شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((القَرِينة))..
أسرعت أمّي اليها، بينما تهيّبت أنا الموقف لحظات، إذ سرعان ما تذكرت مشهدها، وهي صريعة هذه القرينة، يوم قام الشيخ الزاكور بعملية اخراج ((الساكن)) من تلك الحنية اللعينة.. لكن ما لبثت أن تقدمت ووقفت إلى جانب أمّي التي أخذت رأس الدادة بين يديها، لنرى وجهها الأسمر وقد غمرته الدموع، ونشيجها يتعالى، بحيث كان يمكن أن يسمع في الزقاق، لو أن أحدا كان عابرا فيه... ولا أدري، كيف قدّرتْ أمّي أن حالة الدادة ليست (القرينة)... إذ اخذت تربت على خدّها وتكرر نداءها باسمها، وتقول بالتركية كلا ما لم أفهم منه شيئا، ولكن الدادة نفسها أخذت تتكلم هي أيضا... ثم جلست، وبسطت كفيها، ورفعتهما، وهي تردد: (ان شاء الله...) فترددها معها أمي.. ثم ما لبثت الدادة أن نهضت واتجهت بخطوات تتعثر إلى باب المجلس، بينما التفتت أمّي اليّ وهي تقول بصوت يزحمه البكاء:
:ـ. قول يا عزيز... قول ان شاء الله... قول يارب..
فأسرعت أقول ان شاء الله يا رب... ان شاء الله يارب.. ولم افهم شيئا من كل هذا، الا بعد فترة، عندما خرجت الدادة تتسوّق... فقد فهمت ان الدادة المسكينة قد تأثرت لبكائنا وللكلام الذي دار بيننا عن أبي... وانها في النهاية كانت تضرع إلى الله أن يعيده إلينا من رحلته في وقت قريب.
ومنذ ذلك الصباح، وما دار فيه من حوار بيني وبين أمي، ثم ما شهدته من انفعال الدادة وتأثرها، بدأت عندي رحلة التعلّق بذلك الابّ، الذي سافر وحده قبلنا... والذي لم يعد وقد عدنا، وأخذ الذين سافروا مثلنا يعودون.. وهو وحده الذي لم يعد.
وإذْ لم أكن قد نسيت الوان ومشاهد العذاب التي عشتها مع هذه الأمّ، بعد أن مات الجميع، ولم يبق لنا أحد... تلك المشاهد في شوارع حلب وطرقاتها، وعربات نقل الموتى، تجمعهم من الأرصفة ليتلامح بينها إنسان، لا أكاد اتبين صورته... ملامح وجهه، حتى تزحمه عشرات أو مئات الملامح والصور... تزحمة فيغمرها ما يشبه غيوما داكنة السواد، ولكنهّا تظل مع ذلك هناك... مع الوجوه المُزرقَة... وجوه الموتى الذين تنقلهم العربات من الارّصفة والطرقات، وقد ترتسم صورة لرصيف ذلك المسجد الذي ذهبتُ مع أمي اليه بحثا عن انسان تستعين به على حل مشكلة الأوراق التي تحتاجها للسفر إلى المدينة... رصيف ذلك المسجد بالذات، ترتسم في ذهني له صورة غريبة... ولا أدري حتى الآن، لم كان يخيّل إليّ ان أبي قد سقط على ذلك الرصيف... وان عربة نقل الموتى قد التقطته من هناك... ويخالجني شبه يقين بأن الأمر كان هكذا... الم تقل أمّي أكثر من مرة، انه (عالم!) وانه صلى بالناس صلاة التراويح وختم القرآن في تلك الصلاة في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان؟؟. فلا بد إذن أنه كان يصلى بالناس في ذلك المسجد، وعندما خرج يبحث عنّا، وقد هدً قواه ذلك الجوع، وحمى التيفوس، سقط على الرصيف... مات... ولم يقف أحد من الذين خرجوا من المسجد... كانوا هم أيضا مجرد هياكل عظمية، مصيرها أن تسقط.. وجاءت تلك العربة الطويلة، التي تجرّها بغال أو خيل، وهبط منها اثنان، حملوه... دون أن يعُنوا حتى برؤية ملامحه، وقذفوا به على تلك الجثث، بوجوهها الُمزْرقَة، وافواهها المفتوحة، وذهبوا به... بهم... بمئات من أمثاله... ذهبوا بهم إلى تلك المقبرة!!! بل ماازال أذكرها... فقد رأيت تلك العربات، وعليها الجثث، يوم ذهبت مع الصبية إلى تلك الربوة، حيث عدت وعُبّي ممتلىء بالخبيزة... أنه... أبى... هناك... وما دام جدّي قد مات، وسبقته خالتي... فلا بد أنهم جميعا في تلك المقبرة في حلب. ولا أكاد أستوعب هذه الصورة بتفاصيلها حتى ألوب، حولها... أحاول أن أستوضح ملامحه بين العشرات والمئات من ملامح الخلق الذين ظلَلْت أراهم منذ اللحظة التي ركبنا فيها البابور من المدينة إلى أن عدت اليها مع أمي على الجمل من ينبع... ولكن لا سبيل مع تلك الغيوم داكنة السواد التي تغمر الصورة كلهّا...
* * *
في مكاني عند النافذة التي تسكنها الحمامتان، والزغلولان في عشهما، كنت اعايش حمّى الذكريات التي يبدو أنها استغرقتني تماما، بحيث لم اتنبّه إلى أن أمّي قد خرجت من المجلس، لا أدري إلى أين من غرف البيت، وإذْ دخلت الآن سمعتها تقول:
:ـ. قوم معايا... المنجّدجا... بيدق الباب.
ولست أدري كيف لم أسمع الطرق على الباب... وكيف عرفتْ هي أنه المنجّد الذي اتفقت معه على أن يجئ في ضحى ذلك اليوم... وحزرت، وهي تطلب أن أقوم معها لنفتح الباب، أنها تتهيّب أن تهبط وحدها إلى الدهليز المعتم، وأن تفتح للرجل الغريب.. فتحنا الباب، لأرى الرجل وقد حمل على رأسه تلك المرتبة الكبيرة والوسائد التي اشترتها أمي من الحراج، وفي يده عدة التنجيد، وهي تلك الأداة التي يمتد بطولها بين الرأس والقاعدة وتَرْ تخين طويل، ومطرقة أو ما يشبهها غليظة من الخشب. وقبل أن يدخل، قالت لي أمّي:
:ـ. امشي مع الرجال... خليّه يدخل الديوان.
قالت ذلك.. ثم اتجهت نحو السلالم تحتجب عن الرجل.. وهي تقول له
:ـ. ادخل مع الولد... في الديوان... ودحّين ارسل لك القماش.
ولم يتكلم الرجل... ومشيتُ امامه إلى الديوان... وقبل أن يلقى على أرض الدكة ما كان يحمله على رأسه.. التفت الي يقول:
:ـ. اجري يا وليدي.. جيب لي كاسة موية.. بس باردة.. باردة.. فاهم؟
واسرعت كما طلب.. وجدت أمي أمامي على السلالم.. وقد سمعتْه يطلب الماء فقالت
:ـ. دحّين تيجي منكشة تودّيله الموية والشاهي كمان.. تعال انت ودّيله القماش.
* * *
كانت عملية تنجيد المرتبة مسلّية جدا بالنسبة لي... إذ ما كاد يبدأ في ممارستها، وأرى القطن ينتفش، ويتكاثر بعد ندفه حتى أخذت اتساءل بيني وبين نفسي: كيف يا ترى سيصنع الرجل من هذا الحجم الكبير مرتبة ووسائد تصلح للنوم،... وجاءت منكشة بالشاي، وعندما ارتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر... ولم يكن المنجّد قد فرغ من عمله بعد، جاءت تقول له
:ـ. تنجيد مرة ثانية... دحّين فيه غدا..
قصدت يد ندف القطن، وأنها ستأتيه بوجبة الغذاء..
ولم يقل الرجل شيئا.. هزَّ رأسه موافقا.. وعاد إلى عمله، ورفع عقيرته بغناء لم يتوقف عنه منذ بدأ العمل. وإن كان صوته يكاد يبدو مخنوقا، بالغبار الذي لاشك أنه كان يستنشقه بدون انقطاع.
ظلْلت اتفرّج على عملية التنجيد، منبهرا بحجم القطن الذي أخذ يملأ حيّزا كبيرا من دكة الديوان، يتجمّع في الركن، كلمّا ازاح الرجل، الكمية التي يتم ندفعها إليه... وجاءت منكشة بالغذاء... فما كاد يراها داخلة با (لتبسي) حتى توقف، ونهض.. وتمطي، ثم شمّر عن ساعديه، وطلب ماء للوضوء.. وهو يقول:
:ـ لايفوتني الضهر.
ما كادت تقع عينا أمّي عليّ، وأنا أسرع إلى المجلس لتناول طعام الغذاء، حتى خَفقتْ صدرها بيدها، وهي تقول:
:ـ. وَهْ... وَهْوَهْ... أصحا تدخل.. خليك واقف عندك...
ولم افهم شيئا.. ولكني وقفت مندهشا، ورأيتها تنهض عن المائدة المبسوطة على الأرض وتسرع اليّ... تسحبني من يدي بشيء من العنف.. إلى (بيت الماء..)... حيث جرّدتني من ملابسي كلّها، وقامت بغسلي، ودعك كل جسمي بالصابون والليفة... وبهذا أدركت، ان غبار القطن، ومايتناثر منه، كان قد لفني في أبشع كسوة تخطر على بال. وعندما عدنا إلى.. المجلس البستني الجديد من الملابس الداخلية للمرة الثانية.. ثم فتحت لفافة كبيرة من الورق الأسمر، علمت أن الدادة قد جاءت بها من مغازة العم اسماعيل وفيها الثياب الجديدة التي جهّزها ذلك الخياط من الأقمشة التي اشترتها يوم ذهبنا اليه. البستني أحد هذه الثياب.. وتحققت من طوله واتساعه وطول اكمامه.. وزرّرت لي فتحة الصدر.. وأخذت تتأمّلني بنظرة راضية معجبة... وهي تقول:ـ
:ـ. هيأ اجلس تتغذّى...
والتفتت إلى الدادة تقول:
:ـ. التوب اللي في (بيت الما)، وكمان التوبين اللي في البقشة القديمة... كلهم ما عاد اشوفهم... احرقيهم.
وقبل أن تتناول أول لقمة من الأرز (البخاري) الذي كانت رائحة نكهته الشهية تملأ صدري، رفعت كفيها ورأسها إلى السماء وقالت:
:ـ يا ربي لك الحمد.
وقبل أن نفرغ من تناول الطعام سمعنا صوت المنجّد يقول:
:ـ. هيّا يا هوه... تعالو شوفو الشغل.. فين تبغوا المرتبة والمخدرات؟؟
* * *
قبيل المغرب.. وقد بدأت العتمة تتسلّل إلى المجلس... سمعنا (صفقة) وصوت الخالة فاطمة جادة تنادى من بيتها.. من مجلسها الذي يقابل مجلسنا بالضبط... أسرعت أمّي إلى النافذة بينما كانت الدادة تملأ (زنبرك) القَمَريَّة، وتشعلها... ثم تعالج اشعال اللمبة التي تعلّق على الجدار... لم أتابع الحوار الذي كان يدور بين أمي والخالة فاطمة، إلى أن سمعت صوت (بدريّة)... أسرعت أقف إلى جانب أمّي لاراها... بدريّة.. واقفة خلف أمهّا... كانت نافذة الخالة فاطمة خالية من (الشيش) الذي كان في نافذتنا... فكان يتاح لي أن أرى بدريّة، وفي نفسي أن لو تراني هي أيضا، وقد ارتديت هذا الثوب الجديد الأنيق، بل لو أن هذه الفجوة بين النافذتين تتلاشى، فاقترب منها، لترى كيف أمسيت في هذا الثوب، وبعد أن قامت أمّي بدعك كل جزء من جسمي... وعادت بي الذاكرة إلى الليلة التي قضيتها ساهرا إلى جانبها، وهي تتحدث إلى أمّي عن أبيها وحكايته مع بنت نجم الدين أفندي وقد كنت في ذلك الثوب الرث، الذي امرت أمّي بحرقه هو وغيره من الملابس الرثة المهترئة لئلا تقع عيناها عليها مرة أخرى... كانت تقف هناك خلف أمّها جميلة، رائعة الجمال.. لولا أن شعرها كل معصوبا فيما يسمّى (المحرمة)... وذلك العطر... ذلك العطر الذي عشت مشاعر اريجه الغريب طوال تلك الساعات التي سهرتها إلى جانبها، وشعرها الوحف، يملأ الوسادة بيني وبينها.. لا سبيل إلي أن أعب منه.. وهي هناك بعيدة... خلف أمّها... لم أتصور أنها يمكن أن تراني في موقفي خلف شيش النافذة... ولكن... هاهي تسأل أمّي
:ـ. هادا عزيز اللي جنبك يا ستيتة؟؟؟
:ـ. انتي شايفته؟؟؟ ايوه... هادا عزيز... لا تشوفيه دحّين... بعدما روشْتُه ولبس التوب الجديد... قعد اليوم يتفرّج على تنجيد المرتبة... وطِلعْ لي... الله لا يورّيكي... يخوّف...
وكانت المفاجأة التي كدت أقفز فرحة بها، ان سمعت الخالة فاطمة تقول:
:ـ. دحّين تجيكي بدريّة... وأنا ألحقّها بعد شويّة... نبغا نبارك لك... ونقرأ الفاتحة على أرواح اللي راحو. رحمة الله عليهم...
واستدارت الخالة فاطمة ذاهبة عن موقفها من النافذة... بينما ظلّت بدرية واقفة لاّسمعها تقول:ـ.
:ـ. اسمعي ياستيته... ابغا احكيكي.. عن بنت نجم الدين... جاء واحد خطبها وسّط ابويا..
ووضعت كفّها على فمها تكتم ضحكة.. ثم قالت
:ـ. دحّين اجيكي.. واغلقت النافذة.. لتلتفت أمّي إلى الدادة التي كانت تتهيّأ لصلاة المغرب... وكلّمتها باللغة التركية، ما فهمت منه أنها تطلب منها أن تستعد بوجبة العشاء للضيوف... وأن تأخذ اللمبة التي تعلق في الجدار لتعلّقها في الدهليز... وان تشعل اللمبة (أم فتيلتين).
قالت أمّي هذه الكلمات.. وقد شعت في وجهها فرحة عبّرت عنها عيناها اللتان اعتقد اني كنت ارى فيهما بريقا وألقا لم يسبق ان رأيت مثلهما في هاتين العينين من قبل... واسرعتْ إلى البقشة التي ماتزال تلف فيها فساتينها... فتحتْها... واخذت تنشر ما فيها.. تقلب هذا.. تتأمله ثم تعيده... وتأخذ الآخر... وهكذا... ثم القت نظرة عليّ.. وطفرت من عينيها دموع، لم تستطع أن تمنعها... ثم قالت في هدوء..
:ـ. نسيت.. نسيت اشترى لنفسي شيء...
ولم أقل شيئا.. وان كنت قد أدركت أنها كانت تريد أن تظهر امام (الضيوف) بمظهر لائق... ولم تكن الفساتين التي تأملتها، مما يصلح لسهرة مع (ضيوف) يجيئون لأول مرة بعد أن تأثث المجلس... وأضاءْته القمرية.. واللمبة (ام فتيلتين.)
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1222  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .