شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصناعات الوطنية (1)
ليس في الوجود كله من عمل يبدأ كاملاً كما تشاهده العين اليوم، فإن جميع الصناعات والاختراعات وغيرهما من المرافق التي تتناولها يد الإنسان ويستخدمها الناس في منافعهم الخاصة والعامة تتكون بالتدريج ويتناولها التحسين وتتطور في سبيل التمام وتنقلب في أدوار عديدة من الإتقان والتنظيم حتى تبلغ الغاية التي تعجز المدارك البشرية عن تجاوزها.
ومن يرجع إلى استقراء حوادث التاريخ وما قصّهُ من أنباء الشعوب الغربية قبل قرون قليلة يجد الفرق شاسعاً بين ما كان لأمم الشرق من التفوق في الفنون والتقدم على غيرها من سائر الأجيال التي تقطن أقطار مغرب الشمس ولاسيما في أنواع الصناعات وضروب الهندسة وسلامة الذوق وأبواب العمران وبين ما تراجعت إليه من التواكل وتناسي عظمتها التي لا تزال آثارها تنطق بجلال ذلك الماضي الزاهر رغم العصور المتطاولة التي تكسرت أمواجها واندحرت أفواجها دون أن تغير رسماً من معالمها المشيدة وزخرفها العتيد.
ولقد كان لهذه الأمة العربية المجيدة أوفر السهام وأكبر النصاب في كل ما ابتكره الفكر وجال فيه الخاطر كما كانت ربة السيف والقلم وناشرة لواء العلم في الأمم فما عاقها عن الأخذ بنصيبها من خدمة الحضارة ما كانت تنوء به من أعباء الحكم في مختلف الشعوب والقارات بل تقدم أبناؤها في ميادين العمل الصناعي واستفرغوا الجهد في تزيين بلدانهم ورفع منزلتها بين منافسيهم من الفرنجة والروم والعجم فباحتكاك مجاوريهم بهم استفادوا صناعات كثيرة برعوا بإتقانها وكان عندهم من الصناعات الوطنية ما تفوقوا فيه ومن أقدمها بناء السدود مثل سد مأرب وطبع السيوف اليمانية وبناء القصور وعمل الأسلحة والخزف والقاشاني والزجاج وبناء السفن والنسيج والحفر والنقش وعمل الورق وأشباه ذلك مما لا يدخل تحت حصر.
ولأهمية هذه الصناعات لدى العرب كانوا يولون على أربابها رئيساً يسمى شيخ المشايخ وصاحب هذا المقام يعين المشايخ لأكثر من مائتي حرفة في المدينة ويفصل الخلافات ويحسم المشاكل التي تقع بين أرباب الحرف ويقاضي المخالفين.
كذلك كان القوم يوم لم يجد الكسل إلى سواعدهم طريقاً فظلوا محافظـين على سمعـة أسلافهـم يتدثرون بما تغزل أكفهم من منسوج ويعيشون بما تنبت ربوعهم من منتوج ويربحون فوق ذلك علو الذكر وعز الغنى وتوفر الأموال.
حتى إذا داهمتهم أحداث الزمن وقعدت بهم الهمم ونشط غيرهم من الذين كانوا يستجدون العلم في مدارسهم ويجنون الثمرة في مغارسهم فواصلوا الدأب وكافحوا الصعوبات وتابعوا السير في جهد وثبات فما هو إلا أن بهروا الأنظار، وزاحموا الأطيار، وامتلكوا البحار، وأبرزوا للعالم من مدهشات الصناعة وروائع الفنون ما لا عهد له به وما كان لأولئك المبرزين من عتاد يملكون ولا قوة يستمدونها إلا العلم الصحيح والتفكير الصريح والثبات في العمل والكدح المتواصل حتى كان من أمرهم أن تتصل سلسلة التجارب في واحد أو عويصة من فروعه بين عدة رجال يتسابقون إلى ربطها بحلقة من أبحاثهم إلى أن يتجلى سرها وينكشف سترها.
لسنا الآن في معرض التفصيل وإلا كان في هذا البحث اللذيذ أجمل الذكريات.. وأفضل البر بمن جاهدوا في الله حق جهاده واتبعوا في حياتهم سبيل رشاده دانت لهم النواصي وسالمتهم الصياصي فعاشوا متحلين بأوشحة العز والفخار وخلفوا من أثارهم ما لا يزال مائلاً للأبصار.
على أننا نمسك عن الاسترسال في الموضوع بعد أن نذرف على تلك العهود العبرات ونستخرج العبر ونتدارك ما فات من الوقت الذي أغرقنا فتوره في بحر التواني فهذه طرق العمل مفتحه أبوابها لمن شاء أن يتقدم وماذا عسى أن يكون لنا من العذر وقد بات في وسع كل امرئ أن يخدم نفسه وأمته وبلاده من هذه الناحية الاقتصادية العظيمة الفوائد؟
إننا نعلم أن في هذه البلدة الطاهرة فتياناً حملهم نشاطهم الفطري وذكائهم المشهود على مزاولة صناعة "التطريز" فما عتموا إن ضاهت منتوجاتهم أبدع ما تقذف به سفن البحر من مصانع قديمة العهد محكمة الوضع غزيرة المادة فكيف يصبح عملهم لو أداموا فيه التفكير وأبدعوا إتقانه؟ لعمر الحق أنهم لا يبدر أن يقيموا البرهان على تفوقهم وتأنقهم بما يرجع ب طرف المكابر وهو حسير.
كذلك أبدى الشباب المشتغل في المهن الميكانيكية وسوق السيارات وتعميرها ما كان موضع الإعجاب لحداثة عهدهم بهذا النوع من الفنون وما من صاحب سيارة خصوصية أو عمومية إلا أصبح قادرا على ممارسة سيرها وترميمها على أدنى وجه وأصح ترتيب، وقد زاول بضعة أشخاص أعمال الكهرباء وما يعرض لآلاتها من عطل أو تخريب فتمكنوا من القيام بشؤونها على يد أستاذ قدير ومهندس بارع.
ومن أتيح له مشاهدة موظفي الآلات الكاتبة في الدوائر الحكومية أو التجارية وكيف بلغوا في استعمالها درجة الكمال سرعة يد، وإتقان عمل، لتهلل وجهه بشراً وسروراً بهذه الروح الجديدة السائدة على الطوائف العاملة في البلاد.
غير أننا لا نقنع بذلك فحسب بل نؤيد أن يكون لنا قسط من الإنشاء والبناء والابتكار وذلك على مقتضى ما تسمح به ظروف الحال وسنة الترقي وليس ببعيد أن ينال المجتهد غاية أمانيه إذا سلك إليها طريق الناجحين وتزود فيها بوصايا المفلحين.
وقد علمنا أن النية متجهة في القريب العاجل لفتح مشغل خاص (في معمل الكسوة الشريفة) بأجياد لقسم من أبناء هذا البلد الأمين يتمرن فيه على أعمال النسيج وضبط أصوله ومعرفة دقائقه مع بذل معونة شهرية يتقاضاها المتعلم لسد حاجته والتفرغ لعمله.
وذلك مشروع جليل يقدره كل من يعلم أن لا حياة للأمم ولا تقدم للبلدان بغير الصناعة التي من أهم فوائدها الاستغناء عن المنتوجات الأجنبية وحفظ رؤوس الأموال الوطنية في داخل البلاد تستثمر ما تمس إليه الحاجة ويدفعه خطوة إلى الأمام.
وحقيقة بأرباب الحرف الأخرى التي ما برحت في عهد طفولتها كما نشأت قبل قرون أن يتقدموا بها في سبيل الاتقان والتفنن ويأخذوا أنفسهم بالصبر والجلد على جعل ما يبرزه الصانع نضرة للعيون وبهجة للقلوب فخليق بهم أن ينفضوا عنهم غبار الملل ويتسابقوا في ميادين التنافس الصناعي الذي قامت على أساسه أركان أعظم دول الأرض في هذه العصور.
هذه كلمة أرسلناها تشحذ غرار العزائم الثائرة وتنهض بالجدود العاثرة واثقين أنها تقابل من الخاصة والعامة بالتحبيذ ولم يدعنا إلى نشرها غير الإخلاص لقومنا وتاريخنا والبر بأبائنا وأبنائنا ولعلنا نجد فرصة للكلام مرة أخرى في هذا الموضوع الحيوي الهام فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (2) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :377  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 620 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.