شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأدب العربي في القرن الرابع الهجري
تمهيد:
إذا كانت الثقافة العربية قد اتسعت دائرتها في القرن الثالث، فامتزجت بها الثقافة اليونانية، والهندية، والفارسية، والرومانية، وتغلبت اللغة العربية بعناصرها القوية، وبحكم المؤثرات السياسية على غيرها من لغات العالم، فقد كان للأدب العربي في القرن الرابع حظ وافر من ذلك.
وإذا كان المؤرخون يعدون القرن الثالث من أزهى عصور الأدب العربي، فإن القرن الرابع لا يقل ازدهاراً عنه، ولا شأناً منه.
إن الثقافة في القرن الربع ضربت حدها القياسي فقطعت شوطاً بعيداً، وقد قضى وضع الحياة يومذاك، وما لابسها من ملابسات مختلفة متعددة، إلى انتشار التعليم، فشمل الرجال والنساء والجواري والسراري، ولن نكون مبالغين إذا قلنا أن التعليم في هذا القرن كاد يكون عاماً إذ أن أوضاع الحياة في هذا القرن قضت بهذا الوضع للتعليم، لما كان لهذه الناحية من اتصال قوي بالحياة المعيشية للأفراد يومذاك، كما أن حركة التأليف كانت في هذا القرن قوية للغاية، والشيء البارز الذي يلاحظ في تأليف هذا القرن أن العمدة فيه كانت على النظر، والقياس، والتحليل، والتركيب، والتعمق، والبحث. كما أن هذا لم يك مقتصراً على مدن الخلافة، بل كان شاملاً لأكثرها، فبلغ خراسان، والري، وخوزستان، وأذربيجان، وما وراء النهر، ومصر والشام، والأندلس، وغيرها من المدن الإسلامية.
نعم إن الحرية الفكرية كانت في هذا العصر تتجاذبها الأهواء، وإذا شئت فقل تتمشى مع الأغراض السياسية إلى أبعد الحدود، إلا أن من الثابت المقرر أن نفس العلة هي التي أفادت الأدب العربي في هذا القرن أيما فائدة، والذي يعنينا تسجيله في هذا البحث الإشارة إلى أن هذا القرن كان قرن ثقافة واسعة، تناولت مختلف العلوم.
نحن لا نشك في أن هذه الثمرة كانت نتيجة جهود القرن الثالث، إلا أن من العدل الذي يجب أن يسجله التاريخ أن الثقافة العربية عامة، والأدب العربي خاصة في هذا القرن قد استفادا أيما فائدة من الزوابع السياسية التي كانت تثيرها المطامع في أمر الدولة والملك يومذاك.
فعصر كهذا اتسعت فيه دائرة الثقافة بأوسع حدودها، وتنازعت السلطة فيه حكومات مختلفة، كلها تحتاج إلى من يدعي لها بلا شك، سيترك كل هذا أثراً قوياً في تلك الحياة الزاخرة بعناصر قوتها.
إن الحياة والأدب توأمان، وإن أحدهما ليغذي الثاني بقوته الطبيعية، فإذا ما تباعدت عناصرهما عن بعضهما أثر ذلك فيهما فشلت حركتهما، وإن تراءت للأنظار أن قوتهما متماسكة.
فإذا استعرضنا اليوم الحركة الأدبية في القرن الرابع الهجري فنحن واثقون من أننا نستعرض حياة ذلك العصر من جميع جهاتها.
النزاع السياسي:
لقد كان النزاع السياسي في القرن الرابع على أشده، وكانت المطامع السياسية ترمي إلى غايات بعيدة، وكانت تصطبغ بصبغات شتى، وتتلون بتلونات مختلفة، وكان من نتيجة ذلك التنازع على السلطان أن تعددت الدول، فكانت السامانية في ما وراء النهر، والساجية في أذربيجان، والزيادية في جرجان، والإليكية في تركستان، والإخشيدية في مصر، والغزنوية في أفغانستان والهند، والإدريسية في مراكش، والعلوية في طبرستان، والحمدانية في حلب والموصل، وبنو بويه في العراق، والقرامطة في البحرين وعمان، وكانت بجانب هذه الدول إمارات صغيرة كالزيادية في زبيد واليعفورية في صنعاء. وإذا أضفت إلى هذا كله الثورات التي كان يرأسها الثوار الذين كانت أعناقهم تتطلع إلى الملك تكون من ذلك بركان ثائر.
وكان لزاماً لهذا البركان الثائر، وتلك الاتجاهات المتنوعة من أساس تستند إليه، ومن "دعاوة" واسعة، فكان الدفاع عن الدين هو الأساس لقيام تلك الدول، وكان الأدب هو "الدعاوة" لها.
ويؤسفني، بل ويؤلمني، أن أقول أن الشعراء هم الذين كانوا يقومون بمهمة "الدعاوة".
أما حجازنا العزيز، فقد كان نهباً مقسماً، إذ انفصل في هذا القرن عن الدولة العباسية، وبلي باستيلاء الأشراف المعروفين بالموسويين، ولم تعرف ولاية أنكى على هذا الوطن وأهله من ولاية الأشراف، وإن لعليهم أعظم قسط من التبعية في كل ما أصاب هذا الوطن العزيز. والذي زاد الطين بلة دخول القرامطة إلى مكة وفظائعهم التي ارتكبوها فيها.
الكتابة:
اختلاط العرب بالفرس والترك في العصر العباسي، والاحتكاك بهم لم يؤثر في الثقافة العربية فحسب، بل أثر في حياتهم الاجتماعية والأدبية أيضاً، فقد صبغتهم بصبغات شتى في أكثر نواحي الحياة إن لم يك فيها جميعاً، والكتابة لم تسلم من ذلك فبعد أن كان الحال فيها يرمي إلى الإيجاز مع البلاغة، فقد تحول الأمر إلى غير ذلك فتنوعت الأساليب، وذهب الكتاب إلى التأنق في الألفاظ، واخترعوا المقدمات، وأطالوا فيها، وجنحوا إلى المبالغة وغير ذلك من ضروب الكتابة المصبوغة بالصبغة الفارسية. وأول من ذهب هذا المذهب، عبد الحميد الكاتب المشهور، وسار الأمر على هذا النحو حتى أواسط القرن الرابع فختم بابن العميد؛ وحل محله السجع في المراسلات، وتطور السجع في هذا القرن، فأدخله بديع الزمان الهمذاني في مقاماته، فكان أول من أحدث السجع في الكتب، وقد شاع هذا الحادث الجديد في التأليف، وتكاثر استعماله حتى مجَّته الأسماع، وأصبح ثقيلاً على النفوس، وبالرغم من ثقله، فقد عمر كثيراً، ولا تزال آثاره وبقاياه قائمة حتى يومنا هذا، والفرق بين السجع في أول ظهوره؛ والسجع في مدته الأخيرة، أن ألفاظ الأول بليغة، واختياراته جميلة، وألفاظ الثاني أقوال مرصوفة، وجمل مصفوفة، وألقاب ضخمة، سمجة تكذبها الحقيقة في مجموعها ومفردها، سواء كان السجع أحسن منه في المراسلات من التأليف والبحث، فقد استقبحه غير واحد من الكتاب القدماء، وقد أفاض ابن خلدون في بحث ذلك وقال عنه: إنه التكلف بعينه، وقد لازم السجع الإطالة، وبمرور الزمن صارت للكتابة شروط وقيود وواجبات، استوعبها القلقشندي في صبح الأعشى. وقد فرضوا تلك القيود على الكتاب فرضاً وجعلوها من اللزوميات، وبالأخص في الشؤون الدولية.
والذي نحب أن نثبته هنا أن الكتابة في هذا القرن اتخذت صبغة جديدة؛ وأن حادث السجع الجديد حل محله طريقة عبد الحميد الكاتب المشهور، وأنه انتقل في هذا القرن من الرسائل إلى كتب التأليف، وأن هذا كله لم يقض نهائياً على الإيجاز في هذا القرن، إذ كتب الأدب تحدثنا بالكثير من ذلك في عصر عبد الحميد، وعصر الهمذاني، وما بعدهما، إلا أن استعماله كان نادراً وبالأخص في المعاملات الدولية، والشؤون السياسية، كما أن السجع في هذا القرن لم يعم كل كتب التأليف، إذ قد خرج عن ذلك الكثير.
أما الإطناب، وإغداق نعوت التمجيد، وصفات الثناء، فقد كادت تكون عامة في جميع الرسائل على اختلاف مقاصدها ومراميها، سواء كانت سياسية أو إدارية أو اجتماعية أو دينية، وهي في هذا القرن على النمط، إلا النادر منها. وكتب الأدب مترعة بذكر الكثير من ذلك، وقد كان هذا النوع محبوباً من البعض، مكروهاً من البعض الآخر.
اللغـة:
اتفق دارسو اللغات على أن اللغة العربية أغنى اللغات لفظاً وأكثرها معنى، وأوسعها اشتقاقاً، كما أنهم اتفقوا على أنها أرقى اللغات السامية على الإطلاق. والمادة الجديدة التي دخلت على اللغة العربية من القرآن، ثم تغلب اللغة العربية على البلاد المفتوحة، وتوسع حركة النقل، والترجمة، كل ذلك زاد في ثروتها وضخم من معجمها، وأكسبها طلاوة فائقة، وهذا هو السبب في تدهور معظم اللغات التي كانت سائدة يومذاك، كالفارسية، والسريانية، والرومانية، والقبطية، وأنه لفوز للغة العربية نالته بقوة عنصرها، وخصابة تربته.
والشيء الذي يؤسف له، أن تلك الفتوحات، وذلك الاتصال، وذلك الاندماج قد أثر في لغة التخاطب فأخذت تنحدر، رويداً رويداً، حتى ساد الفساد في النطق اللساني، وأصبح للعرب لغتان، لغة عامية، وأخرى لغوية، وكانت الأخيرة تحافظ على عنصرها الطبيعي على أساسي النحو والصرف.
شاع اللحن في هذا العصر، فلم يعصم منه إلا أهل البادية الذين لم يختلطوا بأهل المدن، اختلاطاً يفسد عليهم لسانهم، فهؤلاء كان اللحن غير معروف عندهم، وكل ما جاء في كتب اللغويين الذين اعتنوا بأمر اللغة؛ ما هو إلا مأخوذ عنهم، والشيء الذي نحب إثباته هنا، أن اللحن في هذا القرن ساد جميع الطبقات في المدن، فلم يسلم منه العالم، ولا الأديب، ولا اللغوي أيضاً، والسبب في ذيوع اللحن وانتشاره ما كان للقوم من لغتين، لغة عامية، ولغة عربية تستند إلى قواعد لا ينطق بها إلا دارسوها، ثم الاحتكاك والاتصال المباشر لتبادل المصالح زاد في ذلك.
واللحن في أصله يرجع إلى ما قبل هذا القرن بكثير، ويذهب بعض اللغويين إلى أنه يرجع إلى عصر الخلفاء الراشدين، إلا أنه في شكله القديم حتى القرن الثالث، لم يك بالدرجة التي وصل إليها في هذا القرن، إذ كثرة الاختلاط بالأعاجم، وكثرة الفتوح، ومرور مدة على ذلك، كل هذا كان له أثره في تفشي اللحن بين العرب بشكل رجح الماضي كثيراً. زد على ذلك أن المسيطرين على أعمال الدولة الإسلامية سواء في العصر العباسي الأول، أو الأخير كانوا من غير العرب، أضف إلى ذلك أن الذين عهد إليهم بتلقيح العلوم العربية بالعلوم الفارسية، واليونانية، وبمعنى أوضح الذي عهد إليهم بالترجمة والنقل كان أغلبهم من الموالي والفرس وغيرهم من العناصر الأجنبية - فكل هذه الأشياء في مجموعها كان لها أثرها الفعال في إفشاء اللحن وتوسيع دائرته.
الخطابة
بالرغم من أن هذا القرن كان قرن جلاء وكفاح، وتنازع سياسي عظيم، وبالرغم من أن سلطة الملك كانت تتنازعها دويلات متعددة، وبالرغم مما عرف في تاريخ السياسة الإسلامية في بدء تكوينها، من اعتمادها على الخطابة في مثل هذه المواقف، لما لها من التأثير في اتجاه الأفكار والقلوب، وبالرغم من كل هذا فإنا نجد أن الخطابة السياسية في هذا القرن رجعت القهقرى كثيراً، حتى كادت تعد مفقودة، إلا فلتات في بعض خطب دينية زجت بها السياسة في بعض المواقف، وإنك لتعدها على الأصابع لو أردت.
كان النزاع السياسي في عصر الأمويين، وفي صدر العهد العباسي يرتكز على الخطابة، ويعتمد عليها في قمع الفتن والإرهاب في أكثر المواقف إن لم يكن في جميعها حتى غدا خليفة القوم خطيباً، وقائدهم خطيباً، وأميرهم خطيباً، أما في هذا القرن فلم يعتن بالخطابة السياسية أبداً، حتى كادت تقتصر على الخطب الدينية في الجمع والعيدين.
وهذا كله، فيما عدا الأندلس، إذ سوق الخطابة فيها كان أحسن من غيره في المدن الإسلامية؛ إلا أنها كانت تقتصر على الحفلات العلمية، والاستقبالات الرسمية، أما في الأغراض السياسية فلم تتميز عنها في شيء.
والحقيقة التي يجب أن تسجل، أن ما أصاب الخطابة السياسية ليس هو وليد هذا القرن، بل هو وليد القرن الثالث، وهذا يرجع في جوهره إلى أن التشكيل الحكومي كان مصطبغاً بالصبغة الفارسية حيناً، وبالصبغة التركية أخرى، فالتشكيلات الإدارية، والتجهيزات الحربية كان يرأسها أشخاص قد انغمسوا في الترف الفارسي، والتركي، أضف إلى ذلك أن أكثر الذين كانوا يتولون الأعمال الإدارية والحربية هم من الموالي والأتراك، وبالرغم من الحظ الوافر الذي ناله هؤلاء في العلم والأدب، فقد كان باعهم قصيراً في الخطابة؛ وذلك لأن مواقف الخطابة تستدعي طلاقة اللسان، وهذه كانت شبه مفقودة في هؤلاء، زد على ذلك أن اللحن وسع نطاقه في هذا القرن أكثر من القرن الذي سبقه؛ كما أن المناشير والتبسط فيها لذكر الأغراض السياسية كانت قد أخذت دوراً هاماً في هذا القرن حتى أصبح عليها اعتماد عظيم؛ أضف إلى ما تقدم أن الذين كانوا يتولون أمر الملك كانت العجمة تغلب على ألسنتهم حتى أن بعضهم كان لا يفهم ما يقوله الشاعر، وكتب التاريخ والأدب ملأى بذكر الكثير من ذلك. فكل هذه الأسباب كان لها الأثر السيئ في تأخر الخطابة في هذا القرن، بالرغم من أن عواملها السياسية كانت متوفرة وعلى أتمها.
الشعر:
قلنا أن القرن الرابع، كان عصر تنازع على الملك والسلطة، وقد أدى هذا التنازع إلى استعمال "الدعاوة" بأوسع معانيها فراجت سوق الشعر لاحتياج المتنازعين لدعاوته، ولما كان له من تأثير في تحويل القلوب واتجاه الأفكار، وقد أدى هذا الاحتياج إلى إكبار الشعراء والإعجاب بهم، فعظمهم الملوك وقربوا منازلهم حتى زاد ذلك عن حده بمراحل، وسواء كان هذا خوفاً من سطوة لسانهم، أو لأن الشعر، وعمارة سوقه، والتمتع بلذته كانت متوفرة يومذاك، فإن النظر للشعر بهذا المنظر الرائع جعل للشعر وفنونه مركزاً ممتازاً، فاتسعت دائرته وطغى على كثير من الفنون الجميلة في هذا القرن.
وقد ذهب أمر احترام الشعراء وتعظيمهم إلى درجة كان الحكام معها يغضون الطرف عن مساوئهم؛ ويقبلون غطرسة المتغطرسين منهم، فكان بعض الشعراء يدخل على الحاكم وهو يعتبر نفسه أرفع مقاماً عنه، وأعظم مكانة منه؛ وذهب ببعضهم الأمر إلى أنهم كانوا ينشدون الشعر وهم جلوس، تيهاً وإعجاباً لما يتمتعون به من مركز ممتاز ومكانة سامية.
وفي كل هذا دليل على مبلغ احتياج القوم يومذاك إلى "دعاوة" أهل الفن في ذلك العصر الذي تطلعت الأعناق فيه إلى الملك، وتنازع السلطة، وقضت رغبة الحكام يومذاك في أن يرى كل منهم نفسه الحاكم المطلق إلى استمالة الشعراء وإغداق الأموال عليهم، فذهبوا في هذا مذاهب شتى ذكرت كتب الأدب والتاريخ منها الشيء الكثير؛ وقد تم لسيف الدولة -وهو من أهل هذا القرن- ما لم يتم لغيره حتى قيل أنه لم يجتمع بباب خليفة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر مثل ما اجتمع ببابه.
والحقيقة أن الأدب العربي استفاد أيما فائدة من هذه "الدعاوة" التي أدت إلى التنافس بين الشعراء، وقد أدى هذا التنافس إلى الابتكار والتفنن، فكسى الشعر حلة رائعة في هذا القرن، وحفز الكثيرين إلى تعلم صناعته واتخاذه مهنته. أضف إلى هذا أن النفوس يومذاك كانت تتطلع إلى الفنون الجميلة، وتنظر للشهرة نظرة فن وجمال وإبداع، فكانت أغلب مجالس السمر والمجتمعات العامة والخاصة تدور حول درس قطعة جديدة صاغها شاعر فنان، أو نقدها، واستجلاء معانيها، ثم التنافس العظيم الذي كان قائماً بين المتنبي وشيعته، وبين خصومه في هذا القرن، والمقام الأدبي الممتاز الذي ناله المتنبي، كل هذا وسع من رقعة الشعر فشمل أكثر الطبقات، وقد تعدى هذا حدوده، فغمر النساء والجواري والسراري، فكانت لهن اليد الطولى في الإبداع، والإنتاج. ولقد كان من نتائج هذا الإقبال أن الشعر الحي كان يجوب أقطار المعمورة بسرعة رهيبة. وقد ذكرت كتب الأدب أن قصيدة المتنبي التي رثى بها أخت سيف الدولة المتوفية سنة 352هـ والتي مطلعها:
يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ
كناية بهما عن أشرف النسب
جابت أنحاء المعمورة في نحو عام تقريباً، وإذا عرفنا مواصلات ذلك العصر، أدركنا مبلغ تطلع القوم يوم ذاك وتشويقهم لتناقل قطعة شعرية تمثل الفن تمثيلاً صادقاً. كل هذا في مجموعه يعطينا أعظم الأدلة على اتساع الحركة الأدبية، والمركز السامي الذي احتله في هذا القرن.
وإذا كانت هذه حالة الشرق فالأندلس لم تك بأقل شأناً منه، فقد كانت تتمتع بأوفر قسط من هذا الفن الجميل، وقد أبدع فيه الأندلسيون أيما إبداع فاتسع نطاقه، وكثرت فنونه، وكتب الأدب والتاريخ حدثتنا عن ذلك في سعة وبسطة، ومما زاد في تحسين الشعر في الأندلس أن الأمراء والوزراء كانوا من أهل هذا الفن، وقد ملأت كتب الأدب بالكثير من قصائدهم الرائعة، ومقاطعهم الحسنة، وموشحاتهم اللطيفة. والحقيقة أن الشعر الأندلسي في هذا القرن كان له تاريخ خاص، فقد ذهب الأندلسيون في مناحيه وفنونه مذاهب شتى، فبالغ بهم التنميق والتحسين إلى أبعد الحدود فوصلت الموشحات الأندلسية في هذا القرن إلى حد الكمال، كما أن الزجل ظهر في هذا العصر فاستحسنته العامة، ونسجت على منواله، فكان له شأن بعيد الغور في اتجاه النفوس والأفكار.
ولقد كان من العوامل الفعَّالة في تحسين سوق الأدب في هذا القرن، أن المناصب الراقية في الدولة كانت لا تسند إلا لأديب ضرب بقسط وافر في الأدب وفنونه، وأعترف له بمكانة عالية في هذا الفن، فكان لهذا أثره الحسن في اتجاه الفن نحو الكمال وتحسينه وتشجيع أهله والأخذ بيدهم نحو تقوية هذا الفن وترقيته.
أما الطابع الذي طبع به شعر هذا القرن فهو طابع الترف والبذخ والرقة، وهذا أعطانا دليلاً على الحياة التي كان يحياها القوم يوم ذاك، كما أن شعر هذا القرن صبغ بصبغة فلسفية قوية، وقد ظهرت هذه الصبغة في العصور التي سبقت هذا العصر، إلا أنه كان في بعض قطع شعرية نادرة، وعلماء الأدب يعدّون المتنبي حامل لواء الشعر الفلسفي، وقد ذهب بعض مقسمي طبقات الشعراء فجعلوا من شعر المتنبي طبقة رابعة، والمتنبي من أهل هذا القرن، ولقد كان لأدبه الحي، وشاعريته الفياضة، ومنازعته مع خصومه، أعظم الأثر في تقوية الحركة الأدبية في هذا القرن وتحسينها.
والشيء الذي نحب إثباته هنا أن الشعر في هذا القرن وصل قمته العالية الرفيعة وهو إن لم يفق عصر المأمون الذهبي بما دخل عليه من فنون حديثة، وآراء جديدة وصقل حيوي مفيد فهو لا يقل درجة عنه، ولا منزلة منه.
مكة: ابن عبد المقصود
جريدة (أم القرى) الأعداد: 596، 597، 598)
بتاريخ (16/2/1355هـ، (23/2/1355هـ)، (1/3/1355هـ)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :906  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.