شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بعد فوات الأوان
قصتنا هذه الليلة: (بعد فوات الأوان) للقاص الأمريكي المشهور (أوهنري). ولد (أوهنري) عام 1862 وتوفي 1910. يعتبر (أوهنري) أشهر كتّاب القصة القصيرة في أمريكا، وتمتاز قصته بالعمق في المعنى والمغزى وقصتنا هذه الأمسية (بعد فوات الأوان) تعد من أروع ما كتب.
الراوي: تزوجت ((ديللا)) من جيمس ديللنغهام - الابن. بعد غرام عنيف كان حديث أهل البلدة التي تسكنها.. وكان والد جيمس أو (جيم) كما يحلو لزوجته أن تدعوه - صاحب محل تجاري مشهور، ولكنه تعرض لمغامرة تجارية أفلس من ورائها وطار محله مع الريح وأخيراً لحق هو بمحله فعاش ابنه ((جيمس)) عيشة الطبقة الفقيرة الكادحة فالتحق موظفاً بسيطاً بإحدى الشركات. وأقترب يوم العيد، وكان من عادة (ديللا) أن تقدم لزوجها هدية بهذه المناسبة السعيدة فأسرعت إلى (حصالة) التوفير لترى ما تجمع فيها، وبعد أن عدت ما وجدت قالت في دهشة:
ديللا: أوه..! دولار واحد وسبعة وثمانون سنتاً.. وهذا كل شيء.. وستون سنتاً منها بنسات، لقد ادخرت هذه البنسات الواحد فوق الواحد حتى يكاد يحترق خد المرء من التهمة الصامتة بالبخل والتقتير التي تتضمنها مثل هذه الصفقات الصغيرة.. دولار واحد - وسبعة وثمانون سنتاً وغداً يوم العيد.. ماذا أفعل.. ماذا أفعل؟
الراوي: ولم يكن لدى (ديللا) ما تفعله سوى أن تطوح بنفسها على الكنبة الصغيرة وتستسلم للبكاء وهذا ما يحمل على التفكير بأن الحياة مصنوعة من الزفرات والتنهدات والابتسامات.. ولكن التنهدات هي السائدة حالياً في بيت ديللا.
كانت ((ديللا)) تسكن شقة مؤثثة بإيجار أسبوعي قدره ثمانية دولارات.. وهو مبلغ لا يدل على الفقر تماماً ولكن من المؤكد أنه ليس بعيداً عن مثل هذه الصفة.
وجففت ((ديللا)) دموعها ثم أصلحت زينتها بشيء من المساحيق، وبينما هي تفعل سمعت جلبة وضوضاء في الشارع - فتركت زينتها وهرعت إلى النافذة تستجلي الخبر فإذا الشارع يموج بالأطفال، والشباب يهتفون ويرقصون ويقولون: غداً العيد.. غداً العيد.. ما أجمل العيد. وبعض من الرجال يرافقون هذه المواكب وأيديهم تنوء بأحمال الهدايا..
وراحت ((ديللا)) تنظر إليهم والحزن يعتصر فؤادها.. إنها لا تملك سوى دولار واحد وسبعة وثمانون سنتاً تبتاع بها هدية لزوجها أعز إنسان لديها في هذه الدنيا وطفقت تستعرض الساعات السعيدة التي قضتها وهي تضع المشاريع لهذه الهدية اللطيفة، وقطع عليها حبل تفكيرها صوت جرس الباب فانفتلت لتفتحه وإذا الطارق ابن جارتها الذي ابتدرها قائلاً:
الولد: طاب يومك مامي..
ديللا: طاب يومك جورج.. أدخل.. ماذا أستطيع أن أفعل لك..؟
الولد: شكراً مامي.. لقد كنت في طريقي للسوق لشراء هدية (لدادي) بمناسبة العيد فجئت لأقول لك: مامي كل عيد وأنت بخير.
ديللا: وأنت بخير جورج.. شكراً.. شكراً..
الولد: أستودعك الله..
ديللا: مع السلامة.. مع السلامة..
الراوي: وذهب ابن جارها بعد أن نكأ جراحها وأثخن آلامها وتركها في دوامة من الحزن لا شاطىء لها وعادت تلوك حسراتها على حافة النافذة لعلّها تفنؤها في زحمة المشائين وتحت عجلات السيارات وكان بين نافذتي الغرفة مرآة طويلة يستطيع المرء بمراقبة صورته المنعكسة بلمحات متتالية أن يأخذ فكرة عن منظره، وبغتة استدارت ((ديللا)) بعنف عن النافذة ووقفت أمام المرآة.. فكانت عيناها تتألقان ببريق شديد بيد أن محياها قد فقد لونه في أقل من عشرين ثانية وفكت ((ديللا)) شعرها بسرعة وتركته يسقط حراً من كل قيد.. حوالى جسدها متموجاً ألاّقاً مثل شلال من المياه حتى ليكاد يجعل من نفسه ثوباً لها.
كان الزوجان يملكان حاجتين يفخران بهما بالدرجة القصوى الأولى هي ساعة جيب الذهبية الموروثة عن أبيه وجده أما الثانية فهي شعر ((ديللا)).
وما كادت ((ديللا)) تصل إلى نتيجة حتى عادت وجمعته في سرعة وعصبية وترددت لحظات وجمدت في مكانها بينما سقطت دمعة أو دمعتان من عينيها على السجادة الحمراء المهترئة وارتدت ملابسها ثم استدارت والبريق لما يبرح عينيها وفتحت الباب بشدة وانطلقت تهبط درجات السلم وتخرج إلى الشارع، ثم توقفت أمام لافتة تحمل الكلمات التالية.
ـ السيدة سوفوني - لوازم الشعر من مختلف الأنواع..
وصعدت ((ديللا)) حتى الطابق الأول وطرقت الباب ففتحته السيدة (سوفوني) فبادرتها ديللا قائلة:
ديللا: هل تشترين شعري يا سيدة سوفوني؟
سوفوني: نعم.. إني أشتري الشعر.. دعيني انظر مظهر شعرك..
الراوي: وتدفق الشلال الأسود متموجاً عنيفاً فقالت (سوفوني) وهي ترفع كتلة الشعر بيد مجربة.
سوفوني: إني أدفع عشرين دولاراً لذلك..
ديللا: اتفقنا.. هات.. أعطنيها بسرعة.
الراوي: وانقضت الساعتان التاليتان في غدو ورواح سريعين. لقد نسيت ((ديللا)) التحول الذي طرأ عليها وهي الآن بين المخازن تنتقل بحثاً عن هدية لزوجها ووجدتها أخيراً وكانت عبارة عن سلسلة جيب صغيرة مصنوعة من البلاتين، بسيطة.. جميلة التصميم تفصح عن قيمتها بمادتها وحدها وليس بزخرفتها المبهرجة. ودفعت ((ديللا)) واحداً وعشرين دولاراً ثمناً لها وهرعت قافلة إلى البيت بالسبعة والثمانين سنتاً التي بقيت معها. إن زوجها إذا حمل هذه السلسلة في ساعته وبالرغم من عظمة الساعة فقد كان زوجها ينظر إليها أحياناً في خلسة بسبب تلك الشريطة الجلدية العتيقة التي كان يستعملها بدلاً من السلسلة وما أن بلغت ديللا ((الدار حتى تبددت نشوتها لتضع مجالاً للتبصر والعقل فنزعت من شعرها دبابيسه وأسرعت تعمل على إصلاح ما أتلفه السخاء في الحب. ولم تمض أربعون دقيقة حتى كانت ((ديللا)) قد غطت رأسها بدبابيس صغيرة جعلتها تشبه صبياً هرب من مدرسته.
وتطلعت ((ديللا)) إلى انعكاس صورتها في المرآة طويلاً وبنظرة انتقادية بحتة ثم خاطبت نفسها قائلة:
ديللا: آه.. لو أن زوجي لا يقتلني قبل أن يمعن النظر في قليلاً لسوف يقول: إني أشبه إحدى فتيات جوقة موسيقية غزلية.. لكن ماذا يمكنني أن افعل.. أوه.. ماذا يمكنني أن أفعل بدولار وسبعة وثمانين سنتاً.
الراوي: واستعدت ((ديللا)) لاستقبال زوجها، وجلست على مقعد قرب الباب الذي يدخل منه دائماً ثم تناهت إليها خطواته على السلم في الطابق الأول فأبيض لونها لمدة وجيزة ثم تلت في همس هذا الابتهال:
ديللا: يا إلهي.. أتوسل إليك.. أن تجعل زوجي يفكر أني ما أزال جميلة.. وأن يصفح عما ارتكبته في هذا اليوم يا رب.. يا رب..!!
الراوي: وفتح الباب.. ودخل زوجها وأغلقه خلفه.. ومرق من الباب ثابت الخطو، فكأنه كلب صيد يشتم أثر طريدته.. وكانت عيناه مثبتتين في ((ديللا)) وكان فيهما تعبير لن تستطيع ((ديللا)) قراءته وذلك ما أهرق الرعب في قلبها، إن ذلك التعبير لم يكن غضباً ولا دهشة ولا استنكاراً ولا رعباً ولا أياً من الانفعالات التي هيأت نفسها لها، كان بكل بساطة يحدق فيها بثبات.. وذلك التعبير المستغرب مرتسم على صفحة وجهه وهرعت ((ديللا)) إليه وهي تقول:
ديللا: جيم!! زوجي!! أعز إنسان لدي.. لا تحملق فيّ هكذا.. لقد قصصت شعري وبعته لأني لم أستطع أن أعيش ليلة العيد من دون أن أقدم لك هدية لسوف ينمو ويطول من جديد.. أنت لا تبالي بذلك.. ما كان يتوجب علي أن أفعل ما فعلت قل لي - عيد سعيد - يا جيم ولنكن سعيدين حقاً. أنت لا تدري مبلغ جمال.. الهدية التي جئتك بها..
الراوي: واستفسر زوجها - في جهد - وكأنه لم يستوعب بعد ذلك الواقع الصريح رغم ذلك العمل الذهني الشاق الذي بذله وقال:
الزوج: أحقاً قصصت شعرك..؟
ديللا: نعم.. قصصته وبعته.. على كل حال فأنا - بدونه - ما زلت زوجتك التي تحبها.. أليس كذلك.؟
الراوي: وانثنى زوجها يرمق الغرفة حواليه في شيء من الغرابة ثم قال في همس يشبه البلاهة.
الزوج: قلت إنك قصصت شعرك؟
ديللا: لا تنظر إليه - لقد قلت لك إني بعته - بعته وانتهى.. ترفق بي.. لقد فعلت ذلك من أجلك.. قد يمكن تعداد شعر رأسي ولكن أحداً لا يستطيع أن يقدر حبي لك.
الراوي: وبدا أن الزوج قد استفاق من غيبوبته بسرعة فتناول رزمة من جيب جاكتته وطوح بها على الطاولة وقال:
الزوج: لا تسييء فهمي يا ((ديللا)) أنا لا أقيم وزناً لهذا الأسلوب من قص الشعر أو الحلاقة أو الدهون.. لكن، إذا أنت فتحت هذه الحزمة فقد تدركين معنى ارتباكي المفاجىء لأول وهلة.
الراوي: وانطلقت أصابع بيض رشيقة الحركة تقطع الشريط وتمزق الورق ومن ثم علت صيحة فرح مذهلة من ديللا:
ديللا: يا إلهي.. كم هي جميلة.. ولكن وا أسفاه.. جاءت بعد فوات الأوان..
الراوي: ثم انهمرت دموعها في نشيج هستيري أستتبع عملاً سريعاً لجميع القوى المعزية التي يملكها صاحب الدار.. ذلك أن الرزمة التي أتى بها زوجها كانت تحتوي مجموعة من الأمشاط الكبيرة والصغيرة التي كانت ((ديللا)) قد رأتها معروضة في إحدى واجهات مخازن برودواي.
فتسمرت أمامها وتمنت أن تشتريها ولكن لم يكن آنئذ لديها ثمنها أما الآن فهذه المجموعة ملكها إلا أن الضفائر التي تستحق هذه الزينة قد قصت.
وحملت ((ديللا)) الأمشاط إلى صدرها وبعد زمن طويل استطاعت أن ترفع رأسها وتنظر بعينين خائبتين ثم تبتسم وتقول:
ديللا: إن شعري ينمو بسرعة عظيمة يا ((جيم)).
الراوي: ثم وثبت ديللا مثل قطة صغيرة صائحة:
ديللا: أوه.. أوه.. إن جيم لم ير بعد هديته الرائعة.
الراوي: ثم أخذت هديتها وفتحتها ومدت السلسلة التي فيها على راحة يدها وبدا أن المعدن الثمين الشاحب قد راح يتألق ويشع بانعكاس روحها المشرقة الغيور وشرعت تقول:
ديللا: جيم - زوجي - أليست جميلة هديتي هذه.. لقد نقبت البلدة كلها حتى عثرت. يمكنك الآن أن تنظر إلى ساعتك مئة مرة في اليوم.. أعطني ساعتك.. أريد أن أرى كيف تبدوان معاً.
الراوي: وبدلاً من أن يلبي جيم طلبها تهاوى على الكنبة ووضع يديه خلف رأسه وراح يبتسم كالطير يرقص مذبوحاً من الألم وقال:
الزوج: فلنضع الهدايا جانباً.. ولنحتفظ بهما فترة من الزمن يا ((ديل)) إنهما رائعتان إذا ما استعملتا كهدية في الوقت الحاضر.. ديل زوجتي العزيزة لقد بعت الساعة كي أحصل على مال أشتري به هذه الأمشاط لك.. نعم.
الاثنان معاً: نعم ولكن بعد فوات الأوان..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :670  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج