شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لا تصير آدميا
فلما أدرك الجيل الجديد والشباب والمثقف الطموح رجالاً عرفناهم وقد طواهم الموت وأطبق عليهم الثرى، وما كانوا إلا زينة المجالس وأنفاس الربيع خفة ظل وجمال خلق وعلو مثل، ولقد عاصرنا من هؤلاء فريقاً لن تبرح ذكراهم علاقة بالقلوب والأفئدة وأسمارهم ومفاكهاتهم ملء السمع والبصر.. ومن أخلدهم ذكراً وأوفرهم حظاً وأعذبهم حديثاً وأقدرهم تصرفاً في القول وأقربهم عهداً "السيد عبد الوهاب نائب الحرم" تغمده الله رحمته ورضوانه وقد توفاه الله يوم عيد الأضحى قبل سنوات بمكة.
لقد كان مجرد وجوده في المجلس داعية الأنس والانشراح، وما كان لأحد معه أن ينازعه التحدث في القوم إلا أن يكون هيناً على نفسه فلا يصغي إليه أحد مهما أقصر أو أطال. وقد منحه الله كثيراً من المواهب والميزات وأتاح له من السن والاختلاط بسراة الناس والتجارب والرحلات ما مكن له في أن يكون وحيد زمانه في كل طرفة يرويها ونادرة يصطفيها. وكان من أبرز مزاياه أنه يكرر ما يرويه ويعيده ويبديه فلا يشعر سامعوه بالسأم ولا بالملل وقد يكونوا حافظين ما قال إلا أنه بأسلوبه الخاص يستميل كل مستمع ويستهوي كل مطلع، وكان الأفذاذ الذين حذقوا كل ما يؤهل جليس الملوك والأمراء للمنزلة الكريمة والمقام المحمود.. وأرجو أن يوفيه التاريخ حقه من الإطراء والتقدير فما كان بالرجل العادي رحمه الله وقد شغل من المناصب في (الآستانة) عضوية (المبعوثان) وفي الحجاز أمانة العاصمة ثم عضوية مجلس الشورى ثم مديرية الأوقاف العامة إلى أن وافاه الأجل المحتوم.
هذه كلمة تمهد للقصة التالية وهي من تأليفه وإخراجه عفا الله عنه: قال: وأين من عبارته وتمثيله ما أقول؟
"كان في (استانبول) رجل كبير السن فقير محترف. وقد رزقه الله ولداً بذل في تعليمه وتهذيبه كل ما جمعه من حطام الدنيا حتى بلغ سن الرشد وانتظر أن يعوضه الله به ما يعينه على شيخوخته ورثاثة حاله، وما كاد ابنه (يشم صماح باطه) حتى تأثر بما رأى من شباب الوقت من تطور وتنكر لكل ما هو شرقي، وتهافت على ما يقذف به الغرب من سيئات ومغريات، وبواثق وموبقات، فبذل له من نصائحه كل ما يحمله والد لولده، فما ارعوى وما زاده ذلك إلا عتواً ونفوراً، فأخذ يؤنبه دائماً على ذلك بقوله "إنك لا تصير آدمياً" والحق أن رواية السيد كانت على الجية فهي (أنت ما تصير آدمي).
فما يزيده الزجر أو التوبيخ إلا انصرافاً عنه وتطاولاً عليه. حتى ضاق الابن بأبيه فاتخذ سبيله في البحر هرباً وتنقل في شرق أوروبا وغربها: وانتهى به المطاف إلى (باريس) وأتم دراسته في معاهدها وانخرط في السلك السياسي وتدرج فيه من أول السلم حتى بلغ السفارة وأصبح (سفيراً) وأسعفه الحظ فدعي إلى العاصمة فإذا به يختار وزيراً للخارجية، وتنشب أزمة تطيح بالوزارة فيطلب إليه سلطان تشكيلها برأسته.
كل ذلك وأبوه في حانوته الصغير المتواضع مكب على حرفته البائسة بخرز ما تخرق من الجزم القديمة لقاء أجر تافه يقيم به أوده، وقد تناهى به الكبر وقعد به العجز والمرض، وانسدلت لحيته البيضاء على صدره المتداعي واشتعل لسانه بذكر الله والاستغفار والتضرع إليه أن يحسن خاتمته وأنه لفي شجونه وشؤونه وإذا، (بالجندرمة)، أو (الشرطة) بالعربي يحيطون به من كل جانب ويمسكون بيديه في غلظة وجفاء ويصيحون به "هيا إلى المابين" فكاد الرجل يفلج وتهاوى على نفسه من هول ما رأى وما سمع. وكان العصر استبدادياً والحكم (حميدياً) فما شك أنه يصير إلى قاع البوسفور.
وانتهى به الزبانية الشداد الغلاظ إلى حيث أمروا أن يذهبوا به، فأبلغه رئيسهم أن (الصدر الأعظم) يريد حالاً فصاح مستغيثاً (أمان أفندم الله أكبر لا حول ولا قوة إلا بالله) وأخذوا بيديه وكان المسكين يرتجف ويضطرب كالسعفة حتى بلغ (البهو العظيم) وقد أحدق به الحراس، وتقطعت منه الأنفاس وأذن له فأدخل فاستوقفه (الصدر) وقال له أتعرف أمام من أنت الآن؟ قال نعم يا سيدي بين يدي الصدر الأعظم.. قال: ما إذا أنت تعرفني قال أما بشخصك فلا وأني لمثلي من الرعاع الضعفاء أن يحظى بهذا الشرف الكبير؟ قال: اسمع يا رجل إنني أنا ابنك فلان الذي كنت تحرق قلبه دائماً أبداً بقولك إنني (ما أصير آدمي)، وها أنا ذا قد بلغت مقام الصدارة فهل صرت آدمياً أم لا؟ فأطرق أبوه قليلاً ثم رفع رأسه باحتقار إليه وحدج فيه بعينيه، وكأنما يتطاير الشرر منهما وقال: يا سفيه أما لم أقل لك أنك لا تكون صدراً - بل قلت ولا أزال أقول لك (ما تصير آدمياً) ولو قد صرت آدمياً لكان من واجبي عليك وأنت في مقامك هذا أن تحظى برضاي وتسعى إلى مثواي وتقبل قدمي وتعترف بفضلي عليك وأبوتي لك ولكنك جاهل مغرور، وأحمق مفتون.. ولك أن تكون من تكون.. (إلا أن تصير آدمياً) (وإنا لله وإنا إليه راجعون).
* * *
وإلى هنا تبرز العظة ويتعين المغزى من هذه القصة المؤثرة. كيفما كانت حقيقة أو خيالاً.. وأكاد أجزم إن كان المرحوم السيد عبد الوهاب حياً يرزق فقرأها بهذا النسق التافه البارد - وقد خلت من رتوشه، ونقوشه، وتخييله وتمثيله وحسن اختياره للزمان والمكان والمناسبات لشنها غارة شعواء على هذا التصرف المزري ولأقامها قضية لا يعوز فيها البرهان على هذا الافتئات، ولرفع عقيرته بالاحتجاج عليه.
وقد كان القلم يترنح في يدي خشية أن أكون قد أقلقته في ضريحه بهذه الغثاثة التي ما كان أشدها عليه وأبغضها إليه لو توسط به النادي وعرض الرواية في غير ما تكلف ولا استسماح.. ورحم الله أبا (أحمد) وكل من لا يزال يذكر فيحمد، ولله در السهمي إذ يقول:
كم بذاك (الحجون) من حي صدق
وكهول أعفه، وشباب؟
فارقوني، وقد علمت يقينـاً
ما لمن ذاق ميته من إياب
"اللَّهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :411  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 870 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.