شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المفاجأة الأولى
التفت إليّ وقال: هل اجتمعت بالملك عبد العزيز أو رايته؟ فأردت أن أفاجئه بالجواب، فقلت له: إنني كنت كاتباً من كتابه وموظفاً في ديوانه، فكاد أن يثب من كرسيه مندهشاً فاغراً فاه في تعجّب مما سمع، ثم أخذ يهتزّ ويقول: كيف هذا؟ وكيف لم تذكر لي؟! وكيف لم تذكر لي ذلك! ولم يذكره إخواننا في "هلسنكي"، قلت له: إنني لا أذكر ذلك لمن ألقاه إلاّ إذا جاءت مناسبة نادرة كهذه، وإخوانكم في هلسنكي وفي غيرها لا يعرفون عني إلاّ ما أخبرهم به من أنني فلان الفلاني من سكان مكة المكرمة، ولا شيء غير ذلك وهذا دأبي الدائم في كل رحلاتي حول العالم، فقال لي: أكنت مع الملك عبد العزيز؟ وكان مدهوشاً ومترقّباً لما سيسمع، وكأنه لم يصدق ما سمع، فأعاد عليّ السؤال: أكنت مع الملك عبد العزيز؟ فقلت له: نعم! نحو عشر سنوات، قال: هل كنت كاتبه؟ قلت له: لم أكن الكاتب الوحيد، فهناك عشرات الكتاب من مثلي، وسأطلعك من حقيبة ملابسي على صورة لي مع الملك عبد العزيز، فقال: هيّا، أطلعني عليها الآن، وكأنه لم يصدق أن يرى من يكون على مثل هذه الصلة بالملك عبد العزيز، فناديت زوجتي فأخرجت ملفاً فيه بعض الذكريات التي تعوّدت أن أصطحبها معي، ومنها صورتي بين الملك عبد العزيز والمستر تشرشل في اجتماعها عام 1945م في القاهرة.
وألقى الرجل نظرة فاحصة على الصورة ثم رفع عينين كعيني الصقر يلقي نظرة فاحصة على وجهي، وأعاد في دهشة مشيراً إلى صورتي بالملابس العربية بينهما، وهو يقول لي: أنت هذا؟ قلت له: نعم أنا هذا، والعباءة والعقال في حقيبتي في غرفة نومي في بيتك، وخفت أن يثب وأن يطلب مني أن ألبس ملابسي العربية لتكمل "الصورة" "التابلوه"، فتملّكه العجب والغبطة والسرور، وقال لي: أنا سعيد هذه الليلة بلقائك، وهو شيء لا يمكن لي أن أصدقه وأن يجري كل ذلك في بيتي.
واسترسل يقول لي: إذن أنت الآن من أتباع ابن سعود، وأنت تقول لي إنك كنت من كتابه وأنا أقول لك أن هذه المجموعة من الكتب الدينية هي هدية من جلالته لي، وإني أعتزّ بها بين المسلمين في فنلندا إذا زاروني وأطلعهم عليها وعلى كتاب الإمام عبد العزيز، ولهذا فقد كملت سعادتي وتمّ سروري، ويا ليت أنني اجتمعت بذلك الإمام المصلح الذي قرأت عنه الشيء الكثير، والذي كنت أتمنّى لو كنت مثلك من أتباعه أو كانت له بيعة في عنقي، ثم التفت إليّ في جلال جاد وهو يقول لي: لا تزال البيعة متبعة في بلادهم كما أعلم بعد أن انحسرت عن الدولة العثمانية وعن البلدان العربية، فقلت له: نعم، نحن لا نزال على ذلك. فقال لي: يا ليتني كنت معكم أو منكم فأفوز فوزاً عظيماً.
وكانت المفاجأة الثانية بعد الأولى لمضيفي عندما أشار إلى مجموعة من المجلات التي تحتوي عليها مكتبته، فأطلعني على أعداد من مجلة "المنار"، وعلى أعداد من مجلة الرسالة والثقافة، وعلى أعداد من الهلال والمقتطف، ومن مجلة الفتح، ومجلة الشبان المسلمين بمصر، ثم قال لي: وهذه مجلة الإذاعة من المملكة العربية السعودية، فطلبت منه عدداً منها، فتناوله من بين أعداد كثيرة متراكمة منها، وألقيت نظرة على المجلة وأنا أبتسم، وأقول له: كيف تحصّلت على هذه الأعداد، تجيئك من جدّة إلى فنلندا؟ قال: تحصّلت على عدد منها ثم كتبت إلى مديرها أطلب منه أن يهديها لي، فجاوبني بكتاب محفوظ، ثم توالت أعداد تلك المجلة، وكنت أغتبط بوصولها إليّ واطّلاعي عليها، ثم انقطعت بعد ذلك عنّي.
قال لي ذلك، ولا يزال ملف الرسائل بيني وبينه على المكتب، فقلت له: هل يمكن أن أرى كتاب مدير هذه المجلة؟ فقال: نعم! وقلب رسائل الملف، ثم أخرج لي منها الرسالة التي أشار إليها، وقال لي: هذه هي! فتناولتها منه، وألقيت نظرة عليها. وكانت زوجتي قد جاءت ووقفت على رأسينا نستمع للحديث، وإذا كنت أقرأ الرسالة كانت هي تقول له: هذه الرسالة من عبد الله، ولم يفهم منها، فقال لي: ما هذا؟ فقلت له: أنا مدير المجلة هذه، وهذه الرسالة مني، وعليها اسم مكتبي، وعليها اسمي الكامل وتوقيعي.
خطف مني الرسالة ولبس نظارته مرة أخرى وألقى نظرة طويلة متفحصة عليها، وقال لي: إذن أنت عبد الله بلخير نفسه الذي كتب لي هذا الكتاب؟ قلت له: نعم! قال: عندما ذكروا لي اسمك في (هلسنكي) وأنك ستزورني، حفظت الاسم ولكن والله لم يمرّ على بالي أنك مدير مجلة الإذاعة السعودية.
وضحك، وضحكنا، ونادى ريحانة ليخبرها بهاتين المفاجأتين أن ضيفنا هذا كان كاتباً للملك عبد العزيز، وهو الذي أهداني مجلة الإذاعة.
وأطلقت السيدة صوتها مردّدة "البيت الشعري" المشار إليه سابقاً، (حب النبي حرقني، أفدي الذي حرقني، يا رب لا تحرمني)، وطالبة منّا في زجر لزوجها أن نذهب إلى غرفة الاستقبال فإن الطعام الذي وضعته فيها يكاد أن يبرد، وقالت لزوجها: أخبره أننا نأكل في كل ساعتين صنفاً من أصناف الطعام، ووقف الرجل في دهشة وهو يقول لي: عجيب، عجيب أمر هذه الدنيا فقم بنا الآن نتناول ما أحضرته زوجتي، فقلت له: لا أجد له متّسعاً في بطني، قال: هي لا تقبل ذلك، فقم بنا نحن نريد أن نأكل فهذه عادتنا، ولعلّ الطعام الجديد الآن هو أنواع من الحلوى والشاي، وقمنا بعد ذلك وتناولنا بعضاً وقليلاً مما أحضروه، وكان من الشاي والحلوى كما توخّى مضيفنا.
وقلت له: أجب على سؤالي الأول: كيف وصلت إلى هذه البلاد؟ قال: لعلّي قد ذكرت لك أنني قد هاجرت فيمن هاجر من مسلمي البلاد الروسية نتجوّل وننتقل من بلاد شمالية إلى أخرى جنوبية، حتى وصلنا إلى بخارى وسمرقند، ثم إلى كابل وقندهار في أفعانستان، ثم توالت أنباء من سبقنا من المهاجرين إلى باكستان، ثم إلى الهند، كل هذا كان فراراً من الشيوعية التي غمرت أوطاننا، حتى إذا وصلنا إلى مدينة بومباي أنا وزوجتي "ريحانة"، كان شوقنا عارماً للأحباب لأداء فريضة الحج، فإن شقيقتها المتزوّجة من أحد أبناء بلادنا قد هاجرت إلى مكة كما سبق وقلت لك في أوّل لقائنا وإنها مقيمة بها، ولها هناك بيت وأولاد وبنات منذ أكثر من ثلث قرن، وانتظرنا الباخرة نحو شهر كامل في مدينة بومباي، وفوجئت برسالة من إخواني المسلمين المهاجرين إلى فنلندا والمقيمين بها – وكنت أراسلهم من كل بلد أحلّ به – يذكرون لي أن إمام مسجد "تيجري" وهو أقدم من المسجد الحديث في هلسنكي قد توفّاه الله، وأن المسجد بلا إمام ولا مؤذن منذ بضعة شهور، وأننا لم نجد سواك يقوم بهذه الوظيفة لعلمك وثقافتك وحبّك لنشر الدعوة، قال: وكان لهذه الرسالة عندما استلمتها صراع نفسي بيني وبين نفسي، ولا يفصلني عن مكّة المكرمة إلاّ أسبوع بالباخرة، من بومباي إلى جدّة، ولا يفصل زوجتي عن شقيقتها في مكّة إلاّ ما يفصلها عن هذه المسافة، واحترت كيف أفعل؟ لقد عزّ عليّ جداً ألاّ يعلو صوت المؤذن خمس مرّات على أبعد مسجد في شمال الكرة الأرضية من مشارف القطب الشمالي، وأن تتعطّل هذه الصلوات من إمام يقيمها هناك، وأذان يتردّد خمس مرّات في كل يوم وليلة ينبعث من تلك البقعة، ووازنت بين العودة إلى فنلندا والقيام بهذا الواجب، وبين الذهاب إلى مكّة وأداء فريضة الحجّ، وقام نزاع بيني وبين نفسي وبيني وبين زوجتي، أيمكن أن تفضّل إمامة ذلك المسجد على أداء فريضة الحج إلى مكّة، وهي محطّ أشواقي وآمالي وأحلامي؟!
قال: وصلّيت صلاة الاستخارة، وتوجّهت إلى الله بالدعاء، وقلت له: يا رب إنني لا أستطيع أن أفضّل العودة إلى فنلندا للقيام بإمامة ذلك المسجد على إسقاط فريضة الحج المكتوبة عليّ، ولكني أرى في نفسي وبمقدار معرفتي الضئيلة بدينك أن الإعلان بالشهادة على القطب الشمالي خمس مرات في كل يوم وليلة مقدّم على الحج، لأن الحجّ سيقوم به مئات الآلاف، أمّا تلك الشعيرة فلن يقوم بها غيري، ثم إنني أعلم أنك قد قلت في كتابك العزيز: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً، وأنا لا أستطيع إليه سبيلاً، لأنني باقٍ في بومباي مع زوجتي منذ شهور نكافح للحصول على أجرة الباخرة، إذن أنا غير مطالب بالحجّ في هذه الأيام.
ثم ضحك الأستاذ حبيب الرحمن، وقال لي: إنه مرّ على بالي في دعائي أن أقول فيه مخاطباً الله سبحانه وتعالى، بأنك إذا أغنيتني بتسهيل أبواب رزقي وبما أجمعه لأداء الفريضة فسأجيء حينئِذ إن شاء الله من القطب الشمالي إلى مكّة المكرّمة، قال: وانشرح صدري لما مرّ بخاطري وقلت لزوجتي سيجعل الله لنا سبيلاً آخر إلى الحجّ وإلى رؤية شقيقتك، فدعينا نسافر الآن إلى فنلندا، وكانوا قد أخبرونا في الرسالة بأننا إذا قررنا السفر إليهم فستصل إلينا حوالة بنفقات السفر.
وأخذت القلم والورق وكتبت لمن أرسل لي تلك الرسالة من مسلمي فنلندا بأنني قد عزمت على التوجّه إليكم حالاً فحوِّلوا نفقات السفر، وعدنا إلى هذه البلاد وتسلّمت المسجد وبدأت أقيم فيه الصلوات والأذان وستذهب غداً إليه لتراه بإذن الله.
كنّا لا نزال في غرفة الاستقبال، وقد تصرّم الليل إلى ما يقرب من منتصفه، فقال لنا المضيف: أنتم الآن بحاجة إلى الاستراحة والنوم، فقلنا له: وهو كذلك. وقمنا نودّع المضيف والمضيفة، ودخلنا إلى غرفة نومنا وتمدّدنا على سريرنا برهة من الزمان، وتكاد الدنيا أن تدور بخواطرنا وما يثلج صدورنا منذ وصولنا إلى هذه المدينة ونزولنا ضيفين على إمام مسجدها وأعلم الناس بهذه البلاد والأستاذ العالم الورع حبيب الرحمن.
وأطفأت النور واستسلمنا للنوم، وبقينا نحو عشرين دقيقة كل منّا يحاول أن يغمض عينيه، ولكن الخواطر كانت مضطربة وهذه الفرحة بمثل هذا اللقاء كانت تغمرنا بما سمعنا ورأينا ودموع السيّدة ريحانة وهي تتقاطر على وجنتيها منشدة شوقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حب النبي حرقني
أفدي الذي حرقني
يا رب لا تحرمني
ولمع في ذهني وذهن زوجتي مثل لمع البرق المتفق على رؤيته، خاطرة (لماذا لا ندعوهما لأداء فريضة الحجّ على حسابي؟!)، ولم أكد أقول لزوجتي هذه الخاطرة حتى أقسمت أنها كانت تفكر في نفس اللحظة بنفس الفكرة، وقالت لي: أشعل النور، بادر بنقل هذه البشرى إليهما الآن قبل أن يناما حتى يبيتا ونبيت نحن أيضاً في أجمل ما يمكن أن يمرّ لنا على بال.
وأشعلت النور وخرجت من غرفة النوم قاطعاً غرفة الاستقبال، وأنا على أطراف أصابعي، حتى قرعت الباب، قرعات خفيفة متوالية، فجاءني صوت حبيب الرحمن، يقول لي: نعم، فقلت له: هل يمكن أن أراك الآن؟! فلبس "روبه" فوق منامته، وأشعل النور وخرج إليّ شبه مذعور. عسى ألاّ يكون في الأمر ما أزعجنا وما قد أذهب عنّا النوم، وقامت السيدة ريحانة لمقامه وخرج الاثنان مستفسرين عمّا جرى، وكانت زوجتي قد لبست أيضاً وحضرت في القاعة، وقلت للأستاذ حبيب الرحمن: يا مولانا إننا ندعوك وندعو السيدة ريحانة لأداء فريضة الحجّ المقبل بتذاكر نعدّها لكما، من "تمبري" إلى "هلسنكي" إلى "جدة" عبر بيروت ذهاباً وإياباً، فتُقدمان إلينا على الخطوط الجوية الإسكندنافية في رحلة واحدة تقوم من هلسنكي إلى بيروت، ومن هناك بالطائرة السعودية أو اللبنانية إلى جدّة وسنبحث هذا الأمر غداً، وسنتّفق عليه قبل مغادرة بلادكم فأنتم من الآن تعتبرون ضيوفنا في تلك الرحلة من هلسنكي إلى جدة، ومن جدة بعد ذلك إلى هلسنكي.
وارتجّ على الرجل ولم تفهم زوجته ما قلته له، والتفت إليّ قائلاً: أنتم تدعوننا على نفقتكم وفي ضيافتكم في مكة المكرمة؟! إننا لا نزال غير مطالبين بالحجّ لأننا لا نستطيع إليه سبيلاً، فهل تستطيعون أنتم أن توفّروا لنا نفقات ذلك بدون مشقّة أو تكليف عليكم، قلت له: نعم. قال لي: ولماذا تتعبون أنفسكم؟ فقلت له: كما قال لي أخونا الأفريقي في المقهى إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَهٌ. فقال لي: صدق الله العظيم، ثم بدأ يترجم لزوجته، فانفجرت في البكاء، بكاء الغبطة، تكاد أن لا تصدّق ما تسمع وهي تقول له: يدعوننا إلى الذهاب لمكّة المكرمة وأداء فريضة الحجّ على حسابهم؟ فيقول لها: هكذا يقولون! ثم التفت إليّ، وقال لي: أريد أن أسألك سؤالاً، ما الذي تعمله الآن أنت بعد أن كنت في وظيفة عند الملك عبد العزيز؟ قلت له: إنني خدمت في الدولة ثلاثين عاماً وقد أحلت إلى التقاعد كعادة الموظفين إذا استمرّ عملهم مدة طويلة، وأنا الآن متقاعد ومستريح ولي بيت وأبناء ولي على خدماتي راتب تقاعدي مجز من الدولة، وفي حالة مادية أستطيع بها أن أقوم بواجبي من دون تكليف ولا إرهاق بل بمنتهى اليسر، ويكون لكم الفضل إذا قبلتما هذه الدعوة.
فترجم ما قلت لزوجته، فأخذت تتغلب على نشيجها، وكانت زوجتي تبكي أيضاً لما نحن فيه من ساعة مباركة سعيدة، وقال لنا حبيب الرحمن: أنا لا أستطيع أن أنام ولا زوجتي تستطيع ذلك، ويظهر أنكما أيضاً لا تستطيعان ذلك ولم يتبقّ على الفجر إلاّ ساعتان، فدعونا نكمل أحاديثنا وتحضر لنا ريحانة الشاي، فقلت له: وهو كذلك، وترجم لزوجته ما أفضى به إلينا، وما وافقنا عليه، فوثبت مهرولة تقرع أبواب غرف بناتها الثلاث، ولم أذكر أن للشيخ ثلاث بنات أكبرهن في العشرين ووسطاهن في السابعة عشرة، وأصغرهن في الرابعة عشرة، وكان الأبوان قد قدماهنّ لنا عندما عدن من مدارسهن متأخّرات، وذهبن إلى غرفهن ولم يحضرن معنا السهرة.
وأخبرتهن السيدة ريحانة بأنها ذاهبة بدعوة من الضيوف إلى الحجّ، وتعالت أصواتهنّ غير مصدّقات لما يسمعن وقالت لهن: إنني بإذن الله سأرى خالتكن في مكة المكرمة، وإنني سأعمل الآن الشاي، وخرجت البنات إلينا كل واحدة منهن تعين أمّها على ما تحضّر في المطبخ، وبقينا جميعاً إلى أذان الفجر، فأمّنا حبيب الرحمن للصلاة في صباح بارد إلاّ أنه منعش وإشراق شمس جميلة رأيناها من النافذة، وإذا بها تختلف عن شروق الشمس في بلادنا، فقد ظهرت في شفق يغمره البياض وهي بيضاء نقيّة.
وعدنا إلى غرف نومنا، أما نحن فقد نمنا ساعات بين الضحى وقمنا نشيطين فوجدنا طعام الإفطار ينتظرنا والشيخ والشيخة في فرح منقطع النظير، وكانا على استعداد بعد ذلك للطّواف بنا في أرجاء المدينة لزيارة المسجد أوّلاً، ثم بعد ذلك لزيارة بعض كبار المسلمين من التجّار في أماكن متباعدة من أسواقها.
وخرجنا من البيت وطلب الشيخ من زوجته أن تبقى لإعداد طعام الغداء، وكانت البنات قد ذهبن إلى مدارسهن، وتوجّهنا إلى المسجد، فإذا به بيت خشبي قديم مقام على أعمدة قديمة، وقد غيّرت الشمس والأمطار والهواء لون الخشب إلى لون ترابي ذهب عنه رونقه وطلاؤه، ولاحظ حبيب الرحمن أنني قد دهشت من وضع المسجد والحالة المزرية التي كان عليها، فقال لي: لعلّني لم أذكر لك أننا قد عانينا في هذه المدينة "تمبري" ما لم يعانه إخواننا المسلمون في العاصمة "هلسنكي"، فقد كان مسجدنا هنا هو الأوّل على ما تراه مبنياً من الخشب الذي يكاد أن يهترئ، فقد كانت بدايته منذ خمسين عاماً، ولقد كتبنا يومئذ للملك فؤاد ملك مصر ولغيره من ملوك المسلمين نستجدي منهم ما يتفضّلون به علينا لإقامة مسجد لائق بكرامة الإسلام والمسلمين، كما فعل إخواننا في "هلسنكي"، لكننا تلقينا وعوداً خلاّبة لم ينتج عنها شيء، فبقي هذا المسجد كما تراه، وفطنت الكنيسة لما دعوت إليه وما خطّطنا له من أن يقام هذا المسجد على هذا الميدان الذي تراه وهو من أجمل ميادين مدينتنا هذه، فبادروا هم بسبقنا كعادتهم وبنوا هذه الكاتدرائية الضخمة العظيمة التي تراها أمامنا.
وبقي مسجدنا الخشبي على حاله وبقينا نحن على حالنا، ولم نجد من التشجيع ما يصل إلينا من إخواننا المسلمين في الخارج، فلا بلاغ إلاّ بالله.
وغادرنا المكان والمسجد، كل منا يطأطئ رأسه، وقال لي: أريد أن أطلعك على مفاجأة وهي سيّدة من سيّداتنا المسلمات تدير متجراً من المتاجر، وهي حافظة لكتاب الله حفظاً مجوّدا متقناً لا تخطئ فيه خطأً واحداً ولا تفهم منه حرفاً واحداً!!
وقد شغفت هذه السيدة بتلاوة القرآن جميع نهارها، فهي لا تكاد تسكت عن التلاوة والحفظ، وها نحن قد اقتربنا الآن من محلّها التجاري، وهي تبيع فيه أنواعاً مختلفة من الأقمشة والملابس، وعلى سعة ويسر في حياتها، وكنّا قد اقتربنا من باب محلّها، وقال لي: لاحظها وأنت تدخل المحل قبل أن أقدّمك إليها، فسترى أن شفتيها تتحرّكان، فما هو إلاّ قراءتها للقرآن وهي تباشر البيع والشراء، وهي الوحيدة في رجالنا ونسائنا التي على مثل هذا الحال، فحيّاها بتحية الإسلام، فردّت عليه التحية بأحسن منها، وهي تبتسم وترحّب به بلغتهم، فقال لها: أقدّم إليك هذين الضيفين فلان وزوجته قادمان من الحرمين الشريفين، في زيارة لبلادها، وتفقّداً لإخوانهم منّا، وصافحنا السيدة التي غمرها سرور كبير بما سمعت، بقيت تتكلّم مع حبيب الرحمن وتتلفّت إلينا وتتحّدث عنّا وهو يجيبها على ما تسأل، حتى قالت له: إذن غداؤنا جميعاً اليوم في أحد المطاعم المجاورة التي يعرفها، لكنه أخبرها بأن السيدة ريحانة قد أعدّت ما يلزم لنا في بيته ودعاها للمشاركة فاعتذرت بأنها لا تستطيع أن تترك متجرها، على أنها ستزورنا وتدعونا غداً، فودّعناها، وخرجنا متّجهين إلى محل تجاري آخر، وكانت كبرى بناته قد أخبرت والدها بأنها ترجو منه أن يحملنا على إجابة دعوتها لزيارة البنك الذي تعمل فيه في غير أوقات الدراسة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :466  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 164 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.