شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الانتقال من بيت ((الصابوني)) إلى بيتنا الخاص
بعد أن زاد علينا طفل جديد هو ((عبد المعين))
وأذكر أني استيقظت ذات صباح لأرى في يد خالتي مخلوقا صغيرا، تحاول أن ترضعه كما تفعل أمي، مع عبدالغفور.. وجاءت أمي أخذت يدي في يدها وهي تقول:
ـ هيا سلم على عبدالمعين.
ولم يمض وقت طويل لأفهم أن عبدالمعين هذا هو الذي كان قابعا في بطن خالتي، فهو ابنها الذي قدَّرت أنه قد خرج من مكمنه ونحن نيام في الليل.
ولي في هذا البيت، في مدينة حماة ذكريات أيام اعتبرها سعيدة بمنطق الطفولة وهمومها. وقد ظللت أحن إليها فترة طويلة من العمر، فاللعب أو التلهى بطلمبة البئر مثلا، كان مطلبا لا استغني عنه، وأتمنى أن أمارسه أطول وقت دون أن أتعرض لسخط وغضب أمي وتحذيراتها. والفرصة المتاحة دائما هي الفترة التي كان يصطحبها فيها جدي حين يخرج لقضاء بعض حوائجه التي تستلزم أن يمشي على قدميه مشوارا طويلا فيستعين بها إذا أدركه الوهن وآلام عرفت بطول الصحبة أنه يشكو منها بحيث قد يجد نفسه مضطرا أحيانا إلى الجلوس حيثما اتفق.
قبل ولادة عبدالمعين كانت خالتي تعنى بأخي عبد الغفور الذي لم يعد يستقر في مكان منذ يستيقظ في الصباح وحتى ساعة النوم بعد الغروب.. أما وقد أصبحت هي نفسها أما، وأصبح عبدالمعين ابنها محتاجا للرضاع فهو في حضنها أحيانا أو إلى جانبها في فراشها الذي أصبحت تكاد لا تقوى على مغادرته لما طرأ على صحتها بعد الولادة من الضعف والهزال، فإن ملاحظة عبدالغفور في حركته المتواصلة أصبحت بالنسبة لها مشكلة مرهقة. ولذلك فكثيرا ما كنت أسمع صوتها الناعم الرقيق يرتفع من مكانها في الغرفة التي تنام فيها، تناديه، أو تناديني أنا وهي تقول:
ـ : يا عزيز.. جيب غفوري هنا.. أصحا لا يكون باب الزقاق مفتوح.. وينفلت. وهي تدلل عبد الغفور فتسميه ((غفوري)) كما تدللني أنا فتناديني ((عزيز)) وقد كانت رحمها الله تصر على هذا التدليل، رغم عشرات المرات التي سمعت فيها جدي ينبهها في حدة وهو يقول.
ـ : الغفور هو الله.. والعزيز هو الله يا خديجة. قولي عبدالغفور.. عبدالعزيز ولكن لا سبيل إلى أن يصغي عبد الغفور أو أن يترك ما يلهو به في ((البخشه)) ويبدو أن ما كان يحب أن يلهو به هو طين حوض الزهر الكبير إذ يملأ يديه الصغيرتين منه، ثم ينثره على البلاط، أو يهيله على رأسه، أو يدهن به وجهه...
أما حين يراني أحرك ذراع ((الطرمبة)) ويرى الماء يتدفق منها في الحوض الصغير، فإنه يترك كل شيء حتى الطين. ويسرع ليقف إلى جانبي، وأفهم من نظراته ومن الكلام غير المفهوم الذي يرفع به صوته، أنه هو أيضا يريد، أن يمارس اللعبة، فيخرج الماء كما أخرجه بهذه الطريقة من البئر.
وكانت المشكلة التي أتورط فيها دائما هي أن يمتلىء الحوض بالماء فلا أعرف كيف ينصرف منه إلى حوض الزهر.. وفي حسابي أن أمي سوف لن تغفر لي مخالفة أوامرها الصارمة بأن لا أمارس لعبة الطرمبة هذه، حين ترى الحوض ممتلئا فتكتشف أني أنا الذي ظل يلعب حتى امتلأ.. وهذا ما كان يحدث في كل مرة أتورط فيها مع الحوض الممتلىء، ولا فائدة أبدا من محاولة الهرب عن وجهها حين أراها تتجه إلى وهي تقول:
ـ : يعني برضه لعبت في الطرمبة؟؟... تعال!!
ولا أكاد اقترب منها أو تقترب هي مني، حتى أجد نفسي مشدودا من أذني الأثنتين بين يديها وأصابعها، وليس هذا العقاب، هو النهاية.. إذ لن أنسى الطشت الذي توقفني في وسطه بعد أن تجردني من ملابسي لتغسلني كل مساء، ومع عملية الاستحمام اللعينة هذه، مزيد من مصع الاذنين، وصفعات كفها اليمنى تتلاحق على الأليتين، مع التذكير بكل مخالفة ارتكبتها في ذلك اليوم أو حتى في أيام مضت، ولا يخلصني منها إلا خالتي التي تسمع صرخاتي مع كل صفعة كف، ومصعة أذن فتخف لتخليصي.. بل ولم يكن جدي يتردد في نجدتي حين يسمع هذه الصرخات. فلا تكاد تراه أمي داخلا الحمام، حتى تسرع إلى الفوطة تلفني بها، وتدفعني أمامها وهي تقول:
ـ : يا بويا... هلكني... ما يسمع الكلام ابدا!
أما بساتين الفاكهة التي أحكم جدي اغلاق الباب الذي يفضي إليها، بقفل غليظ، فقد كانت الحلم الذي يسرح خيالي في اجوائه عندما أجلس بجانب جدي حين يجلس هو ويفتح النافذة المطلة على هذه البساتين في الصباح الباكر أو في المساء قبل صلاة المغرب... لقد اصطحبني مع أمي ذات صباح في الخروج من هذا الباب المغلق... وأخذ يتجول بنا بين أشجار ثمار كثيرة عرفت منها شجرة التين، وشجرة المشمش، وشجرة اللوز التي قطفت أمي وأعطتني حبات من ثمارها الخضراء، جعلت أكلها فأجد لها طعما لذيذا، ثم شجرة الجوز، محملة بثمارها الخضراء كبيرة الحجم التي قطفت منها أمي حبات فأسرع جدي ينبهها إلى عدم الأكثار من أكلها، لأن ((الجوز الأخضر)) يسبب سقوط الشعر.. ولم يطل بنا التجوال فقد شارفنا النهر ونحن نخرج من بين الأشجار... وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها نهرا... بهرني مرآه ومنظر الضفة المقابلة وقد التفت فيها الأشجار، وامتد على طولها العشب والأزهار البرية بألوانها الصفراء.. والحمراء... ومن موقفنا تحت ظلال شجرة تدلت أغصانها إلى الماء كأنها تشرب أو تستحم بدا النهر ساكنا هادئا، بحيث لم أدرك أن مياهه تمشي الا حين القت أمي على سطحه عودا جافا فانطلق مسرعا وغاب عن الأنظار...
والتفت جدي يحذرها من ان اقترب من الحافة... وأضاف بضع كلمات بالتركية لم أفهم منها شيئا... ولكنه التقط حجرا ورماه في النهر.. واشار باصبعه وكرر تحذيره.. والأرجح أنه كان يقول لها أن النهر عميق، وخطر على من يحاول أن يخوض فيه..
وأخذ جدي يدي في يده، واتجه على طول الضفة بين الأشجار، إلى ان وقف بنا أمام الناعورة، التي شهدتها لأول مرة، وقد كنت أسمع صوتها الحزين، الذي كانت خالتي تقول انه يذكرها بصوت السواني في المدينة.. كانت الناعورة تدور وترسل هذا الصوت المتصل الحزين... رأيت كيف يتدفق الماء في اعلاها... ومع أن جدي حاول أن يقول لأمي كيف تنقل الناعورة هذا الماء من سطح النهر إلى أعلاها، فالأرجح أن أمي لم تكن تختلف عني... لم نفهم شيئا.... واستدار جدي وعدنا إلى المنزل، وفي السلة الصغيرة التي كانت تحملها أمي منذ خرجنا إلى البساتين، مجموعة من ثمار التين، واللوز، والمشمش، والجوز أسرعت بها إلى خالتي، وشقيقي عبدالغفور، بينما ظل جدي يعالج اغلاق الباب بالقفل الغليظ.
كان الخروج، أو حتى التسلل إلى تلك البساتين وحدى هو الحلم الذي كنت اتحسر على أنه لن يتحقق مادام جدي يحكم اغلاق الباب الخلفي بذلك القفل الضخم. ومفتاح هذا القفل لا ينسى جدي أبدا أن يضعه في الجيب الداخلي على صدره من ثوبه. ومع أنه كان يثق بأمي ويعتمد عليها، ويترك لها التصرف في الكثير من الشؤون، فإنه نادرا ما كان يوافق على اعطائها المفتاح حين تطلبه منه لتخرج مع خالتي وابنها عبدالمعين وفي يدها أخي عبدالغفور الذي أصبح يمشي الآن بخطوات ثابتة، كما أصبح يتكلم ويكثر من الأسئلة التي تعجبها كما تعجب خالتي، فأراهما تضحكان له وقد تنحني أمي عليه فتقبله وتدلله. وكان ذلك يغيظني ويثير حفيظتي عليها، وعليه معا، كما أصبتُ بعد مجيء عبدالمعين واشتغال خالتي به، أشعر أني مخلوق لم يعد يحبه أحد سوى جدي الذي وجدت نفسي أسعد بمرافقته حين يخرج في زيارة للحاج بشير الصابوني أو للتسوق، بل أصبحت لا أمل الجلوس إلى جانبه عند تلك النافذة المطلة على البساتين رغم أنه كان يقضي وقتا طويلا وبين يديه واحد من كتبه الضخمة ينهمك في القراءة وعلى أنفه وعينيه تلك النظارة بأطارها الأبيض، التي تتدلى على صدره أحيانا، حين يرفع عينيه عن الكتاب.
كانت أمي هي التي تحفظ لجدي في صندوقها الخشبي الأسود، نقوده ومع النقود تلك الأنابيب مختلفة الأطوال من الصفيح التي عرفت فيما بعد، أنها محافظ للوثائق والحجج، كنت أراه حين يستدعيها ويتكلم معها بالتركية، فتسرع تفتح الصندوق، وتأخذ في عد قطع النقود التي اسمع رنينها وعرفت أن منها الفضية الكبيرة، ومنها الذهبية بين صغير وكبيرة.. وأكثر ما يطلبه جدي وتقدمه أمي إليه هذه القطع الفضية.. وقد كنت أحرص على التطفل لاكتشف ما في هذا الصندوق.. فأرى مجموعة من العلب الكبيرة والصغيرة فتحت أمي واحدة منها ذات مرة، فإذا فيها صفوف من الملاعق والسكاكين والشوك وسمعت خالتي تقول:
ـ : ياترى متى نرجع بيتنا في المدينة، ونقعد مع الضيوف على الصفرة، وقدامنا هادي الملاعق؟؟
ـ : والصيني يا خديجة... الصيني اللي أبويا جابوه من إسطمبول،.. داده (منكشه) الله يذكرها بالخير رصَّته في الدولاب الكبير في المؤخر.. إن شاء الله نلتقيه صاغ سليم..
ـ : إن شاء الله... وياريت يا ستيته خليتى هادي الملاعق مع الصيني.
ـ : خفت يا خديجة من الجوار (سندولات) داده منكشه يجويهرجوا معاها ويغافلوها ويأخدوا العلبة وما تنتبه لهم.
ـ : ربنا كريم يا ستيته.. نرجع ونلتقي كل شيء زي ما هوه.
ـ : بس أنا خايفة على الفراش والمفارش اللي في بيت باب المجيدي..
ـ : لا.. لا تخافي، أمي حليمه..
ـ : أيوه.. الله يذكرها بالخير، لا تروح لأحد ولا أحد يجيها.. بس ما أدري.. كيف تسوى داده منكشه، وأمي حليمه. لما تغلق الفلوس اللي عندهم.
ـ لا.. لا تخافي.. أبويا لابد (انهم مرتِّبين) لهم كل شيء.
ـ بس ترى غيابنا طول يا خديجة!!
ـ ايوه.. وما هو باين متى نرجع
ـ لما الحرب تخلص
ـ يا رب..
* * *
ومايزال في ذاكرتي عن حياتنا في ذلك البيت من مدينة حماة ليلة رعب وارهاب لم أنسها قط. لا أذكر الكثير من التفاصيل.. كان الظلام حالكا، عندما فتحت عيني وأنا أسمع صوت أمي إلى جانبي ولكنه يكاد لا يظهر.. مكتوم، أو مبحوح أو مخنوق، وقد ضمتني إلى صدرها حيث أحسست أنها تضم عبد الغفور أيضا، وعلى مبعدة منا ربما في أحد أركان الغرفة التي تنام فيها، جلبة وحركة تحطيم وتكسير وأصوات عدد من الرجال يتهامسون، وقد يرتفع صوت أحدهم ولكن سرعان ما يعود إلى الهمس...
سمعت صوت أمي ينطلق في صيحة مخنوقة تقول:
ـ حرامي.. حرامي يا ناس حرامي
وما كادت.. حتى سمعت صوت خالتي في صيحة أخرى باكيه مرتعشة، ومعها عدد من سعلاتها المعتادة تقول:
ـ حرامي.. حرامي..
ـ وما هي إلا لحظات حتى تسلل إلى الغرفة ضوء مصباح ثم ظهر داخلا من الباب جدي وفي يده فانوس صغير، وفي الأخرى الفأس الذي يكسر به أعواد الحطب التي كان قد اشتراها منذ أيام وقالت أمي أنها للتدفئة في أيام الشتاء..
صاحت به أمي وخالتي معا
: ـ خليهم يا بويا.. خليهم ياخدو اللي يبغوه...
ولكن جدي بدا محتدماً وكأنه لم يسمع، واندفع إلى حيث رأيت ثلاثة أشخاص..، اثنان يحملان ما وجدوه في الصناديق.. والثالث صرخ في جدي وانطلق في اتجاهه، تبعه الأثنان بما يحملان... وما كاد الثالث يرى جدي يرفع الفأس في وجوههم، حتى سمعت صوت طلقات مسدس ورأيت زجاج الفانوس يتطاير وينطفي.. ويغمرنا الظلام.. ومع صوت الطلقات، وانطفاء الفانوس، صيحات أمي وخالتي وصراخي أنا وعبد الغفور معا...
كل ذلك تم في لحظات.. اذ سمعنا خطوات اللصوص وهم يتراكضون في الفناء الصغير... ثم يسود الصمت.. ولم نر أثرا لجدي ونهضت أمي، ومعها خالتي تناديان بصوت يخنقه البكاء:
أبويا.. انت فين يا بويا؟
تركتانا.. أنا وعبد الغفور، وعبد المعين حيث نحن على الفراش واتجهتا نحو باب الغرفة وهما تبكيان وترددان.
ـ : أبويا.. انت فين يا بويا؟
ولم يطل بحثهما عنه إذ سمعت صوته يهديء من روعهما في الفناء ويكلمهما بالتركية. وفهمت انه لاحق اللصوص.. ولكنهم هربوا من باب الشارع الذي لا يدري كيف فتحوه ودخلوا البيت.
ومنذ تلك الليلة الليلاء بدأت المرحلة السوداء في حياتنا.. مرحلة شقاء هذا الجد ومعاناته مع العوز والفاقه، وكدِّه في سبيل لقمة العيش يدخل بها على البنتين والأطفال...
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1319  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل