شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الرجل في بيته أيضاً
كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته.
"حديث شريف"
كثيراً من أرباب العائلات يقدمون على أشياء بدون تروٍ، ولا تريث، وبدون أن يحسبوا حساباً لنتائجها، وربما يعتقدون أنهم قد أحسنوا صنعاً، وهذا يعزى إلى الجهل الضارب أطنابه فيهم، وإلى قصر نظرهم في عواقب الأمور، كما أن كثيرين يعلمون أن نتائج تلك الأعمال مضرة ومع ذلك يقدمون عليها، ويشعرون بلذة في أدائها، فإذا عذرنا القسم الأول فلا نعذر القسم الثاني، وإذا قاومنا القسم الثاني، فلا نهمل القسم الأول، هذا إذا كانت الغاية التي نسعى لها "الإصلاح" لا التشفي والانتقام (كما يظنه البعض) لأنا لا نقصده ولا نقره، ويجب أن نحسن الظن بكل واحد حتى إذا رأينا منه اعوجاجاً عدلناه، وقومناه، أقول نعدله ونقومه، لا أقول نقاطعه وننابذه، لأنه ربما يعرف الحق فيتبعه، ويناصر أهله، كما أنه يجب أن نأخذ من كل شيء أحسنه، فإذا رأينا عملاً صالحاً وآخر سيئاً نأخذ الصالح ونترك السيئ، وليس لنا أن نتساءل ونلح عن تلك المصادر متى كان أصحابها يرغبون في التستر والتكتم، وقد قيل: "خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت".
عفواً أيها القارئ، فقد نزى بي القلم فخرجت عن الموضوع، وإن شئت فقل "لعلَّ له عذراً وأنت تلوم". الآن. نعم الآن، لنعد للموضوع فنجد أرباب العائلات تختلف خطتهم في المأكل والمشرب باختلاف طبائعهم وأخلاقهم ونشأتهم، فمنهم من حسنت خطتهم، وهؤلاء مالنا وإياهم فقد بحثوا أنفسهم وناقشوها الحساب.
ومنهم الذين لا تتفق خطتهم وروح العدل والمساواة وهؤلاء من نعنيهم بخطابنا هذا، وهم على أقسام عديدة، نذكر في هذه الجرولة الأهم مما يحضرنا الآن منها، مؤملين أنها تعدل في خطتهم ومن كانوا على شاكلتهم.
من أولئك الذين لا تتفق خطتهم وروح العدل من يقتر على أهل بيته ويحاسبهم على النقير والقطمير، ويقيس عليهم الماء بالشبر، ويحصي عليهم عيدان الكبريت، ويكيل لهم المأكل بالفنجان، بينما نجده ينفق على نفسه أو على من لا يهمه أمرهم ولا ينتفع منهم بحال من الأحوال، نفقات باهظة لو أنفقها على من في بيته، وعلى من هو مسؤول عنهم لكان وإياهم في رغد من العيش، ولكف أيديهم عن أشياء إن لم تكن مفسدة إلاَّ للأخلاق لكفت.
كثير من أرباب العائلات يخرجون من بيوتهم في أوقات الطعام، ويذهبون إلى المطاعم فيتلذذون بما فيها تاركين من في بيوتهم على أشياء تافهة لا قيمة لها بالنظر لما هم يأكلون، ولو أنهم صرفوا ذلك المبلغ في أشياء أقل درجة من تلك لأكلوا جميعاً متساويين ولكفوا أنفسهم ومن هم في رعايتهم سيئات هم في غنى عنها.
كثيراً من أرباب العائلات تتوق أنفسهم إلى أكلة من الأكلات فبدلاً من أن يصنعوها في دورهم بين عوائلهم ومع من هم تحت كنفهم يعملونها خارجاً عنها، حرماناً لأهل بيتهم وضنا عليهم. كثيراً من أرباب العائلات من تشتهي أنفسهم تناول شيء من الفواكه أو الحلويات فيشترونها لأجل أن لا يشركهم من في بيوتهم فيها.
كثيراً من أرباب العائلات من يلبسون الأقمشة الفاخرة الثمينة حالة كون من هم في رعايتهم لا يجدون ما يلبسون، فلو أن أولئك أنصفوا وساووا فيما بينهم واكتسوا جميعاً من درجة متساوية لكان ذلك أفضل، ولما نقص من قدرهم شيء.
كثيراً من أرباب العائلات من يقتر على أطفالهم فيضطروهم إلى ارتكاب أشياء تزيد أخلاقهم فساداً على فسادها فيتوسلون بكل الطرق للاستحصال على القرش ليتنافسوا مع زملائهم.
جميع هذه الأقسام التي ذكرتها موجودة، ووجودها بكثرة، وإني آسف لكونها موجودة في الطبقات الغنية والمتوسطة، أكثر منها في الطبقات الفقيرة، وإني أقول هذا عن خبرة تامة، وأذكره للحقيقة من جهة، ومن جهة ثانية علَّنا نعدل هذه الخطة السيئة، هذه الخطة التي لا تتفق مع العدل في شيء.
نحن مسلمون والإسلام حضنا على أن نعدل ونتساوى مع جميع من هم في رعايتنا، وكتب الحديث ملآنة بالحث على ذلك.
فإذا كان الدين والعدل، وواجب العشرة، وواجب الرعاية والأخلاق، والذوق، وكل شيء يحضنا على ذلك فلماذا نعرض عنه؟
والله لا حياة لنا إلاّ بالعدل، ولا عز لنا إلاّ بالاستقامة، وإذا أبينا إلاّ الظلم والسير الأعوج فسينتقم منا.
كما أنه يوجد نوع من الذي ذكرت؛ يوجد نوع آخر يصرف بدون تروٍ ولا تريث، ولا تعقل ولا حساب تجد لديه ما يكفيه، وما هو ليس بالقبيح فيعرض عنه تكبراً ويأتي بنوع آخر أعلى منه وأغلى، ثم لا يلبث أن يترفع عنه أيضاً - هكذا يقضي أيامه البيضاء في ترف مغلوب الكيان، وسعادة مشوهة، وعز قصير الأجل، حتى إذا ما عض عليه الدهر بنابه ضرب كفًّا على آخر، وعض على أصبعه نادماً حيث لا ينفعه الندم.
هذا النوع مبذر بلا شك ولا ريب، وقد قال عزَّ وجل: إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّياطِينِ فبالله يا من كنتم من هذا النوع! هل تريدون أن تكونوا إخواناً للشياطين؟ ثم إذا كنتم تريدون ذلك وتقبلونه على أنفسكم فالمجموع لا يريده ولا يقبله، أنتم مقيدون بقيد المصلحة العامة، كما أن الواجب يفرض عليكم الإقلاع عن ذلك، ولا تغركم الأيام البيض، وثقوا أنه كما توجد أيام بيض، توجد أيام سود أيضاً (أعاذنا الله من شرورها) والعاقل من اتعظ بغيره. وإذا أردتم أن تعضوا على تلك العادات بالنواجذ، وأن تعشقوها كالملهوفين عليها، فسنبقى عالة على غيرنا، وهذا يؤلمني، وما حدا بي للكتابة، ورحم الله القائل:
بين تبذير وبخل رتبة
وكلا هذين إن زاد قتل
وهناك نوع ثالث مصيبته أعظم، وبليته أكبر، وهذا النوع هم الذين يكون موجود عندهم من المأكل والمشرب والملبس، ما يسد عوزهم فلم يكتفوا به بل يذهبون إلى زيد وعمرو، يأخذوا منه قرضاً ويبتاعون ما لا حاجة لهم به، ولا هناك داع لوجوده، ولا ما يضطرهم إليه، ثم لا يلبثون أن تثقل كواهلهم بالديون التي كانوا في غنى عنها والتي لم يسوقهم إليها إلا النفس الأمارة بالسوء.
إني أتألم من أعمال هذا القسم جداً، وآسف لوجوده بكثرة فينا، وكم أتمنى لو أن ذلك القسم ناقش نفسه الحساب قبل القدوم على مثل ذلك وفكر وتدبر في نتائج تلك الأعمال التي ما وراءها غير الدمار.
ثم هناك نوع رابع لا يقل ضرره عن الثالث، وهذا النوع هو من يكون دخله عشرين "مثلاً" فيصرف أربعين أو ثلاثين، فهذا المبلغ الذي يصرفه زيادة عن دخله لا بد وأن له خطة يتبعها تكلفه مشقة في اكتسابه، وربما كانت سبباً في دماره، لأنه لا يمكن أن نقول أن الدراهم ملقاة في الشوارع، وأن الأشياء تؤخذ بلا ثمن.
وإني أقول لهذا النفر لست في حاجة إلى ارتكاب هذه المخاطر والقدوم على مثل هذه الأعمال، ولو أنك حصرت صرفك على أشيائك الضرورية لما تكلفت شيئاً من هذه المشقات ولكنت في راحة بال، وسلمت من الوساوس التي تبلبل أفكارك، وتنغص عليك عيشتك.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مكة المكرمة: (الغربال)
"أم القرى" العدد 382
في يوم الجمعة 2 ذو الحجة 1350هـ
الموافق 8 إبريل 1932م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :471  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج