شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفيصل في مجالسه
الشهيد الملك فيصل كان من السهل أن تستوعب الكثير عنه - تكتب وتكتب فلا يكاد ينضب معينك، وكان من الصعب أن تبرز ما استوعبت لأنه لا يريد الكلمة تقال عنه - لأنه العزوف عن ترديد الثناء، ولكني اقتحمت هذه الصعوبة فيما كتبت في حياته، وحجتي في ذلك أنه البطل يستأهل شعبه أن يكون على وعي يعرف به قيمة البطولة والعظمة فيه.
فالبطولة يسرت له ولشعبه ولأمته ولكيانه الكبير.. أن يعظم في ألسنة الدنيا وأن يثق الشعب بالقيادة الحكيمة وأن تأمن الأمة.. تجده نصيراً لها لا يضن عليها بجاه أو مال، وأن يصان كيانه الكبير بالموقف الثابت والإعداد والاستعداد، يصون أمته، ويحفظ أمانته.. حتى لكأن الكيان الكبير الصخرة التي تحطمت حول سياجه المذاهب الهدامة والأفكار المستوردة.. فقد قالها هو: أرجو أن تكون العربية السعودية الصخرة تتحطم على حدودها المذاهب الهدامة والأفكار المدمرة والاعتداءات الشرسة.
إن الشهيد الملك فيصل.. كان الوداعة كاملة في استقباله، والرقة في إقباله.. لكن الوداعة والرقة لم تأخذ من هيبته شيئاً.. كساه الله الهيبة.. صنع بها كل القوة.. لا يتصنعها وإنما صنعها الله له.
إن هيبته كانت سلاح السلام، وصمام الأمن. وعرفت الأمير الملك أول ما رأيته في المدينة المنورة عائداً من رحلة المفاوضات يسرع بالنتيجة إلى والده العظيم يتقدم إليه بما لديه. وكانت المدينة قد شغلت باستقبال البطل - الملك عبد العزيز.. جاء إليها يتفقدها في زيارته الثانية - بعد القضاء على الفتنة.. كانت المدينة قد شغلت بالبطل.. فلم يحظ كثير من أهلها بلقاء الأمير. ولكن صديقنا الوالد الشيخ عبد العزيز الخريج رحمه الله.. قد حدثنا طويلاً عن مشاعر الأمير، وعن كثير من أعماله وأخلاقه.. عرفت ذلك بالتلقي حين حرمت اللقاء.
وفي مكة وفي الطائف نراه في أعماله.. نرى الوقار واللمسة الرقيقة، والتوجيه الحصيف.. إنه حاكم يمسك الزمام بيده، ويعطي اللامركزية للرجال الذين كانوا أهلاً للثقة، وكانوا أهلاً لأن يعرفوا قوة الهيبة له والهيمنة منه.. فلا تكاد تلمس شذوذاً في عملهم.. فعلوا الكثير تحت قيادته بالقليل الذي استطاعوا التصرف به.
وكان اللقاء في مدينة الخرج.. جاء إليها في عام 1362هـ - فذهبت إلى مجلسه - فإذا هو يتحدث بإفاضة عن والده العظيم بكل الفخار والتعظيم، ويتحدث عن أخيه الأمير تركي بن عبد العزيز الابن البكر للبطل العظيم - حديث المحبة والإكبار، وكان يسمع الحديث الأميران صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد، وصاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد العزيز.
كانا يسألان ويجيب..
سألاه كأنما هما يطلبان الشبيه لعبد العزيز.. فقال كلمته:
من كعبد العزيز؟
عبد العزيز ((مطزع الجن)) ليس له شبيه فينا حتى يكون في غيرنا. درس تلقيته منه.. تاريخ تعلمته عنه.
ومضت أيام كان لزاماً علي أن تصلني به الجريدة ما دمت قد احترفت الكتابة، وما دامت الجريدة في كثير من أحوالها في نطاق مسؤولية مدير التحرير أو رئيس التحرير - حتى إذا تشرفنا بالجلوس إليه.. تعلمنا الصمت، وتعلمنا أكثر حين نراه يسمع ويسمع.. فما أقدره على طاقة السماع.. إذا أعجبه الجيد علق عليه بإيجاز، وإن أسرف بعضنا بما لا يستجيد عف في إغضاء لا يحرج..
فكم من ملاحظة دقيقة ينبس بها في معاريض الكلام.. يحث بها من وجهت إليه..
فقد كنا نجلس بعد مغرب يوم.. فإذا به يقول: ((النسبة إلى الكرة.. كروي.. لا كري)) - كان يعنيني بها.. يعلمني الصواب.. فقبل يومين من هذا التوجيه كنت كتبت كلمة.. ذكرت فيها أن شيخ الإسلام ابن تيمية.. في الرسالة العرشية.. قد نوه بكروية الكون فكتبت.. كرية بدل كروية.. استعذبت الجرس فتجنبت الصواب.. فعرفت أنه قارىء وناقد يتحرى الصواب ليعلمنا الصواب.
وذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية في زيارة لها ونزلت في روما عامداً لأتشرف بلقائه، وقد كان فيها.. في طريق عودته يتسلم زمام الأمور في بداية الحرب اليمنية.. أوصلني إلى جراند أوتيل الصديق الابن عبد العزيز بن ناصر العبد الله العقيل.. جلست إليه فأخذ يسألني عن البلد والناس ومشاعر الناس.. فقلت كلمة.. ((كل بلدك أنت رجاؤها اليوم)).
وسردت أسباباً كثيرة لا داعي لشرحها، ولم أكن فيما أخبرته قد زدته علماً.. فإخوانه الرجال لم يدخروا وسعاً في إبلاغه عن كل شيء فهو يريد أن يعرف ويعرف.. فدأبه ألا يتصرف بجهالة..
وعدت من الولايات المتحدة أسكن جدة.. حريصاً على ألا يفوتني مجلس.
وفي ليلة من تلك الليالي وكنا جماعة من المثقفين على مائدة العشاء.. طرح هذا السؤال: أنتم يا قراء القواميس ما هي الديمقراطية؟
فتكلم واحد وثان وثالث.. كلهم يطرح التعريف الأكاديمي عنها الذي عرفوه من قراءاتهم لتعاريفها عن الغرب.. صاحب التعامل معها كشيء مثالي توصلوا إليه ويفخرون به وتكلمت أخيراً فقلت:
((إن الديمقراطية ما نحن فيه الآن.. أنا وأمثالي وهذا اللفيف كله على مائدتك، وكلنا من أفراد الشعب نجلس على مائدة العشاء.. يفتح لنا الباب. نأكل معك.. تتحدث إلينا ونتحدث إليك.. هي الديمقراطية.. هذه هي تقاليد الإسلام، وتعاليمه، وهي تقاليد العروبة وسلوكها)).
إن الديمقراطية.. كنظام لا يعرفها العرب وليسوا في حاجة إليها.. فإنهم بالإسلام وبأخلاقهم ومزاياهم.. قد مارسوها.. تعلموها فعلموها، وعاشوا دهرهم القوي في التعامل معها.
فأي ديمقراطية تبلغ هذا السلوك الممتاز من المليك له أكثر من مجلس يرتاده الناس بمطالبهم وشكاواهم فلا يصد أحداً.. يسمع من كل من يقف بين يديه.
وهناك ميزة تميز بها.. فلم يكن أذناً سماعة لوشاية أو لشكاية من جانب واحد.. كان يسمع فيتحرى.
لا يصدق الوشاية من أول وهلة.. لا يكسوها الصدق مهما كبر مصدرها.. ولا يرميها بالكذب وإن صغر مصدرها.. التحري والتحقيق هو جالب الصدق وطارد الكذب.
كل هذا جعلني أضع كلمة الفاروق عمر بن الخطاب يصف بها كسرى العرب معاوية بن أبي سفيان.. مفصلة على مقاس المليك.. كأنه هو وابن عمه معاوية على نسق واحد.
قال عمر يصف معاوية:
((ذلك الذي يضحك عند الغضب.. ولا يؤخذ الأمر من فوق رأسه إلا إذا وضعه تحت قدميه)).
وفي ليلة أقبلنا على المائدة.. فجلس بجانبي رجل لم يتحمله كرسيه.. فسمعنا صوت الكرسي كأنه قد تكسر تحته، وضحك اثنان بصوت مرتفع.. فتغضن وجه المليك بغضبة رقيقة..
علام تضحكون؟
قالوا الكرسي.. سمعنا صوته.. فقال:
((أنا لم أسمع شيئاً..))..
أدب رقيق.. ما كان ينبغي إلا أن نكون جميعاً في وضع المتأدبين، وقبلها.. جلس وزير عربي من شرق السويس بينه وبين المليك صلة وثيقة وتعارف قديم، وكان هذا الوزير قد جلس يضع رجلاً على رجل قريباً من الملك، ويلعب بالمسبحة.. يفرقع لها صوت..
وتكلم الملك.. يسأل عن فائدة العلم.. بصيغة يشتمُّ منها معنى الإنكار.. كأنه يسحب الوزير سحباً ليتكلم. فقال هذا الوزير: أنت يا مولاي تسأل عن العلم وعن فوائده ومنافعه.. فقال الملك: أنت جعلتني أسأل. في مجلس تضع رجلاً على رجل، وتفرقع في المسبحة.. فما استفدت من العلم.. وسكت الرجل ولعلّه ذهب فلم أره بعدها!.
لأنه عرف أن زينة العلم في السلوك الزين.
كان ذلك درساً تعلمه الوزير وتأدبنا به.
لقد تحمل في دعوته للتضامن الإسلامي كثيراً من الأقاويل.. ولكنه كان الصخرة التي تحطمت عليها كل الأقاويل.. فكل الذين قالوا المذمة أصبحوا ألسنة الثناء.
إن العرب قوة بما أعطاهم الله.. ولكنها القوة التي لا يبرز تأثيرها إلا بإيمانها.. إسلامها.. إلا بالجماعة المسلمة.. فإن تكن قوة الجماعة المدد بالسلاح والرجال.. فإنها هي القوة كل القوة، بقلوبها يجمعها مسجد حين تسجد وتركع.. تهز الدنيا بالكلمة الناصرة الله أكبر.
لقد عرف الفيصل هذه القوة.. فلم يأخذ منها شيئاً لذاته.. وإنما كانت هبة لأمته العربية. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
لقد لبسته روحانيته.. ما أكبر تواضعه حين يتحدث عن آماله. كأنما هو يرى هذه الآمال حقيقة واقعة من مكلف بتحقيقها.. كان إذا تحدث عن إيمان تشع منه ألفاظ شفافة.. تحدث عن رؤيا رويت له فقال: في ليلة قبل ثلاث سنوات على مائدة الأمير فهد بن عبد العزيز.. فأخذ الملك يتحدث عن هذه الرؤيا له قال وعلى وجهه نور:
لقد جاء أحد الرجال (من الجربا) يطلب مقابلتي فأذنت له فأخذ يحدثني فيقول: لقد منّ الله علي أن أرى رسول الله في العام مرة - صلى الله عليه وسلم - فرأيته قبل أيام في عامي هذا يقول لي عليه الصلاة والسلام:
بشر الملك فيصل بالنصر، وأخبره أن يستعد....
سمعناه وهو يتحدث - تغمده الله برحمته - فدعونا له بالخير وسألنا أنفسنا عن الاستعداد وكانت الإجابة في أيام العبور ثم في بقاء المعركة حينما أعلن سلاحه.. سلاح البترول. قلت لجلالته بعد ذلك وبعد العبور:
لقد كنا نسأل عن الاستعداد، نستبعد أن يكون سلاحاً يحمله الجنود فإذا أنت تفاجىء الدنيا بسلاح تدفق من أرضك الطهر - سلاح البترول.
وفي الليلة الثالثة والعشرين من شهر شعبان قبل رمضان العبور وقبل أن يزور جيشنا في تبوك رأيت هذه الرؤيا فجفلت أن أقولها له.. ولكني صبح نهارها قلتها لأصدقائي أشهدهم على رؤيتها اليوم..
رأيتني أدخل مكة في ظلة من ظلام.. فإذا أنا بسواد من الناس يقف بينهم الشيخ عادل كردي ابن الشيخ ماجد كردي يتكلم بصوت منخفض فقلت له:
لا أريدك.. أريد أخاك طاهر كردي وقد عرفت عادلاً وإخوته.. إلا طاهراً لم أعرفه وقد مات.. فخرج من ظلة كأنها قبة رجل أبيض طوال بلحية مرسلة بيضاء.. ناصعة البياض.. فهرولت نحوه أقبل صدره، فلما رجعت إلى الوراء أقبل رجل لا أعرفه، لباسه لباس البادية، يتشمغ بشماغ أزرق فأقبل عليّ يعانقني ويقبلني على صدري وهو يجهش بالبكاء.. فنظرت إليه فإذا هو عبد الحكيم عامر.. فجفلت أتأخر فناداني الشيخ طاهر في موقفه المرهب والمطمئن في الوقت نفسه يقول لي: بشره بالنصر.. فإن وراءه رجلكم الملك فيصل ولم تمض أيام حتى كان هو رجل النصر.
ورؤيا أخرى أخبرته بها همساً بيني وبينه أخبرني بها السيد ياسين طه، وأخبرت بها الصديق، محمد عمر توفيق وزير المواصلات قال لي السيد ياسين طه:
آمنت بروحانية الملك فيصل.. واسمع السبب.
حدثتني عجوز لا أسميها، قالت:
لقد رأيت الملك فيصل واقفاً بين المقام والحجر الأسود وإخوانه واقفون بعيداً ينتظرونه، فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر وعمر، فقال له الرسول: مرحباً بالأمين تقدم إلى مقام إبراهيم..
فقال فيصل:
هذا مقام الأنبياء يا رسول الله..
قال:
بارك الله عليك أنت الأمين حارس الحرمين..
وأخبرني السيد ياسين طه أيضاً عن هذه العجوز. وأخبرت الشهيد عن ذلك همساً بيني وبينه..
قالت العجوز:
لقد رأيت فيصلاً يقبل على المدينة فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر يقبل عليهم الشهيد يسلم بكل الأدب فيقول الرسول صلَّى الله عيه وسلم:
مرحباً بخادم الحرمين.
والخاتمة هي أن نسأل الله الرحمة له رحمة الشهداء وأن يديم علينا نعمة التوفيق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :930  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج