شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ولدي..

هذا أنا... في سطور قد تطول وتتلاحق اذا أتيح لي مايتاح الآن من بعض الوقت نهارا أحيانا. وليلا أحيانا أخرى، وقد تقصر ويقف بها السبيل. اذا طغت مشاغل الحياة ومتاعبها، ومشاكل ذهنى ومسار به على كل مالدَّي من ساعات الليل والنهار، كما يحدث في كثير من الأحيان.

ضياء عزيز ضياء

ربما رفَّت على شفتيك ابتسامة حيية، وأنت تقرأ هذه السطور لتمهد بها إلى سؤال تتوق إلى أن تسمع مني الاجابة عليه. وهو: ما هي البواعث التي تحملني على الكتابة عن حياتي..؟ ترى هل هذه الحياة تستحق أن يكتب عنها فصل أو فصول.. أليست هي مثل حياة الناس جميعا... سلسلة متلاحقة الحلقات من الاضطراب على وجه هذه الأرض، والكفاح في سبلها الملتوية. بحثا عن لقمة العيش، بين الملايين من الذين جاءوا من نفس الطريق. وسلكوا نفس السبل. وركضوا لاهثين. وراء نفس الغاية؟.. وماذا في هذا؟.. أي جديد فيه يستحق أن يكتب عنه فصل أو فصول؟ أليس الأجدى، ان استفيد من الوقت الذي أبدده في كتابة هذه الفصول، فأفرغ لعمل من الأعمال الكثيرة، التي يطالبني بادائها، واجبي نحو أسرة مازالت تتعثر في طريقها الشائك نحو حياة وادعة كالحياة التي ينعم بها الكثيرون ممن أعرف وتعرف من الناس.. ((ترى هل كانت حياتي قط كحياة هؤلاء الذين لمعوا في آفاق العالم الكبير، ثم وجدوا مداخلهم إلى التاريخ؟... هل بلغ من قوة الصراع الذي أدعيه مع الحياة. وفي سبيلها أو من أجل لقمة العيش. في اضيق حدود التعبير، ان كان في يوم ما مثيرا رائعا. إلى الحد الذي استحق معه أن أفرغ للكتابة عنه)).
واصارحك يابني أن هذه الأسئلة قد ظلت تدور في نفسي وظلت القدرة على الاجابة عليها حبيسة في اعماقها وقتا طويلا، ربما يجب أن أقول دهرا أو عمرا فقد احسست الباعث على الكتابة عن حياتي. منذ فرغت من كتابة أول قصة قصيرة. نشرت لي في جريدة صوت الحجاز كنت يومها شابا تعبث بمشاعري وخيالي لمسات غامضة الاتجاه والغرض، من نوازع اليفع المجنون واحلامه المحلقة وراء آفاق، ادرك اليوم بعد أن طويت السبعين، كم كانت بعيدة مترامية الأطراف موحشة، ومع ذلك، كم كانت تبدو قريبة، محددة واضحة المعالم، غنية بالاحتمالات الوعّادة، والفرص المواتية، والسبل المفروشة بالورود والرياحين..
كنت شابا... وكانت صوت الحجاز، يومها تصدر اعدادها الأولى من سنتها الأولى... وقد نشرت لي هذه القصة القصيرة، ولم يبخل محررها يومئذ، ان ينشرها في اطار أرضي غروري، وجعلني ادخل دار الجريدة برأس لا ترى ما يحملها على الانحناء أو الخشوع أو الاحساس بصغر السن، ان لم يكن بضآلة القدر... ووجدت نفسي. امام شخصيات كنت أسمع عنها فأرسم لكل منها صورة في خيالي استمد ألوانها وملامحها من هؤلاء الذين اتيح لي أن اقرأ عنهم أو لهم من أدباء فرنسا وألمانيا، فهذا فولتير، وذلك روسو. والآخر، وقد قيل انه فيلسوف، فهو اذن صورة طبق الأصل من جوته... أو لعله أقرب إلى شيلر كلا لا يشبه نيتشه، فذلك فيلسوف فقط، اما جوته أو شيلر فهما. اديبان فيلسوفان... اما أنا، وقد استطعت ان اشق طريقي إلى مجلس هؤلاء ((العباقرة)) وان أناقشهم في الأدب والفلسفة والفن. وان أراهم يصغون إلى، ولا يستهجنون رأيا من آرائي، ولا يجدون خيراً في أن يخلعوا على ((لقب الأستاذ)).... فإن كل ما يرضي غروري، ان أكون صورة طبق الأصل من... ممن؟...
في هذه الفترة بالذات كنت قد قرأت تاييس فرانس لأناتول للمرة العاشرة على الأقل بحيث بلغ بي الأمر ان حفظت عن ظهر قلب تلك الكلمات المجنحة التي ينثرها فرانس في حوار ابطاله... وكان بافنوس في صراعه الرهيب، مع أفاعي الجنس التي تنهش صدره. والذئاب الجائعة في اعماق نفسه... كان صورة آخاذة عبقرية الملامح والألوان لمقدرة فرانس كفنان منطلق لا سبيل إلى أن تقف أمام ريشته وأفكاره أية سدود أو قيود... فأنا يومئذ. صورة من فرانس ؟
أنا الشاب، الذي لم يبلغ العشرين، والذي يلتقط غذاءه الثقافي من فتات الموائد الحافلة الكبيرة، كما يلتقط الديك حبات من القمح أو كسرات من الفضلات التي تلقى في عرض الطريق... أنا صورة الاصل من أناتول فرانس في اقصى درجات السلم التي ظل يرتقيها واحدة واحدة خلال مرحلة من العمر الطويل، والكفاح المثابر الصابر. والجهد المتواصل الواعي...
وأغرب من هذا... اني لم اكن اكتفي بالتمثل به ـ أو التوهم اني في مستواه، بل كنت أذهب إلى حد المحاولة الطائشة في نقد وتحليل صوره وأفكاره ومعانيه، وحين أخذت اقرأ له ((الزنبقة الحمراء)) بدا لي، أن انسانيته التي تجلت وحلقت في تاييس قد أخذت تنطوي وتلتف وتندثر في الجو الخاص الذي تدور فيه حوادث الزنبقة وان حريته الواعية في تصوير تاييس. الغانية، ثم تاييس القديسه، قد جمدت، جمود البلور على الموائد المترفة، وجمود الماس واللؤلؤ على صدور النساء في حفلات العشاء التي يدور حولها، حوار الابطال في الزنبقة...
ومادمت أنا هذا العبقري فلم لا أكتب. بعد القصة القصيرة التي نشرتها جريدة الحجاز. قصة حياتي...
ومرة أخرى... ماذا في حياة ابن العشرين؟ مما يستحق أن يكتب؟... قد يكون معقولا أن أجد اليوم بعد السبعين الكثير مما يمكن أن يكتب أو يقال عن المرحلة أو تلك من العمر الذاهب... ولكن ماذا لدى ابن العشرين؟..
ولكن، الواقع انى بعد هذه الأعوام الطويلة مازلت أرى ان في حياتي قبل العشرين ما يمكن أن يملأ فصولا طويلة.. أو ما يمكن أن أجد فيه عناصر قصص لا قصة واحدة.
هل يدهشك هذا ؟
لك أن تدهش فانك لا تدرى كم كانت حياتي حافلة بالأحداث قبل العشرين؟.. انك لا تدرى مثلا. انى قضيت طفولة فتحت عينيها على مآسي الحرب العالمية الأولى، فعرفت الكثير الذي لن يتاح لأحد أن يعرفه الا اذا عاش تلك الفترة من تاريخ البشر. عرفت الرعب الذي لا يملأ القلب فحسب، وانما يملأ الاحلام سنين طويلة من العمر. وعرفت اليتم الذي يعلِّق عين الطفل بوجه كل رجل يراه، في أمل محموم بأن يكون من يراه، هو الأب الذي تؤكد الأم الشابة انه عائد إلى البيت في الصباح، ثم تعود لتؤكد انه عائد في الليل... وعرفت التشرد... في الأزقة والشوارع التي يتساقط على أرصفتها صرعى التيفوس والتي تتلاحق في عرضها عربات تجرها البغال، وقد امتلأت بجثث الموتى.. والتي تزدحم فيها مواكب الجياع.. مئات من الهياكل العظمية، لرجال ونساء وأطفال تمشى في الشوارع، بلا حافز، ولا أمل، ولا هدف سوى الحصول على جرايتها من الخبز الأسود... الذي لا يكاد يصل إلى الأيدي حتى تنهشه افواه الهياكل العظيمة، في نهم رهيب، مازلت أومن كلما تذكرته أن الجوع وحده، يظل اخطر اعداء الانسان... وعرفت المرض الذي كان يهددني بالموت في كل لحظة، ومع هذا لا أجد من يسقيني نهلة الماء، أو من يطرد عن فمي المفتوح الملتهب اسراب الذباب، لأن أمى، وهي أمى... مشغولة بدفن من يموتون من الأسرة واحداً بعد واحد، خلال أيام.
وعرفت الجوع.. الجوع الذي يمزق الامعاء، الجوع الذي جعل وجبة الخبز الأسود اشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم... الجوع الذي كبرت فقرأت عنه قصصا وأساطير راعني انني عشتها حقائق، الجوع الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه وانما ينظر إلى الأرض وحدها. حيث يتحرى العثور على كسرة خبز أو حبة فاكهة أو عظمة فلا يكاد يرى ما يبحث عنه فيركض لالتقاط ما رأى، حتى تكون الهياكل العظيمة السائرة في نفس الطريق قد مدت أيديها تتنازع كسرة الخبز، أو حبة الفاكهة العطنه أو العظمة التي زهدت فيها الكلاب. ويبلغ النزاع أو هو الصراع أوجه الأعلى، حين تمتد الأيدي التي اخفقت في التقاط هذه اللقمة إلى فم الهيكل العظمى. والى شدقيه، وما بين فكيه تستخرج منه ما بقى، ولو أدى ذلك إلى شق الشدقين وتمزيقها..
أفلا يستحق هذا أو بعضه، ان أكتب عنه.
ثم بعد هذه المشاهد ـ وقبل العشرين ـ قصص أخرى.
قصة التفتح للحياة، وسط الخرائب والانقاض... تماما، كما تتفتح زهرة يتيمة. وسط حقل مهجور... ألم تر هذه الزهرة يوما ما ونحن نتمشى في الحسينية بمكة.ـ مكان بعد عرفات بمكة اسمه الحسينية نسبة إلى الحسين ـ كانت الاحواض كلها جافة ليس فيها حتى الأعشاب الطفيلية، التي تنبت عادة، ومع ذلك فقد كانت هناك نبتة واحدة، تتوجها زهرة نضرة قوية... كنت أنا أيضا مخلوقا كهذه الزهرة.. كنت اتفتح للحياة بقوة، رغم ما يحيط بي من الخرائب، والانقاض... لماذا ياترى... وكيف... وماذا بعدها؟
ثم... الحب... الحب... كم كانت هذه الكلمة حلوة الرنين والصدى في نفسي يوم عرفت الحب.
كلا.. لا اعنى الحب في مرحلة الشباب... وانما قبل ذلك في مرحلة الطفولة. أرى كيف تتسع عيناك دهشة... أو استنكارا... كيف يعرف الطفل الحب؟.. واني لأذكر حتى اليوم، كيف أسوَّدت الدنيا، واظلمت في عيني، يوم سافرت الحبيبة وكيف مشيت وراء القافلة التي تحملها، معولا ثم وقفت مشدوها محترق الجوانح حين غابت القافلة أخيرا عن الأنظار. ثم كيف ـ رجعت إلى البيت بعد الغروب... فلا أعرف للأكل طعما ولا للنوم سبيلا... واظل في فراشى الصغير مسهد الجفنيين إلى أن سمعت آذان الفجر... فاذا استيقظت بعد ذلك، وقد فتحت عينى على الحقيقة القاسية المريرة، أخذت في البكاء من جديد...
* * *
ثم الحرب مرة أخرى.. والجوع مرة أخرى... والليل الرهيب، تهتز فيه اركان المنزل، كلما اطلقت قلعة سلع في المدينة مدافعها، في اتجاه العوالى وقبا، وعواصف الذعر والهلع كلما قيل انهم يهجمون، وانهم يتقدمون، وانهم قد يدخلون...
ولكنا أنا وأمي لسنا وحدنا، في هذه المرة، وانما معنا أطفال.. أختى وأخى. كيف جاءا؟.. ومن أين؟ هذه أيضا قصة. لي فيها ذكرياتي الضاحكة.. وذكرياتي الباكية، فيها ليال من الانطواء على النفس، وفي الصدر ما يشبه طعنات الخناجر وفيها، اخرى من الانطلاق، وفي الصدر ما يشبه امواج البحر توفزا وتوثبا. ورغبة في الحب والحياة...
ثم بعد الحرب ذكرياتها..
* * *
فترة من الوعي... من الأدراك العميق، لحقيقة الأرض التي أضع عليها قدمى.. الأرض الرخوة التي تغوص فيها الأقدام... تغوص، إلى الحد الذي يجعل المرء يشعر أنه غارق في بحر من الوحل...
* * *
ثم النضال... المحاولة اللاهثة، للخروج من الأرض الرخوة... للوقوف على أرض صلبة.
* * *
ثم... حرب أخرى... حرب عالمية... حرب... حرب.... ولكن دعنى ابدأ قصتي... وتأهب لتقرأ فصولا من حياة أعجب ما فيها انها تافهة وأجمل ما فيها انها قصة التفاهة، يحياها ألوف من أمثالى الصغار التافهين... الذين لم يتح لهم أن يلمعوا في آفاق العالم الكبير، ولم يجدوا مداخلهم إلى التاريخ... ليس في حياتهم بطولة أو مجد، أو مغامرات أو مفاجآت، أو اثارة من أى نوع... وانما فيها، حياة الألوف.... والملايين من الصغار التافهين.

الحرب العالمية الأولى

* * *

طباعة

تعليق

 القراءات :1775  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج