شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المتغيرات في إدمان تعاطي المخدرات (2)
وما يبدو لي طارئاً يستوقف، ويستلزم شيئاً من إمعان التفكير في الأسباب التي جعلت العالم يشن حرباً لا هوادة فيها على الحشيش، هو هذا الالتفات الحاد والمكثف إلى هذا (المخدّر) - وعلى مستوى دولي - ومقاومة تعاطيه والاتجار به إلى آخر ما لا يزال يتلاحق من قوانين التحريم، مع أنه ليس جديداً بأي مقياس... وإذا كان مباحاً في الهند منذ أربعين عاماً كما ذكرت في المقال السابق، فإنّه لم يكن مباحاً في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي، ولكن لم تكن مقاومة استيراده، وتعاطيه والاتجار به بهذه الشّدة التي نتسامع بها ونقرأ أخبارها في هذه الأيام. بل قد أذهب إلى حد التذكير، بأن سهرات ليالي أم كلثوم في الأندية، والمقاهي ذات المستوى المرموق، في القاهرة، كانت لا تطيب للساهرين إلاّ بتدخين الحشيش،... وقد لا تخونني الذاكرة إذا زعمت أن بعض العلماء من الأزهر، قد أفتى بإباحته، لأنّه لا يختلف عن (الطباق) الذي تباع السجائر منه وتدخّن علناً دون أي حظر. بل أذكر ما هو أغرب من ذلك، إذ نشرت مجلة (تايم) أو (نيوزويك) تحقيقاً عن (المريوانا) التي كان تعاطيها ينتشر على نطاق واسع في الولايات المتحدة، وكان من أغرب ما جاء في هذا التحقيق أن بعض أكابر العلماء الأكاديميين والأخصائيين قد دعا إلى إباحتها وكان من آرائهم، أنها أخف ضرراً وتأثيراً على (أجهزة معيّنة في جسم الإنسان كالكبد والمخ) من الخمر التي لا يُحرّم تعاطيها، والاتجار بها أي قانون في أمريكا. وقد أضاف أحد هؤلاء العلماء، أن المقاومة، والتحريم، وما يستتبعه من ملاحقة وعقوبات كثيراً ما يكون السبب المباشر في شدّة الإقبال على تدخينها، وعلى الأخص بين المراهقين... وهناك من علّل لشدة الإقبال وانتشار التعاطي، بين الشباب، بل وبين بعض الراشدين، تلك الضغوط النفسية التي يعانيها الناس نتيجة للمخاوف والرهبة من خطر الحرب الذرّية المحتملة إلى جانب ما يزدحم به المجتمع من متناقضات لها إفرازاتها على الأعصاب، ومنها (القلق) و(الاكتئاب) إلى غير ذلك من المعاناة التي تحتاج - في تقديرهم - إلى ما يخفف من تأثيرها، إضافة إلى أن الخمور المباحة دون قيد أو شرط، مادة تثير العنف والشاهد هو حوادث الشجار في الشوارع والحانات التي تصل أحياناً إلى حد ارتكاب جرائم القتل، وليس في تعاطي (الحشيش - أو الماريوانا) شيء من ذلك، لأن التأثير المباشر هو التخدير، وليس التنشيط أو الإثارة والانفعال، والغالب على الذين يتعاطونه الخوف البالغ والفزع حتى من أقل ضجة مفاجئة.
وبطبيعة الحال، لم تلتفت السلطات في أمريكا لأيٍ من هذه الآراء، وظلّت (المريوانا) تقاوم، ولكن المقاومة لم تكن تصل إلى حد العقوبات القاسية بالنسبة للمتعاطين وإذا صدق من حدّثني عن انتشار تدخين وتعاطي هذه المادة هذه الأيام، فإن نظرة السلطات إليها فيها نوع من الأغضاء، إلا، بالنسبة لاستيرادها والاتجار بها، فالمقاومة والعقوبات الصارمة لا هوادة فيهما... ولعل هذا يفسّر، أن أخبار الحرب القائمة الآن، ليس بينها ما يذكر عن (المريوانا)، وأن المافيا الرهيبة التي ارتكبت جرائم اغتيال القضاة، والمسؤولين في أمريكا اللاتينية، والتي تملك أسطولاً ضخماً من الطائرات الخاصة، إلى جانب العناصر المسلّحة والمدرّبة على المواجهة بينها وبين السلطات، تمارس تهريب مادّتي الكوكائين والهيروئين بعد إنتاجهما في مصانعها على أوسع وأضخم نطاق. وهما في الواقع ما أصبح معروفاً كخطر يداهم البشر في العالم، وهما اللتان ينطبق عليهما اسم (السموم البيضاء).
ومن المتغيرات في إدمان تعاطي المخدرات، بعد الحشيش الذي أشعر أني قد أطلت على القارئ الكلام عنه، مادة الكوكائين التي قد يعجب القارئ حين يعلم أنها هي أيضاً ليست جديدة، وفي مصر بالذات، إذ نجد في خطاب وزير الداخلية في مصر الذي وجّهه إلى رئيس تحرير جريدة الأهرام، ونشر في 25/8/1989م، أي منذ أيام فقط، ما كشف عن أن هذا الكوكائين... قد عرف في مصر منذ عام 1924م. يقول وزير الداخلية في هذه الرسالة (أول نداء نبّه المصريين إلى خطر المخدرات نشرته الأهرام بتاريخ 15 سبتمبر عام 1924م وجاء فيه على لسان حكمدار بوليس مدينة القاهرة آنذاك ((إن الأمة المصرية سائرة إلى التهلكة من جراء تعاطي الكوكائين... من في القاهرة لا يعرف عشرات الشبان الذين قضى عليهم الكوكايين صحياً أو أدبياً))).
وقد يكون من الطريف أن نذكر أن الموسيقار الذي ترك تراثاً ضخماً من الأغاني من تلحينه وغنائه، وهو (سيد درويش) قد غنى كلمات تقول ( شم الكوكايين... خلاني مسكين... ومناخيري تزن ودماغي طنين) واذكر أن الأغنية وصلت إلى المدينة المنورة في أسطوانات تلك الأيام، من مصر، وقد يضحك القارئ إذا قلت له إني حفظت هذه الأغنية في أيام طفولتي اللاهية، وظللت عمراً، لا أدري ما هذا الكوكايين... إلى أن سمعت من زوج أمي، والرجل الذي ربّاني فأحسن تربيتي، وكان دكتوراً في الصيدلة... سمعت أنه مادة تستخرج من نبات اسمه (كوكا)... يزرع في أفريقيا وأن هذه المادة سم خطير حمد الله على أنه، لا وجود له في المدينة، ونصحني أن أتجنّبه طول العمر، وقد كان.
وتقول المراجع الموسوعية، إنه: (كلوريدرات أوراق الكوكا) يستعمل في الطب كمخدر موضعي، وأن استعماله بجرعات صغيرة يحدث تنبهاً وزيادة في النشاط الجسماني. ولكنه من المواد التي تحدث عادة الإدمان. واستمرار استعماله يؤدي إلى خمول في الجهاز العصبي يؤدي إلى الجنون. وقد حلت الآن محله مواد أخرى للتخدير الموضعي، وأصبح من المواد التي تطبّق عليها قوانين خاصة.
ولا أدري الآن، علاقة (الكوكا) وهي تلك الأوراق، التي يستخرج منها هذا السم الخطير، بالمشروب المرطّب الذي تنفق الولايات المتحدة على الإعلان عنه بلايين الدولارات وقد لا يوجد بلد في العالم، يخلو من (الكوكا كولا)، إلى أن بلغ الدولة أن الشركة التي تصدره، قد أقامت لها مصنعاً في إسرائيل، فصدر الأمر بمنع صنعه أو تعبئته عندنا، بمقتضى قرارات مقاطعة إسرائيل ومنتجاتها، فأخذت الشركة التي تعبّئه، تستمر في تعبئته، ولكن تحت اسم (كعكي كولا)... ولعله لا يزال يباع ويشرب، تحت هذا الاسم حتى اليوم.
أما الهيروئين، فهو من مشتقات الأفيون، ومن هذه المشتقات المورفين وهو المخدر المعروف الذي لا يزال يعتمد عليه في التخدير لإجراء العمليات الجراحية، وكذلك لتسكين الآلام الرهيبة التي يعانيها المصابون بالسرطان، أو الفشل الكلوي، الخ... ومن العجيب، أن العلم لم يصل بعد إلى تفاعل هذه المخدرات مع الجملة العصبية والمخ.
ولكن ما هو الطارئ الجديد، الذي جعل جميع الدول في العالم تقاوم هذه السموم مع أنها كانت معروفة طوال قرون... إذ ليس من يجهل أن الأفيون على الأخص، يزرع في كثير من بلدان العالم، ومنها تلك التي سبق ذكرها. كالهند، وإيران وتركيا.
أعتقد أن السبب الظاهر والمباشر، هو شدة الإقبال على تعاطيها، بحيث بلغ عدد المدمنين على الهيروئين والكوكائين في الولايات المتحدة أكثر من عشرين مليوناً وتلك نسبة عالية ومخيفة بكل مقياس، ولا بد أن لا يقل عدد المصابين بالإدمان على هذه السموم في مختلف بلدان العالم عن ملايين أخرى في كل بلد. وشدة الإقبال بهذا المستوى تستتبع بطبيعة الحال وتضخّم أعداد عصابات أو ((مافيا)) الإتجار، وبكميات مذهلة تجاوزت مئات الأطنان، تتسرّب أو تهرّب، بمختلف الوسائل إلى مختلف بلدان العالم، وقد تطورت هذه الوسائل بحيث بلغت حد المواجهة المسلّحة بين السلطات، وعناصر هذه ((المافيا)) بل بلغت حد الاستهتار بالسلطة وقواتها، فتتكرر حوادث اغتيال القضاة، وكبار المسؤولين عن قوات الأمن والمقاومة، كما يحدث في كولومبيا، التي شهدنا على الشاشة ذلك الأسطول الضخم من الطائرات الخاصة التي تملكها عناصر المافيا، أو كما أصبحوا يسمّون: (ملوك تهريب المخدرات)، وإلى جانب الطائرات أنواع الأسلحة، في أيدي قوات مسلّحة تمارس الدفاع عن مواقعها ومعامل الإنتاج، بالأطنان، وتلك الملايين أو عشرات الملايين من الدولارات، التي ضبطت، وكانت في طريقها إلى البنوك...
ومع أن جميع الدول، بل وحتى الأمم المتحدة، أصبحت كلها تتعاون على المقاومة ولا يدري أحد، إلى ماذا سوف ينتهي هذا الصراع الدموي بين الدول، والمهربين، بل متى يمكن أن يقف هذا الإقبال على التعاطي والإدمان، فإن ما أعتقد أنه المطلب الجوهري، في مواجهة الكارثة، هو معرفة الأسباب التي تدفع الناس إلى هذا الإقبال الرهيب على الإدمان.
علماء النفس، وعلماء الاجتماع، ورجال السياسة، والقيادات المسؤولة في كل بلد يعاني من هذه الكارثة، مطالبون بأن يكتشفوا هذه الأسباب، وأن يعملوا على علاجها، إلى جانب المقاومة المسلّحة، والعقوبات الصارمة.
إن الملايين من البشر، حين يتزايد إقبالها على المخدرات، ومن ثم إدمانها، لا بد أن تكون خاضعة لمعاناة أو ضغوط، هي التي تجعلهم يبحثون عمّا يتوهمون أنه يخفف من معاناتهم أو ثقل الضغوط التي تفترس نفوسهم وأعصابهم... فما هي هذه المعاناة وما هي هذه الضغوط... وما هي السبل التي يمكن أن نلجأ إليها، كبديل للمخدرات.
سؤال يظل مطروحاً، إلى جانب الاستمرار في المقاومة وشدة العقاب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1605  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.