، يسأل أحدنا الآخر، متى نسمع أصوات المدافع؟؟؟ متى تبدأ هذه الحرب.. ؟؟ وتختلف الأجوبة بيننا على ضوء ما سمعناه من الآباء والحديث الذي نسمعه يدور بين السيدات في السهرة بعد المغرب... وهن يرددن ما يسمعنه من الرجال.
ولم يكن عجيبا، أو حتى محل ملاحظة منا نحن الأطفال، إننا أخذنا نتمنى أن تطول أيام هذه الحرب، لنستمتع بكل ما أتاحته العطلة من الانصراف إلى اللعب في الشارع... وكانت أهم اللعبات التي برع فيها الأطفال، هي (التزقير...) و (الكبت)... أما الكبوش فقد تطورت، إذ لم يعد اللعب بها بين اثنين فقط، وإنما بين أكثر من ثلاثة وحتى أربعة.. وذلك بأن نرسم الدائرة على الأرض، ونقف في اتجاه معين... ثم يخرج كل منا الكبش أو الكبشين... يضعهما في القطر الذي يقسم الدائرة إلى قسمين ثم نبتعد عن الدائرة خطوات، ونبدأ تصويب (اليغل) إلى الصف من هذه الكبوش... فالذي يصاب ويتزحزح من مكانه بعيدا عن الصف يكون من حق الذي قام بالتصويب... أي هو المكسب، وله الحق أن يكرر التصويب مادام قد كسب.
وكان (اليغل المرصص) الذي أصوب به يحقق النتائج التي أصبحت أشعر أنها تملأ نفوس اللاعبين غيظاً وحنقاً... كسبت كثيرا جدا... إلى الحد الذي أخذ بعضهم يطلب مني أن أبيعه مما عندي فأخذت فعلا أبيع كل خمسة كبوش ب (هللة)... واكتشفت أنهم يفضلون شراء ما عندي، على أن يذهبوا إلى سوق الخضرة والجزارة لجمع ما يتوفر فيهما من هذه البضاعة... وذلك لأن الكبش الجديد، لا يصلح للعب إلا بعد عملية طويلة من التنظيف والمسح بينما الكبوش عندي (جاهزة). وبهذا تحولت كميات الكبوش عندي إلى (هلل.. والهلل إلى قروش...).. والقروش يمكن أن أشتري بها أشياء كثيرة.. ولكن لابد أن يتم ذلك في منتهى السرية... ولذلك اتخذت علبة من الصفيح، أضع فيها القروش والهلل وأخبئها في الحنية وراء أكياس الفحم، التي يستحيل أن تقع عليها يد (أمي بشرى) أو غيرها.
ومرت أيام طويلة ونحن ننتظر الحرب... أو أن تنفتح أبواب المدرسة... ومع انصرافي إلى اللعب، ظل ذهني مشغولا بالبارود الذي يصنعه عمي: ترى هل صنع شيئا منه.. ؟؟ وكيف يتاح لي أن أرى شكله؟؟. لونه مثلا؟؟ كنت أعرف أن الرصاص الذي تشحن به البندقية لابد أن يكون فيه هذا البارود... وفي المنزل بندقيتان (أم خمس) لا واحدة.. وهناك حزام فيه كمية كبيرة من الرصاص... وتوقف تفكيري عند هذا الرصاص... لم لا أحاول أن آخذ رصاصة واحدة... أنتزع رأسها الذي ينطلق... فأرى ما فيها من البارود... كان الحزام معلقا مع البندقيتين، في غرفة عمّي الخاصة التي لا يدخلها أحد سواه... ولكنها مفتوحة... دخلتها متهيباً، وبمنتهى الحذر...
ورأيت الرصاص في الحزامين... لاحظت أن خروج واحدة سوف يلفت نظر عمّي... ولذلك، فلابد أن أنتهي من عملية انتزاع الرأس، وإخراج البارود ثم اعادتها إلى مكانها فلا تلفت النظر... ولا تسبب لي مصيبة مع عمي.. وأمي.. والجميع.
أجّلت تنفيذ الفكرة، إلى وقت آخر... بحيث ابدأ في وقت مبكر بعد خروج عمي وأغلق باب الغرفة، فلا يدخلها أحد سواي أثناء التنفيذ...
ولا أدري في الواقع ـ وأنا في تلك السن ـ ما الذي ألهب أعصابي وذهني وجعلني لا أفكر في شيء سوى هذه العملية... التي تصورت خطورتها... لو مثلا أنفجرت الرصاصة عندما انتزع رأسها... أو لو ـ مثلا أيضا ـ اشتعل البارود الذي أخرجه من تجويف الرصاصة ولكن المفاجأة الصاعقة كانت، بعيدة عن كل هذه التحسبات، إذ، انفتح الباب فجأة، وكان الداخل هو عمّي وقد فوجيء بدوره إذ رآني في غرفته التي لا يدخلها أحد سواه، أصبت وأنا أراه بما يشبه التجمد أو الشلل، فلم اتحرك ، بل لم أنطق بكلمة واحدة... أدرك حالة الرعب التي أصبت بها.
وقف لحظات وهو في بذلته الرسمية.. ثم قال بصوت هاديء:ـ
:ـ ليش دخلت الغرفة؟؟؟ أمك تبغا شيء منها؟؟
:ـ لا...
:ـ طيب انت ايش تبغا من الغرفة..؟
ولم أجرؤ على اختلاق أي مبرر... فالتزمت الصمت لحظات ثم قلت:ـ
:ـ كنت... كنت أبغا آخذ رصاصة من هادا الحزام.
ومع الدهشة البالغة في ملامحه، قال مستوضحا:
:ـ رصاصة من الحزام؟؟؟ ايش تبغا بها؟؟
:ـ ابغا... ابغا... اشوف البارود اللي فيها؟؟
وازدادت دهشته... وجعل يعطيني مجالا للاعتراف بكل ما كنت أخطط له. فرأيته يبتسم وهو يقول...:ـ
:ـ بس.. ليه تبغا تشوف البارود؟؟
:ـ عشان سمعت منكم، إنكم تصنعوه... للحرب اللي بيقولوا الناس إنها خلاص قربت.
:ـ طيب وانت ايش تقدر تسوي بالبارود؟؟
وكان هذا السؤال الذي لم أجد له جوابا... إذ ما الذي يمكن أن أفعله حتى ولو استطعت أن أحصل على أي كمية منه... فالتزمت الصمت... وأدرك هو اني لا أدري شيئا، فمشى خطوات إلى حزام الرصاص... وأخرج رصاصة واحدة... أمسكها بيده وقال:
:ـ تعال شوف الشيء اللي ما تدري عنو... وهوه اللي يخلي الرصاصة تتور وتخرج من ماسورة البندقية... وتروح للهدف... يعني للجهة اللي بتصوب عليها..
وتقدمت إلى حيث كان واقفا، وفي يده الرصاصة التي عكسها لارى في قاعدتها شيئا أحمر مستديرا مغروسا في القاعدة... ثم قال:
:ـ هذه التي تراها هنا... هي إللي إذا ضربت بمسمار صغير فتفجر البارود.. وتنطلق الرصاصة.. ولا يعلم إلا الله ماذا يحدث... حريق... انفجار الرصاص في الحزام يعني... مصيبة كبيرة...
:ـ وهادي ما يمكن تخرج من مكانها..؟؟
:ـ أبداً.. يعني كنت رايح تعمل في البيت مصيبة كبيرة.. هيا دحين، توعدني انك ما عاد تمسك الرصاص... وانت بتقول كنت تبغا تشوف البارود... هيا أنا اوريك هوّه... وتناول من أحد الرفوف المرتفعة علبة طويلة من الكرتون.. فتحها.. وهو يقول:
:ـ هادا هوه البارود اللي بنصنعه في مستشفى درب الجنايز...
ورأيت العلبة ممتلئة بمسحوق أسود... غرف منه في معلقة شاي صغيرة.. دلقها على صحن صغير.
:ـ هيا شوف...
ومن علبة الكبريت في جيبه، اشعل المسحوق الأسود في الصحن... فإذا به يشتعل لحظات ثم يخمد دون أن يخلف شيئا.
ووجدت في نفسي الجرأة لأقول:
:ـ لكن ايش اللي يخلي البارود اللي في الرصاص يفرقع، وصوت الفرقعة ينسمع من بعيد؟ ولم يملك ابتسامة واسعة... وهو يقول:
:ـ انت يا عزيز لما تكبر وتتعلم رايح تسبق كل واحد في سنك..
وأدهشني انه اهتم للسؤال واقتعد أحد الكراسي في المكتب.. وأمرني أن أجلس أمامه على كرسي آخر... وشرع يشرح لي الكثير جدا، ليس عن الرصاصة، بل عن البندقية كلّها، بل ذهب إلى حد، شرح طريقة شحن البندقية بالرصاص... ثم عن تلك الشوكة أو هي المسمار الدقيق جدا الذي يتحرك، عندما يضغط الجندي على الزناد... ثم نهض وهو يقول:
:ـ انت دحين عرفت كل شيء عن البندقية والرصاص والبارود... لكن هات أذنك.. وتقدمت إليه مسلما أذني... التي قسا في مصعها وهو يقول:
:ـ كل اللي سمعتو ما هو عشان تلعب بو... انت لو لعبت بهادي الأشياء يمكن تتعور... أو تعور غيرك.. اصحا.. اشوفك مرة تانية في هادي الغرفة وأنا اقدر اقفلها بالمفتاح... لكن رايح اخليها بدون قفل... عشان أنا أعرف انك ولد صادق... وتسمع الكلام... ورايح اشوف... هيا اطلع قول لهم أنا جيت اتغدى بدري.. عشان لازم ارجع للعمل..
وأسرعت وأنا أحمد الله على ان المسألة انتهت بمصع الأذن... وفي اللحظة التي كنت أخرج فيها الغرفة سمعت صوت (أمي بشرى) وهي تقول لأمي:
:ـ هادا لازم بيلعب في الزقاق البعيد... في الحماطة أو في باب الشامي...
* * *
ولم يطل انتظارنا لهدير المدافع ولعلعة الرصاص... إذ فوجئنا، ونحن في مائدة العشاء، بهذه الفرقعات التي لاشك في انها ملأت أجواء المدينة كلها... كانت أمي رحمها الله أول من علق إذ قالت:
:ـ هادا اللي كنا نسمعه ونخاف منو في حلب...
ورأيت عمي يتوقف عن تناول طعامه... وينصت، ثم يقول:
:ـ هذه مدافع (ألاوبس)... من قلعة سلع... عبدالمجيد باشا أحس بأنهم يهجمون.
:ـ ولكن مين اللي بيهجموا؟؟
:ـ اللي يسموهم (الاخوان)... وناس يسموهم (الغطغط)... جيش بن سعود.
:ـ لكن عندهم مدافع، وأسلحة زي اللي عند الباشا؟؟
:ـ لا... ما أظن... لكن عندهم البنادق والسيوف..
:ـ بس كيف قدروا يوصلوا المدينة؟؟؟ يعني الشريف ساكت وراضي عن هجومهم؟؟
:ـ لا.. الشريف حسين، يقولوا انو ترك مكة وولده الشريف علي هو اللي أصبح الملك، ولكن أصبح كمان بيحارب من جدة...
:ـ طيب.. مادام كده.. ايش اللي يخلي عبدالمجيد باشا يدافع عن المدينة...؟
:ـ عبدالمجيد باشا، وكلنا في المدينة، مع حكومة الشريف... وواجبنا اننا ما نخون حكومتنا... عبدالمجيد باشا، قال انو رايح يدافع عن المدينة حتى لو الاعداء هجموا عليه هوّه بنفسه... قال كلام زي اللي قالوا فخري باشا.. (الموت ولا الخيانة).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1319  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 74 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج