شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من الشام إلى حماة
بحثاً عن زاهد أبي وزوج خالتي ((عبدالغني))
وأكاد لا أذكر اليوم عن الرحلة من دمشق إلى حماة شيئا ذا بال إلا (الفيتون) الذي ارتفقناه من المحطة إلى بيت الصابوني. كان سائقه رجلا تركيا أو يعرف اللغة التركية.. ولا أدري كيف تعرف عليه أو تعرف هو على جدي.. فهمت فيما بعد أن الفيتون ((عربة خاصة)) يملكها بيت الصابوني، إذ كنت كثيراً ما أراه يقف عند باب ذلك البيت الذي وجدنا أنفسنا مع جدي نعيش في غرفتين منه تقعان في فناء واسع تتوسطه حديقة صغيرة.. ولكل من الغرفتين نافذة تطل على هذه الحديقة..
هناك غرف أخرى في هذا الفناء يعيش فيها آخرون، عرفت مع الأيام انهم أفراد أسرة الصابوني من رجال وشبان ونساء عجائز وشابات، كما عرفت من تنبيهات جدي على أمِّي وخالتي بملاحظة تصرفاتي بالذات، إننا ضيوف على أهل هذا البيت، فلا بد من الهدوء وعدم ازعاج أحد.
ولا أذكر كم مضى من الزمن ونحن ضيوف. ولكني لا أنسى ذلك الشيخ الوقور الذي عرفت أن اسمه (الحاج بشير). كنت أراه يدخل البيت مع غروب الشمس، فلا يكاد يخطو بعض خطوات في الفناء حتى يتوافد لاستقباله الشبان والفتيات والأطفال من أسرته.. يقبلون يده ويربت هو على أكتافهم، ويحتضن الأطفال ويضاحكهم.. ثم يلتفت إلى ابنته الكبرى ويسأل:
هل الشيخ موجود؟
والشيخ هو جدي.. فلا يكاد يسمع منها أنه عاد بعد صلاة العصر حتى يسرع إلى الغرفة التي خصصت له من الغرفتين حيث يقف جدي لاستقباله.. يجلسان فترة يسحبان أو يتبادلان أحاديث قصيرة خافتة ثم أرى الشيخين ينهضان بعدها لصلاة المغرب جماعة يؤمها الحاج بشير، ويحضرها جميع الشبان والذكور من الأطفال. فإذا فرغ الشيخان من الصلاة، وأشعل المصباح ذو الزجاجة الطويلة والفتيلتين يخرج الجميع من الغرفة، ولا يدخلها أحد على الشيخين إلا عند صلاة العشاء، وبعد أدائها، ينتقل الجميع إلى غرفة أخرى لتناول وجبة العشاء.
ومن أهم الأطباق التي ما أزال أشتهيها حتى اليوم وقد عرفتها في ذلك البيت هو طبق ((الكبة)) بأنواعها المختلفة الكثيرة و (المغمومة) و (داود باشا) ومن وجبات الصباح التي لا أنساها تلك الكرات السمراء التي يسمونها (شنجليش) واللبنة (والدبس) وزيت الزيتون.
وقد ظللت لا أدرى شيئا عن العلاقة بين بيت الصابوني في حماة وبين جدى القادم مع أسرته من المدينة المنورة. ولم يكن في ذهني في تلك السن خلفيات تمكنني من تفسير ما يدور حولي والحوار الذي أسمعه وأصغى إليه يدور أحيانا بين أمي وخالتي أو بينهما من جانب وبين جدي من جانب آخر، كان بالنسبة لي الغازا، لم أعن أو لم أجد ضرورة لحلها.. لقد سمعت كلاما قاله جدي عن ((الباشا)) في المدينة، ثم عن ((السلطان)) في استامبول، وعن أن على أهل المدينة ـ ونحن منهم ـ أن يسافروا إلى الشام، لأنهم لن يجدوا ما يأكلونه، وأن كل الموجود من الأغذية محجوز ((للعسكر)). وقد سمعت كلمة ((الحرب)) تتردَّد على ألسنة الناس، وأنها السبب في ركوب ((البابور من المدينة إلى الشام. ولكن هذا والكثير من أمثاله، لم يستوقف ذهني قط... إذ لم يكن عليَّ أنا، إلا أن أسلِّم يدي إلى يد جدي وانطلق معه حيثما يتجه منذ يخرج من المنزل إلى أن يعود، وأن أطيع كل أمر اسمعه من أمي أو من خالتي أو حتى من هؤلاء الذين يحدث أن يتواجدوا معنا سواء في ((البابور)) أو في الشوارع أو في بيت الصابوني ماداموا هم ((الكبار)).. كانت حكاية طاعة الكبار هذه تترسخ في نفسي بتوجيه كثيرا ما يكون شرسا غاضبا إذا لاحظت أمي، إن واحدا، أو واحدة من هؤلاء الكبار قد طلب مني شيئا فتجاهلته أو غفلت عنه...
ومع هذا الركام من الغفلة أو البلاهة أو عدم التوقف عند الكثير من التصرفات حولي... كان الغريب حقا ان كلمتي ((الباشا)) والسلطان ظلتا تأكلان صدري، فأي شئ هذا الباشا يا ترى؟ وأي شيء هو السلطان؟ ولعلي لم أحاول أن أكون صورة للسلطان في ذهني ولكن لا شك أبدأ في أني قد كونت ((للباشا)) صورة ظلت تظهر كلما طرق سمعي كلام عن الباشا ـ أي باشا ـ ليس فقط في مرحلة الطفولة والترحال أو التشرد هذه وانما أيضا بعد ذلك، إلى أن بلغت مرحلة الشباب. كانت أهم ملامح الصورة هي ((الضخامة)) و ((الأبهة)) والمهابة وربما القوة التي ليس قبلها ولا بعدها قوة.. ومنطق هذا التكوين ـ على الأرجح ـ هو كثرة ما ظللت أسمعه عنه في ((البابور)) أولا ثم بعد ذلك كلما دار حوار بين جدي وأمي، أو بين أحدهما وبين إنسان آخر... فهو الذي أمر الناس بالخروج من المدينة، وهو الذي يملك هذا ((البابور)) بكل ما يحمله من البشر وبكل ما يحدثه من ضوضاء تصم الآذان، بل بكل ما ينفثه من دخان أسود رهيب يحجب السماء، ثم بتلك الصيحة أو هي الصرخة التي تملأ الدنيا عندما يتأهب للحركة على تلك العجلات من الحديد تنزلق أو تدور على قضبان من الحديد أيضا... فلا تكاد هذه الصرحة تدوى ـ حتى يتقاذف الناس من مواقعهم خارجه متزاحمين على العودة إليه.. فإذا تحرك، فلا صوت ولا نأمه إلا هديره هو، ولا حركة لأي مخلوق من الركاب في داخله، وقد جلسوا على الحقائب والصناديق والزكائب ـ ومع الهدير المتواصل صراخ الأطفال وقد أفزعهم الهدير، ولم يجدوا مأمنهم حتى وهم على صدور الأمهات أو على أكتاف الآباء. فالمخلوق الذي يملك هذا البابور الرهيب، ويملك أن يحشر الناس فيه من المدينة، ثم من دمشق ومنها إلى حماة، وبعد ذلك إلى ما يظل علمه عند الله من البلدان والمدن، هذا المخلوق ـ هو ((الباشا)) لابد أن يكون ـ في تصوري ـ رجلا بالغ الضخامة بالغ الرهبة، إلى الحد الذي يجمد القدرة على المقارنة بينه وبين أي رجل أو مخلوق سواه.
ولا أعتقد أن القارىء، يتوقع أو حتى يتوهم أني بعد هذه الرحلة الطويلة في قفار الزمن وفيافيه استطيع أن أتذكر كم ظللنا نقيم ضيوفا في بيت الصابوني في حماة ولكني أتذكر اليوم الذي سمعت فيه جدي، يقول لأمي، أنه قد وجد بيتا ننتقل إليه، ويضيف بالتركية كلاما لم أفهم منه شيئا، ولكني رأيت كيف تترقرق في وجه أمي ابتسامة عبرت عن فرحتها أو امتنانها، ثم رأيتها تسرع إلى خالتي، وكأنها تبشرها بأننا سننتقل إلى بيتنا...
وكانت خالتي في أواخر شهور حملها.. وقد استقبلت البشرى بأسارير نمت عن فرحتها هي أيضا، ولكن الفرحة عجزت عن إخفاء إعيائها وتأخر صحتها وذبول نضرتها.. وسمعتها تسأل أمي. وهي تسعل سعلتها الخفيفة التي تكاد لا تسمع.
ـ ومتى يا ترى ننتقل؟
ـ خلاص يمكن بعد ثلاثة أيام... بس لما أروح مع أبويا السوق، عشان نشترى مفارش أو حنابل هندية ومراتب للنوم ومخدات، ولوازم المطبخ.
ـ طيب.. لكن أنت شفتي هادا البيت؟
ـ لا... لسه ـ رايحه اشوفه اليوم.. لكن أبويا ((قالوا)) أنو قريب من ((العاصي)) وفيه أربعة ((أوضات)).. وحدة منها كبيرة للضيوف.. ووحدة.. ووحدة لوهوّه... وكمان يا خديجة أبشرك البيت فيه ((بخشة)) صغيرة. وبير مويه حلوة... و ((طرنبه)) نشغلها بيدنا زي هاديك اللي في بستاننا في ((العنبرية)) في المدينة.
ـ لا تفكريني يا أستيته بالمدينة... أنا لما باسمع في الليل صوت اللي بيسموها ((الناعورة)) هنا، باتذكر السواني اللي في ((بلدان المدينة))... صوت السواني... متى؟
متى ياربي، نرجع المدينة ونسمعه؟
ـ فرج الله قريب يا خديجة... ابويا ((قالوا)) كلها يمكن سنة ولا سبعة اشهر وتخلص هادى الحرب.. بالله قولي يا خديجة.. ربنا ينصر المسلمين على النصارى والكفار.
ـ يارب... ويرجع زاهد، ويرجع عبدالغنى.
ـ هوه انا ما قلت لك؟... أبويا ((قالوا)) انهم سمعوا أنو عبدالغنى في حلب.
ـ في حلب؟.. وفين حلب هادي؟
ـ أنا كمان ما أدري فين حلب.. لكن أبويا ((قالوا)) أنهم كتبوا له ((مكتوب)) ولازم إذا استلم المكتوب، يكتب هوه كمان مكتوب يخبرنا عن أحواله.
ـ بس يا ترى ليه راح حلب؟
عشان يا خديجة.. عشان هو رجَّال، وشباب والسلطان يبغا الشباب كلهم يكونوا معاه عشان ربنا ينصره على النصارى والكفار.
ـ يعني عبدالغني صار من عسكر السلطان؟
ـ لا.. ما هو عسكري.. لكن انتي عارفة انو يفهم في شغل ((البابور))... لابد أنو بيتشغل في البابور.
ـ أنا باسمع صفِّيرة البابور وهوه جي من الشام كل يوم.. يا ترى عبدالغني ما يقدر يجي يشوفنا ونشوفه.
ـ طيب. لازم ما تنسى أنو ما يدري اننا هنا في حماة.
ـ صحيح.. صادقة.. يمكن ما يدري اننا سافرنا من الشام وجينا هنا.
ـ ايوه.. لابد انو ما يدري.. لكن ابويا ((كتبوا)) له المكتوب زي ما قلت لك.
ـ يا ترى ابويا ((قالوا)) له اني حبلى.
ـ والله ما ادري يا خديجة.. ولما التقيه رايق اسأل لك هوه.
ـ وفجأة قطعت أمي حوارها مع خالتي.. والتفتت إلى تقول بحدة:
ـ انت قاعد تسمع الهرج؟؟.. فين عبدالغفور يا ولد؟؟
وعبدالغفور هذا الذي تسألني عنه هو شقيقي الذي أصبح الآن يمشي بخطوات أكثر ثباتا، ولذلك فهو يكاد لا يستقر الا عندما يستلم صدرها أو عندما تمد خالتي ساقيها وعلى قدميها وسادة يضطجع عليها ويسمع منها بصوتها الحنون وهي تؤرجحه يمنة ويسرة أغنية: ((يالله يرقد يالله ينام/ على مخدة ريش نعام)).. فينام فعلا ولكن على هذا السرير من ساقيها وقدميها.
وقد أصبحت أمي تكل إليَّ ملاحظته أو متابعة انطلاقه في الممر بين الغرف، أو انحداره إلى الفناء حيث نجده أحيانا يكاد يسقط في أحد أحواض الزهر.
ولا أذكر، كم يوم قضينا لننتقل إلى ((بيتنا)) كما أصبحت أمي وخالتي تسميان هذا البيت... ولقد كنت أسعد حظا من خالتي إذ كان جدي لا ينسى أن يصطحبني معه وهو يخرج مع أمي لشراء الأثاث لهذا البيت. بينما تظل خالتي في بيت الصابوني لرعاية عبد الغفور إلى أن نعود.. ولقد كان البيت جميلا، تفصله مع بيوت أخرى إلى جانبه عن نهر العاصي بساتين غاصة بأشجار الفاكهة... فيه باب صغير يتيح الخروج إلى هذه البساتين ولكن جدي لم يرض عن وجود هذا الباب... فقال أنه سيقوم ((بتسميره)) لمنع الخروج منه.. ولكن أمي استطاعت أن تقنعه بأن يحكم مزلاجه فقط، ووعدت أن لا تسمح لي بالخروج منه أبدا إلا معها أو معه هو... أما الحديقة الصغيرة في البيت، فقد كان أهم ما فيها، شجيرات ورد ونبات آخر له ثمرة يُسمونها ((حب الاس)) تعطر رائحة الفم حين تؤكل ولا تخلو من حلاوة وطعم لذيذ، ثم أزهار أخرى منها النرجس، والمرجان، وشجيرة تعطى زهرا يسمونة ((المضعف)) له أريج يملأ الساحة في الصباح الباكر وبعد الغروب.
أما ((طرنبة)) بئر الماء العذب فقد كانت شغل ذهني الشاغل منذ اللحظة التي حركها جدي ورأيت الماء يتدفق منها في الحوض الصغير.. فهي اللعبة التي استهوتني وأخذت أخطط للتلهى بها عندما نسكن هذا البيت.
أما يوم غادرنا بيت الصابوني إلى بيتنا، فقد كان يوما ما أزال أذكره حتى اليوم.. كانت ابنة الحاج بشير الكبرى، واسمها ((أسماء))، تبكى بحرقة وتقول لأمي كلاما كثيرا ثم تلتفت إلى خالتي فتقول شيئا عن ((الداية)) والولادة وكأنها تطمئنتها على أن كل شيء سوف ينتهي على ما يرام.
وخلال اللحظات التي اتجهنا فيها إلى الباب كان الحاج بشير ـ ومعه المجموعة الكبيرة من بناته وأحفاده، يقفون وعلى وجوههم ما جعلني أفهم أنهم يحبوننا كثيرا، بحيث تساءلت بيني وبين نفسي... ترى ما الذي يجعلنا ننتقل إلى بيتنا؟ وما الفرق بين أن نقيم معهم؟ وبين أن نذهب إلى بيتنا؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1227  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.