شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخوف.. ورجَّال البيت..؟
ورغم دراما الذكريات التي أثارها العم عبد الرحيم، أبو خاتون الهندية وجعلت أمّي تستسلم لتلك النوبة من البكاء، فقد كانت السهرة بعد ذلك من الليالي التي لا تنسى بالنسبة لي أنا على الأقل، إذ كادت تزول الفجوة بيني وبين (بدريّة)، وأعني فجوة أنها فتاة كبيرة ومتزوجة بينما أنا ماازال ذلك الطفل الصغير، الذي وصفتْه بأنّه (قصمة افرنج). وكان أول ما أفسح لي مجال الثقة بنفسي في الاقتراب منها في مجلسي، هو كلمات أو عبارات التدليل التي غمرتْني بها الخالة فاطمة، بعد أن قالت عني أني (رجّال البيت).
ومع أن الكثير من الحوار الذي أخذ يدور بين أمّي وبين الخالة فاطمة، لم يكن ممّا يهتم به طفل في مثل سنّي، فقد كانت كلمة (رجّال البيت) هذه بعيدة التأثير في نفسي بحيث وجدتني أصغي إلى ذكريات الخالة فاطمة عن جدّتي لأمي واسمها (حميدة) وكيف كانت (رحمة الله عليها!)... تستقبل ضيوفها من العوائل الكبيرة، في القاعة، منذ أول ليلة يغادر فيها (الشيخ أفندي) المدينة، إلى اسطمبول ومنها إلى بلاد التركمان... وكيف كانت تستعد لهن، بعدد من (الشِّيَشْ) المفضّضة... و (الحُمّى العجمي) و (الكيزرون)... ثم لعبة (البَشيسْ)، التي تستمر إلى ما بعد (كلْ عِشا)، والمقصود بهذا التوقيت، هو ساعات تصل إلى ثلاث بعد صلاة العشاء. وطوال السهرة، تتلاحق فناجين الشاهي الأحمر والأخضر... تطوف بها عليهن الصبايا، ومنهن خالتي خديجة وأمّي، وأخريات ظللت أسمع اما أنهن لم يعدن من (الشام)، واما (رحمة الله عليهم). وتركّز الخالة فاطمة على حكاية (السَّحلب) التي تقيم لها وزناً كبيراً، لأن جدّي كان يجيء به من (اسطمبول)، والذي يجيء من اسطمبول هذه شيء مختلف تماما عن الموجود في الأسواق.. وتعقّب بعد ذلك قائلة
:ـ. ما أدري يا فاطمة.. يا ترى يجيبوا هادا السحلب من اسطمبول بعد (السفر برلك) ؟ وتجيبها أمي بنبرة مفعمة بالحزن:
:ـ. منين يا خالة؟؟؟ خلاص طريق اسطمبول مقفول من زمان... وانتي عارفة كمان انهم بيقولوا بدّهم يعزلوا السلطان رشاد.
ولا تكاد أمّي تقول هذا الكلام، حتى تخفق الخالة فاطمة صدرها بيدها، وهي تقول:
:ـ. يعزلوا السلطان؟؟؟ مين يا بنتي اللي يقدر يعزل السلطان؟؟؟ انتي يدخل في عقلك زي هادا الكلام؟؟؟
:ـ. طيب يا خالة، مَهُو عزلوا قبله السلطان عبد الحميد...
وتعود الخالة فاطمة إلى خفق صدرها بيدها لتقول:
:ـ. ومين اللي قال انهم عزلوا ((الباديشاه))؟؟؟ لا.. لا لا.. يا فاطمة يا بنتي لا تقولي زي هادا الكلام.. ((الباديشاه)) هوة اللي أمر انهم يسوّوا السلطان رشاد، عشان يبغا يفضّي نفسه للذكر والصلاة.
وتتخابث أمي.. وألمحها تغمز بدريّة غمزة خفيفة لتقول:
:ـ. يعني ((الباديشاه)) دحّين قاعد... ما أحد عزله.. وكمان ما مات؟؟؟
:ـ. يا بنتي يا فاطمة، لا تقولي زي هادا الكلام... أنا سمعت عمّك محمد سعيد كم مرة بيقول انّه ((الباديشاه)) موجود في (يلديز)... وكم مرة ورَّاني أوراق المحكمة وعليها (الطرّة)... طرّة السلطان عبد الحميد بنفسه.. وكمان هادي الفلوس اللي بنسمّيها (مجيدي) عمّك محمد سعيد ورّاني كتير منهّا عليها طرة السلطان.. قصدي الباديشاه عبد الحميد.. ولم تتمالك أمي نفسها من زحمة الضحك، التي حاولت جهدها أن تتأدّب فتكتمها.. ثم لم تر ما يمنع أن تقول:
:ـ. يا خالة انتو مو كنتو في الشام...؟؟؟ وما سمعتوا انّو الشريف، والنصارى اتعاونوا على عساكر السلطان وطردوهم من أرض الشام كلها... وكمان ادينا جينا المدينة، وما عاد بنشوف فيها عساكر السلطان... راحو مع فخري... وانا سمعت انّو فخري باشا ما خرج من المدينة إلا غصبا عنّه... خرج هوّه ومعاه كل عساكر السلطان...
:ـ. هادا اللي حصل في أرض الشام، وعندنا هنا في المدينة... كله.. كله يا فاطمة بأمر الباديشاه.. بأمر السلطان... انتي ما سمعتي عن (حرّيت... عدالت... مساواة باديشاهم شوق يشا).
وهنا رأيت أمّي ترسلها ضحكة عالية، وهي تقول:
:ـ. الاّ يا خالة... سمعت هادي الغناية... وانا اقول لك معناها.
ولكن سرعان ما قاطعتها الخالة فاطمة بقولها:
:ـ. وهوة أنا ما أعرف معناها... معناها انو الباديشاه، يبغا الحرّية... والعدالة وكمان هادي (المساواة) اللي ماني قادرة افهمها... يبغاها للناس اللي ما يعرفوا تركي... يعني للعرب اللي في الشام.. وللعرب اللي في المدينة.
:ـ. طيب يا خالة.. وهادي الحرب... هادي اللي بنسمِّيها (سفر برلك)... كيف حصلت.. ومين اللي امر انهم يتحاربوا... يعني يقتلوا بعض... انتو ما شفتو الأموات اللي كانوا بينقلوهم في العربيات الطويلة ويدفنوهم مع بعض.. كلهم في حفرة واحدة.؟؟؟
:ـ. هادول اللي كانوا بينقلوهم في العربيات اللي بتقولي عليها... كانوا بيموتوا من (الشوطة)... والشوطة يا بنتي اسمها شوطة... يعني لمّا تيجي في بلد من البلدان ـ والعياذ بالله ـ تاخد خلق الله بالعشرات والميّات... والشوطة شيء ربنا رايده. لكن انا ما شفت ابدا عساكر السلطان بيقتلهم احد.
:ـ. طيب والحرب... يعني ضرب المدافع... والرصاص اللي زي المطر في الليل.. وحتى في النهار.
:ـ. في الليل.. كان عمّك محمد سعيد يؤمرنا ننام قبل العشا... وفي النهار اللي سمعته شيء كدة... يمكن (طراطيع)..
:ـ. طراطيع؟؟؟
قالت أمي هذه الكلمة وانفجرت تضحك بكل ما زحم صدرها من الضحك... وضحكت معها بدرية التي سمعتها تقول لأمها:
:ـ. يا أمي ـ انتو الصادقين ـ هادا كان رصاص... ومدافع ترمي الناس باللي يسمّوها (الدانة) و (القلّة)... وياما سمعنا في الشام، عن بيوت اتهدّمت على السكان اللي فيها... هادي كانت حرب... يعني (السفر برلك) اللي ما في بلد في الدنيا كلّها الا وعرفتها... انتي لو تسمعي الكلام بيقراه عبد المنّان في الكتب اللي بيسموها (جازيتّا)... تعرفي...
وهنا قاطعتها الخالة فاطمة وهي تقول وقد بدا عليها الضيق والحنق:
:ـ. بهواكم... قولوا اللي تبغو تقولوه... ونادوا لي منكشة... خلّيها تروح البيت وتجيب لي الشيشة والكيزرون...
ثم التفتت إلى أمي وهي تقول:
:ـ. ايش بكم يا فاطمة؟؟؟ يعني ما تبغينا (نتعتّم)...؟؟؟
:ـ. الاّ يا خالة... دحّين... بعدما تروح منكشة وتجيب الشيشة والكيزرون... اصلها في هادي الأيام طالعتلنا بأنها تخاف من المطبخ..
:ـ. ايوه سمعتك تقولي انها بتخاف، من يوم ماجا الزاكور وخرّج الساكن... طيب هادي بدرية... وهادا عزيز... يروحوا معاها المطبخ.. ولكن بعدما تجيب الشيشة.. ثم توقفت لحظات، وكأنها تستدرك، أو تفكر لتقول:ـ.
:ـ. اسمعي يا بدرية.. صفّقي لدادتك حسينة... خليها هية اللي تجيب الشيشة وانتي وعزيز ادخلوا مع منكشة المطبخ، وخلّوها تجهز (التعتيمية).
* * *
كانت تلك أول ليلة أحسست فيها بأن الحياة تتغير، وان حياتنا في الشام وحلب وإلى أن عدنا إلى المدينة، كانت سلسلة من المآسي والأحزان والحرمان... إذ أين هذه الحياة في هذه الليلة، والمجلس مؤثث، وقد أضاءته القمريّة من جانب واللمبة (أم فتيلتين) من جانب وفي الصدر منه الخالة فاطمة جادة، وقد جاؤوها بالشيشة، و (عمروها لها، وأخذت تنفث الدخان من منخريها الواسعين، وهي في فستانها الأزرق، وقد لفت رأسها بما تعلمت فيما بعد أن اسمه (المسفع) من الحرير المطرّز الأسود، على (المحرمة) التي تجمع كل الشعر، وتستدير به حول الرأس ليختفي فلا تظهر منه إلا خصل وخطها الشيب...
ثم تلك اللحظات التي قضيتها، مع بدرية في المطبخ، حيث نشجع منكشة على تجهيز الشاهي وما يسمّى (التعتيمة) وهي ألوان من الجبن والزيتون والمربّا و(الشريك أبو السمسم) ومع كل ذلك أطباق طافحة بالعنب... والرمان... والرطب... وهي تقدم في السهرات بديلا للعشاء، الذي جرت العادة أن يقدم، للضيوف الذين يُدْعَون... وليس للضيوف الذين يتزاورون بدون دعوة مسبقة... أو بحكم انهم الجيران والأهل.
وفي الفترة التي كانت منكشة تجهّز فيها هذه التعتيمية، كانت بدرية تمازحها بتخويفها من (الساكن)، الذي توهمها بأنه يتسلل من هنا أو هناك... فتكاد الدادة أن تصرخ أو هي تتصنع الخوف، وتتظاهر به، لترضي روح الفكاهة والمزاح في الشابة، وقد انطلقت على سجيتها. وقد لفت نظرها، اني كنت اضحك من تصرفات الدادة، فالتفتت بدرية وهي لا تخفي دهشتها لتقول:
:ـ. يعني انت ما تخاف يا عزيز؟؟؟
:ـ الاّ أخاف... لكن من الحنيّة...
:ـ. الحنيّة اللي كان فيها الساكن؟؟
:ـ. ايوه... لكن... لكن..
وتلجلجت... كنت أحاول أن أقول لها، أني لا أخاف، ما دمت إلى جانبها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1331  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج