شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
امتياز في مكتبة الجامعة
ومر أسبوعان وقد ضقت ذرعاً بهذه "الأشغال الشاقة"، وكنت أذهب إلى المكتبة بعد الساعة الرابعة من عصر كل يوم، لأباشر في قاعة مطالعتها هوايتي "الرياضية" وهي القراءة والمطالعة ولا شيء غيرهما.
ولعلي أذكر أن مكتبة أخرى كانت في الكلية الثانوية العامة خاصة بطلابها، وكنت أتردد عليها، إلا أن مكتبة الجامعة العليا قد استهوتني لما ذكرت من أجوائها، وأن فيها من المترددين عليها من طلاب الكليات العليا المخصصة لهم، ما جعلني أذهب إلى مدير الكلية الثانوية المستر "ليفت" وأخبره أن السماح لطلاب الثانوية بالتردد على المكتبة الكبيرة الخاصة بالصفوف العليا يقتضي ألا يسمحوا لي بالتردد عليها والاستعارة لكتبها، إلا بإذن خاص، وبطاقة رسمية خضراء تجيز لي ذلك، وعرف المدير ما أقصد، وتشجيعاً منه لي، تخطى النظام المتبع وكتب لي توصية إلى الدكتور حبيب كوراني، ومكتبه يومئذ في بناية "الكولج هول" حيث المكتبة في دورها الثاني، فأعطاني الدكتور الكوراني بطاقة خضراء عليها صورتي، وبهذه البطاقة أصبح من حقي أن أتردد على المكتبة العليا وأختلط بطلابها وأَستعير من كتبها ما أشاء حسب القوانين المتبعة، وكان هذا بالنسبة إلي امتيازاً لا يشاركني فيه أبناء الكلية الثانوية العامة التي كنت بها.
ولهذا كانت فرحتي بذلك عظيمة، لا ينقصها إلا التخلص من ساعات الرياضة المكروهة، واستغلال جميع أوقات فراغي غير الدراسية لأضطرب وأتجول في حرم الجامعة وبين كلياتها العالية، خصوصاً وقد أصبح لي من طلاب الصفوف العالية عدد كبير من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في جمعية العروة الوثقى التي بدورها، وبتوصية مستشارها الدكتور قسطنطين زريق، قد منحتني امتيازاً آخر لا يشاركني فيه أبناء الكلية الثانوية أيضاً، وهو أن أحضر ندوات العروة ومحاضراتها، وأُدعى في المناسبات التي أشرت إلى بعضها وسأشير إلى البعض الآخر، بأن يكون لي شبه عضوية دائمة فيها، وأخيراً بعد نحو شهر تأكد أستاذ الرياضة عبد الوهاب الرفاعي بأن لا فائدة في سحبي من المكتبة إلى ميدان الرياضة، فأخذ لا يدقق في ضرورة حضوري مع الطلاب في الملعب، حتى أن بعض زملائي ممن لا يحبون الرياضة وهم قلة قليلة جدًّا، قالوا له مرة: ولماذا تحاسبنا على التغيب عن ساعات الرياضة، أو ساعات السباحة في البحر، وتغض الطرف عن عبد الله بلخير، فقال لهم: عبد الله بلخير، لا تفوت عليه ساعة فراغ واحدة إلا وهو على كراسي المطالعة في المكتبة.
وانتهى دوري الرياضي بتفضل الأستاذ الرفاعي بغض الطرف عني، وكنت إذا قابلته في أرجاء الكلية يقول لي: عملتها يا عبد؟! ثم يضحك فأشكره فيقول لي: هذا خطأ كبير منا أن نقبل منك، وخطأ كبير منك في حق نفسك وستندم على ذلك، وأحمد الله أنه بعد هذا العمر الطويل منذ تلك الأيام وقد تخطيت نصف قرن أنني لم أشعر بالندم، وأنني في صحة راض عنها، وأن المباريات العظيمة والكؤوس الفخمة التي تتحصل عليها فرق رياضاتنا المختلفة الآن في هذه النهضة الرياضية المباركة في المملكة تسرني وأغتبط وطنيًّا بها، وأكتفي بمشاهدتها في التلفاز بدون أي شعور بضرورة ذهابي للملاعب الرياضية.
فوجئت في الأسبوع الأول من انتظامي بالكلية الثانوية في الجامعة بأخ من طلاب الأقسام العالية في الجامعة، يجيء إلى البناية التي أسكن فيها وهي بناية "سيج هول" يسأل عني. فلقيته ورحبت به وعرفني بنفسه بأنه محمد عبده غانم من عدن، وبطالب آخر عرفني بنفسه بأنه حسين عبد الله سراج، وهو سعودي الأصل، أردني الجنسية يومئذ ومولود في الطائف.
والسيد غانم أصبح الدكتور محمد عبده غانم، وقضى نحو نصف قرن في تعليم الأجيال مشرفاً على المعارف في عدن، ثم ألف بعد ذلك عدداً من الكتب المهمة خصوصاً في الأدب الشعبي والألحان الموسيقية الفلكلورية، وهو اليوم مُحاضر في جامعة صنعاء.
قال لي الأستاذ غانم: لقد عرفنا وجودك بيننا، من مجلة اللطائف المصرية التي تصدر في القاهرة، ورأينا فيها صورتك وأنك شاعر الشباب، فرأيت باسم العروة الوثقى التي أنا والأخ حسين سراج عضوان فيها، أن أجيء للتعرف عليك ودعوتك إلى التعرف بأعضاء العروة والاجتماع بهم، وأن تلقي – في سهرة من سهراتها التي سنتفق عليها – قصيدة نتعرف بها عليك. وإنني أحمل إليك تحية من صديقك وصديقي علي أحمد باكثير – الطالب يومئذ في كلية الآداب بجامعة الملك فؤاد بالقاهرة – فقد أوصاني بك خيراً، وطلب مني أن أسلمك هذه الرسالة، ونحن هنا إخوانك وسيكون لك بيننا المحبة والتقدير.
وشكرته وشكرت السيد سراج على الزيارة وفوجئت بأن في مجلة اللطائف صورة لي كما ذكر لي ذلك السيد غانم. وسألته أين توجد المجلة، فقال لي في مكتبة الجامعة بين المجلات الأسبوعية التي تجيئنا من مصر وتستطيع أن تطلع عليها هناك.
كيف وصل الخبر إلى الطائف؟!
واطلعت على المجلة ورأيت الصورة وما كتب عليها، وأخذت أفكر كيف وصل هذا الخبر مع الصورة إلى اللطائف المصورة، حتى عرفت بعد ذلك بأسبوع من رسالة بعثها لي صديقي الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود وفيها قصاصة من تلك المجلة تحمل الصورة، وهو يقول لي في رسالته: لقد بعثت صورتك إلى اللطائف بما تراه عسى أن أكون قد قمت ببعض ما يجب.
ورسالة الأستاذ باكثير لي، كانت تعريفاً لصديقه وصديقي بعد ذلك – كما قلت – السيد محمد عبده غانم، وتعريفاً بي له. ويقول لي الأستاذ باكثير: إن السيد غانم أديب وشاعر مرهف، وهو في الصفوف العليا من الجامعة، وإنني قد تعرفت عليه يوم كنت في عدن، وتشاركنا في الحركة الأدبية فيها مع من كان بها من الشعراء والأدباء من آل لقمان، وفي وجوده معك في الجامعة أرجو أن تتآخى به، وأن يعرفك على من بها من الشعراء والأدباء، وهم السرب الذي أعرف أنه سربك.
قال لي السيد غانم: إنني أحمل إليك رسالة أخرى من الدكتور قسطنطين زريق، من الدائرة التاريخية العليا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكنت قد سمعت به حتى وأنا في مكة من بعض ما أتلقط من المطبوعات، وفيها ذكر وإشادة بالدكتور المذكور. قال لي: إن الدكتور زريق قد رأى أن يدعوك وإخوانك الطلاب السعوديين لتناول الشاي في بيته، ليتعرف عليكم وتتعرفوا على أساتذة الأقسام العليا في الجامعة من العرب، وأعطاني الرسالة التي أحتفظ وأعتز بها إلى اليوم – وهي بعيدة عني وأنا أملي هذه الحلقة من ذكرياتي – وإذا بها ترحيب صادق بأول زمرة من طلاب المملكة تجيء إلى الجامعة من الحجاز رأساً. كان ذلك عام 1935م.
أما الأخ حسين وأخوه عبد الحميد سراج فرغم أنهما قد سبقانا إلى الجامعة، إلا أنهما كانا قادمين إليها من الأردن بعد هجرتهما مع والدهما إلى هناك، فكنّا أنا وزملائي إذن أو عدد من الطلاب السعوديين التحقوا بالجامعة، ولم يكن الناس يومئذ يعرفون الكثير عن السعودية وأحوالها، وكانوا يتشوقون إلى أن يجتمعوا بمن يصادفونه منها ويتعرفوا عليه، وكان اليوم والساعة المحددة في دعوة الدكتور قسطنطين زريق واضحين في رسالته، فقلت للسيد غانم في حياء: من الذي سيكون في الاجتماع؟ قال لي: لا أعلم! ولكنني أنا سأكون معكم لأنني سأجيء إليكم وأصحبكم إلى دار الدكتور زريق.
ثم قال لي: إن هذه لفتة كريمة من الرجل الذي يمثل الشباب في العروة الوثقى يخصكم بها محبة وتكريماً لبلادكم. وإنه قد ذكر لي أنكم ربما تكونون في حاجة في أول عهدكم بالانتماء إلى الجامعة إلى عون علمي، ومساعدة في تعريفكم بأجواء الجامعة خصوصاً لك أنت لأنك أكبرهم سنًّا وأديب وشاعر.
حفلة شاي مع أساتذة الجامعة
صحبنا السيد غانم في اليوم المحدد للزيارة، واستصحبت معي يومئذ بعض إخواني وزملائي الذين كنت معهم في البعثة، وهم محمد عبد الله السليمان، ابن وزير المالية يومئذ، وعبد الرحمن بن حمد السليمان ابن وكيل وزارة المالية، واستقبلنا الدكتور زريق في بيته، وفوجئت أنا أن بضعة عشر أستاذاً كان الدكتور قد دعاهم لنتناول الشاي معهم، وعرفنا عليهم بأسمائهم، التي لم أحفظها في ساعة التعريف، لكنني فوجئت بعد ذلك وقد بقيت زمناً في أجواء الجامعة بأنهم من كبار الأساتذة، أتذكر منها بالذات الدكتور جبرائيل جبور وأستاذاً في الاقتصاد اسمه الأستاذ حسني الصواف وغيرهم، وكان الجميع ينظرون إلينا في ود وحنان وتشجيع وترحيب، ويلقي علينا، أو بعبارة أصرح، عليَّ أنا إذ كان زميلاي صغيرين في السن، أسئلة عن الأدب والشعر والأدباء في الحجاز، وكنت قد اطلعت على الجزء الأول من كتب الدكتور "جبرائيل جبور" عن الشاعر الحجازي الشهير عمر بن أبي ربيعة الذي صدر بعد ذلك بسنوات متتالياً في ثلاثة أجزاء عن شعره وعصره ومكانته الأدبية المشهورة، ففرحت بتعرفي عليه وفرح هو بحماستي في الترحيب بكتابه، وكنت قد استعرته في مكة من صديقي محمد سعيد عبد المقصود. وقلت له: إنني قد قرأت الجزء الأول من كتابك، وإن الأدباء في مكة قد أخذوا يتناقلونه، وأنا صادق فيما قلت، وإنهم قد فرحوا به لأنه قد جمع عن الحياة الأدبية في الحجاز في عصر ابن أبي ربيعة ما لم يجمعه كتاب آخر، وأحصى كل شاردة وواردة، ليس عن ابن أبي ربيعة فقط ولكن عن زملائه ومعاصريه من شعراء الحجاز أخصهم العرجي ورفاقه.
وسألت الدكتور جبور في جرأة، متى ستظهر الأجزاء الأخرى للكتاب؟! فابتسم وهو يقول لي: إن شاء الله ستقرأ الجزء الثاني قريباً وهو معد للطبع.
ومضت الساعة التي قضيناها مع تلك النخبة من رجال الجامعة في سرور غمرني، وأنا أشعر بأني قد سعدت بوجودي وتعرفي على هذا الملأ من نخبة الأدب، والمعارف في لبنان.
وانصرفنا مودعين من الجميع بمحبة لا يمكن أن أنساها، لأنها كانت موجهة إلى جزيرة العرب، فقد فرحوا أن يكون بينهم من شبابها من يبدأ مسيرة الألف ميل.
طلبات أدباء مكة:
عندما ودعت رفاقي من مكة ذاهباً إلى بيروت أوصاني محمد سعيد عبد المقصود بأن أتحصل له على الأجزاء المتتالية التي ستصدر من كتاب "ابن أبي ربيعة" للدكتور جبور الذي أشرت إليه، والذي استعرته كما قلت من محمد سعيد وقرأته وفرحت بالاطلاع عليه، أولاً لأنه شفى شعوري بمعرفة ما ذكر عن ابن أبي ربيعة، وثانياً إنني بالمصادفة قد وعيت منه ما وعيت فذكرته لمؤلفه في تلك الجلسة، ففرح الدكتور جبور بدوره على القبول الحسن الذي ذكرته أن أدباء مكة قد تقبلوا به كتابه فرحين مستبشرين.
وطلب مني محمد سعيد العامودي عند توديعي أن أترقب صدور ديوان الشاعر الكبير "بشارة الخوري" الملقب بالأخطل الصغير، وأن أتحصل له على نسخة منه أبعثها إليه في البريد المسجل مع ثمن الكتاب وأجرة البريد ليرسلها إلي تحويلاً إلى الجامعة، فسألت عن ديوان الأخطل الصغير فعلمت أنه لم يطبع بعد، فكتبت بذلك إلى الأستاذ محمد سعيد العامودي أطمئنه بعد إخباره بعدم صدور الديوان، بأنني سأراقبه وأتحصل عليه فور طبعه وأبعثه هدية له إما بالبريد المسجل على حسابي، وإما يكون تقديمه إليه يداً بيد مني عندما أجيء إلى مكة في العطلة المدرسية السنوية.
وفي الأسابيع الأولى من وصولي للجامعة عام 1935 فوجئت كما قلت بما غمرني في حرمها وكلياتها واجتماعاتها من شعور عميق بما رأيت وسمعت.
وكان النشاط الأدبي يومئذ في جمعية العروة الوثقى بالذات وفي جمعيات مماثلة قد أنشئت من طلاب بعض البلدان العربية، فقد كانت هناك جمعية الطلبة السودانيين، وجمعية الطلبة المصريين، وجمعيات مشابهة أخرى.
وكان مسرح "ويست هول" المكان المعروف في لبنان يومئذ بأنه ندوة النخبة في لبنان يحضرون فيه دعوات الجامعة بمشاهير الأدباء والشعراء والعلماء، وكانت تقام تلك الاحتفالات والاجتماعات في تلك القاعة الشهيرة التي تشتمل على أكثر من ثلاثمائة مقعد، وعلى مسرح محترم كنت بين من يحرص على ألا يفوته شيء مما يجرى عليه، وكانت هناك أيضاً قاعة اجتماع أخرى تسمى قاعة الإخاء، وهي خاصة باجتماع الطلبة العرب من أقطارهم المختلفة وأكثرهم يومئذ من لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والعراق، كانوا الكثرة المضافة إلى الطلاب من مصر والسودان.
عبد المنعم الرفاعي بطل المسرحية
في الأسابيع الأولى من وصولي وبداية تعرفي على طلاب الجامعة في أقسامها العالية، كان يملأ أروقة بناية "ويست هول" وممرات الجامعة وألواح الإعلان على بابها إعلان يلفت أنظار الجميع عن حفلة ستقام على مسرح "الوست هول" لرواية تاريخية أسموها "الهادي"، وقد كانت الدعاية لهذه الرواية عامة في كل مكان لفتت إليها الأنظار بعض الصحف، فحضرنا افتتاح تلك الرواية التمثيلية، وأتذكر من أبطالها يومئذ رئيس الوزراء الأردني الشاعر الأديب عبد المنعم الرفاعي رحمه الله، لعله كان بطل الرواية "الهادي" ومعه من أبطالها ممن تعرفت عليهم بعد ذلك وصاحبتهم، ولا تحضرني أسماؤهم.
لا أنسى تلك الليلة ولا بهجة الطلاب والطالبات بشهود تلك المسرحية، وقد قضينا فيها بضع ساعات متوالية لا تفصلها إلا استراحات موسيقية ريثما تغير على المسرح مناظر مجرى الرواية، وأتذكر أيضاً بعد ذلك أن الجامعة قد أخذت على نفسها أن تدعو كل عام عالماً دينيًّا مسلماً، وعالماً مسيحيًّا لبنانيًّا، يقدمهما رئيس الجامعة الأعلى يومئذ الدكتور "بيارد ضودج"، وأتذكر أن العالم المسلم الذي رأيته لأول مرة كان الأستاذ "أحمد المحمصاني"، وأتذكر أننا استمعنا بعد ذلك في السنوات المتوالية على مسرح "الوست هول" إلى عدد كبير من الشعراء والأدباء المشهورين، ومنهم صديقنا خريج الجامعة الأمريكية في بيروت الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله، وكيف ألقى قصيدة رائعة من روائعه المعروفة هزت الطلاب وألهبت حماسهم، وكانت كالعادة وطنية بما بقي الأستاذ أبو ريشة يهز به العرب كلهم خلال الخمسين عاماً الماضية.
"مي زيادة" على مسرح الجامعة
وأتذكر أن العروة الوثقى قد دعت – لعله في عام 1936م – الأديبة العربية الشهيرة الآنسة مي زيادة لإلقاء محاضرة على ذلك المسرح في غرة ربيع ذلك العام، وكانت قد مرت ولا تزال بمحنتها الحزينة التي أطبقت عليها يومئذ في أوائل الثلاثينيات، وتطورت بها حتى أدخلتها مستشفى "العصفورية" للمصابين بالجنون، وكانت الصحف يومئذ في لبنان خاصة وفي سوريا ومصر تتناول هذه المأساة بين الفينة والأخرى، ملقية أضواء باهتة على محنة العبقرية الأديبة فيما يعلمه المتتبعون لهذا الحادث ومن عاصروه وعرفوه، وكنت ممن يتابع ذلك ويتألم له ويحتار.
لن أنسى تلك الليلة التي دعينا فيها من الصحافة للقاء الآنسة مي، لإلقاء محاضرتها على مسرح الوست هول. مئات من الناس توافدوا من كل مكان في لبنان وسوريا والأردن يريدون أن يروا تلك الكاتبة العبقرية، ويسمعوها بعد أن سمعوا بمأساتها وتألموا لها.
تحصلت على بطاقة قبل أن تنفد البطاقات من شباك مسرح الوست هول بأيام، من المسؤول عن البطاقات وأظنه السيد عكاوي، وأقبلت الجماهير إلى الدار فغصت بهم، ثم فتحت أبواب قاعة المسرح وتسابقنا إلى الصفوف الأولى حتى غصت بالجالسين والواقفين، ورفع الستار عن كرسيين منصوبين أمام الجميع، ثم دخلت الآنسة مي متوجهة إلى أحد الكرسيين وأمامهما منصة الخطابة مضاءة النور، فالتهبت أكف الجموع بالتصفيق لها تصفيقاً حادًّا متواصلاً، واستمر أكثر مما تعود الناس في تلك المناسبات، كان التصفيق يصدر من قلوب الناس وشعورهم وإحساسهم، وردت الآنسة على التحية، وقد بدت في فستان أسود جمع شعرها المبعثر وضمه طوق من العاج، وقد بدت ساهمة شاحبة الوجه نحيفة العود تغالب مشاعرها ودموعها، حتى إذا ما انتهى التصفيق جلست وجلس بجانبها معرف المحاضرة الذي وقف مرتجلاً كلمة رائعة يقدم بها أديبة العرب، وفي عاصفة أخرى من التصفيق وقفت بعدها المحتفَى بها، فوضعت أوراق محاضرتها على المنصة المستطيلة وتحت ضوئها، وأمسكت بيديها بأطراف المنصة، ثم بدأت محاضرتها تنساب بها كانسياب نسيم الربيع، بل إنها قد بدأتها بتحية فصل الربيع التي كانت تلك الليلة من أوائل لياليه، ثم انساب كلامها انسياباً فيه من الروعة ومن الاتزان ومن الحضور الكامل ما غمر الجميع بشعور، سالت به دموع العشرات من السيدات والطالبات اللواتي حضرن بكثرة.
واستمرت الآنسة في محاضرتها في وقفة متصلبة عفوية لا تشنج فيها ولا ترفع، وإنما هي العفوية الفواحة في كلماتها ومقاطع محاضرتها التي كان التصفيق يتخللها، حاملاً إلى "مي" عواطف الجمهور المعبر عن عواطف من قرأ لها أو سمع بها من العرب في حياتها الأدبية الوارفة بالمحبة والإبداع.
وانتهت المحاضرة وعلا التصفيق الصاخب من زوايا القاعة، ووقفت الآنسة تودع المحيين الذين لم يمنعهم الوقار التقليدي في "الوست هول" من أن يندفعوا إليها فوق المسرح في صخب لا يليق بمثل تلك المحافل، وفتحت الأبواب وتدفق الناس منها يتلمسون أن يروا الآنسة خارجة من وراء الكواليس، ولكنها كانت مع من يحف بها من الأساتذة قد استراحت في غرفة مجاورة ريثما يخف المتجمعون، وينصرف المنصرفون.
ما أنسى تلك الليلة، وإني لأحتفظ بمحاضرتها في تلك الليلة مطبوعة في كتيب أصدرته العروة الوثقى بعد ذلك لهذه المناسبة وتحية لـ "مي".
وبمناسبة الكلام عن الآنسة مي فإنها في أوائل الثلاثينيات وقبل محنتها قد حضرت إحدى حفلات التخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت، كما أُخبرت به، إذ لم أكن يومئذ هناك، وكان شاعر حفل التخرج التقليدي، والذي يدعى أحد عباقرة الأدب والشعر إلى شهوده وإلقاء كلمة أو قصيدة فيه، الدكتور الخطيب الشاعر النابغة "نقولا فياض"، صاحب الديوان المعروف بعد ذلك باسمه. فلما أخبر عند دعوته لإلقاء قصيدة في ذلك الموسم من تخرج الطلاب، وأن الآنسة مي ستكون بين من سيحضر ذلك المهرجان التقليدي السنوي في الجامعة، أنشأ قصيدته الرائعة التي حيا بها المتخرجين، واستهلها بتحية خاصة لأديبة العرب "مي زيادة"، فرفع عقيرته بمستهلها وهو يقول بصوته الجهوري المجلجل مخاطباً الجمع كله وخاصًّا بها أديبة العرب:
يا مي هذي ساعة الميعاد
فسلي فؤادك عن خفوق فؤادي
اشتهرت القصيدة هذه واهتز لها من سمعها يومئذ أو قرأها في الصحف، وبثت عبيراً فواحاً يترنح به طلاب الجامعة الأمريكية، وقد استمعت بعد التحاقي بها إلى هذه القصيدة وتحصلت عليها قبل أن تظهر في ديوان شاعرها المطبوع، وطالما ترنمت بهذا البيت حتى جاءت محاضرة الآنسة مي الآنفة الذكر، فكنت أتعجل ميعادها وأنا أردد هذا البيت الذي تهتز له مشاعري.
ونعود إلى مسرح الـ "وست هول" ومن استمعت إلى من ألقى فيه محاضرة أو قصيدة، فأذكر أحمد سليمان الأحمد المعروف بـ "بدوي الجبل"، إنه قد ألقى فيه قصيدة رائعة من روائعه المشهورة، وأتذكر أني سمعت ورأيت لأول مرة سعيد عقل يلقي محاضرة بدعوة من العروة الوثقى على ذلك المسرح، وكنت قد سمعت عنه، وقرأت، وعرفت موقفه من محاربة اللغة العربية، فحرصت على أن لا تفوتني محاضرته المشار إليها، وكان معي الصديق الكاتب عبد العزيز ضياء، فكنا في المقاعد الأولى ليلة تلك المحاضرة، وكان عنوانها "الكلمة" وطبعاً لم نكن نعلم من أي زاوية من زوايا الكلمة سيتناولها سعيد عقل، فتلكم بعد أن جلس في عاصفة من تصفيق المراهقين والمراهقات، وبدأ كلاماً طويلاً أنهاه بجملة لا أزال مع الأستاذ عزيز ضياء نتذكرها، فقد كانت مبهمة مغلقة تحتاج إلى ترجمان وهي قوله: (وأصبح الناس فإذا على شاطئ البحر خنجر مكسور)، وقد يقول القارئ، لا بد أن هذه الجملة مفهومة من سياق المحاضرة وتسلسلها، ولكن الأستاذ عزيز قد كاد أن يخرج من ثيابه عندما دوت القاعة بالتصفيق، فسألته عن ما أهاجه فقال لي في حدته المعروفة: (أنا لم أفهم شيئاً!)، وقمنا من بين الجماهير منصرفين.
من الشعراء الذين استمعت إليهم على ذلك المسرح، عبر السنين الخمس التي بقيت فيها بالجامعة، الصديق الشاعر عبد المنعم الرفاعي. فبجانب تمثيله في رواية "الهادي" دور البطل وهو ما أشرت إليه، فقد كان يلقي بعض قصائده من على ذلك المسرح، ونشأت المعرفة معه ومع الأستاذ الشاعر عيسى العيسى، وقد أشرت إليه أيضاً، ومع الشاعر الأستاذ "رشدي المعلوف". وسمعت أيضاً صديقنا المرحوم الأستاذ "أحمد الصافي النجفي" وهو يلقي إحدى قصائده عن "بعلبك" في ليلة من الليالي، فكان هذا اللقاء مقدمة للقاءات أخرى ومعرفة وصداقة استمرت حتى موته رحمه الله.
وبين من سمعتهم يلقون الشعر أيضاً صديقي المشار إليه قبل هذا الدكتور محمد عبده غانم، فقد ربح مسابقة شعرية من قِبل العروة الوثقى في قصيدته "بنت الراقصة"، فربحت قصيدته قصب السبق وقد أودعها أحد دواوينه، أتذكر مساء إلقائها والتفافنا حوله بعد إلقائها، وتهنئتنا له على ما فاز به من إعجاب الجمهور بتلك الرائعة.
أتذكر، وأنا بصدد الكلام عن الحركة الأدبية في الجامعة يومئذ وعما ألقى الأدباء والشعراء من العالم العربي على ذلك المسرح، إني عندما دخلت في تلك الأجواء بين عامي 1935، 1940م، كانت فواحة بمن سبقنا من طلاب الجامع وترك فيها عبقاً جميلاً، مما بقي يتحدث عنه الطلاب يومئذ والأدباء فيما بعد ذلك إلى الآن.
كان الشاعر الفلسطيني المشهور "إبراهيم طوقان" شقيق الشاعرة "فَدْوَى طوقان" بين الطلاب الأوائل في الجامعة وتخرج منها، وهو أكثر من ترك فيها، يومئذ وقبل أن التحق بها، عبقاً فواحاً من الطرف والمُلَح في شعره ونثره، وفي مسامراته مع زملائه وأصدقائه، فقد كانت له القصيدة المشهورة "يا تين يا توت يا تفاح يا عنب" وهي قصيدة أسباب "تأليفها" كانت معروفة، يتداولها زملاؤه ومن جاء بعدهم فسمعت بها وتحصلت عليها، وقد كانت على أفواه الطلاب والظرفاء، وكان واحداً ممن يذكر مع الدكتور نقولا فياض فيما أشرت إلى قصيدته قبل ذلك، وكان من الشعراء أيضاً الأستاذ الأخطل الصغير بشارة الخوري، الذي كان يدعى لإلقاء بعض قصائده، وحضرت أنا أيضاً ليلة دُعيَ إليها شاعر وكاتب عراقي اشتهر يومئذ اسمه أحمد حامد الصراف، فألقى قصيدة يتذكرها المتذكرون، ومسرح الوست هول قد شرف أيضاً في يوم من الأيام البعيدة، بمثل الكاتب العربي الشهير الرحالة أمين الريحاني، بلغني أنه ألقى محاضرات كثيرة في بعض جامعات إنجلترا وأمريكا، بعد قيامه برحلته المشهورة إلى جزيرة العرب وتأليفه كتابه المشهور عنها "ملوك العرب". وقد أُعيد وأُكرر اسم الشاعر العربي الكبير الأستاذ عمر أبو ريشة فكان كما أشرت إلى ذلك يهز العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه بروائعه الشعرية العظيمة، وهي التي كانت على ألسنة الطلاب والطالبات والجماهير العربية في كل مكان عبر الخمسين عاماً المنصرمة. وكانت الليالي التي يحييها الأستاذ أبو ريشة في الجامعة الأمريكية في بيروت إبان تلمذته فيها وبعد تخرجه منها، مواسم من مواسم وأسواق الأدب، تشحن الجيل بشحنة قومية وطنية ملتهبة تبقى على كل فم ولسان، وهو إلى اليوم كما كان منذ خمسين عاماً، سيد المجالس وملهب حماس الجماهير، يتدفق بوطنية زاخرة تستولي على مشاعر المستمعين، وكان بدوي الجبل -وقد أشرت إليه- من هذا الطراز العالي الرفيع الذين لن تنساهم أمتهم العربية، وإن كانت الأجيال الحاضرة لا تقدر لهم قدرهم العظيم في القيادة والريادة.
قصائد "ملهبة"
ومن الشعراء الذين ترسبت على أفواه الطلاب بعض من قصائدهم في تلك المدة الشاعر الوطني الفلسطيني المبدع عبد الكريم الكرمي الملقب بأبي سلمى، وهو شقيق الأستاذ حسن الكرمي صاحب برامج "قول على قول" في الإذاعة البريطانية، وهما ابنا الأستاذ الرائد الكبير سعيد الكرمي، الذي هاجر من فلسطين إلى دمشق وأقام بها وشارك في صحافتها وأنشأ إحدى الصحف فيها، فقد شبا وشابا على ما شب وشاب عليه والدهما الأستاذ سعيد، فلأبي سلمى تلك القصيدة التي نشير إليها، والتي كانت على ألسنة الطلاب والطالبات في أواسط الثلاثينيات والتي يستهلها بقوله:
أنشر على لهب القصيد
شكوى العبيد إلى العبيد
وهي قصيدة ذات شواظ من نار تصلي المسؤولين عن كارثة فلسطين بلهبها ونيران أنفاسها، وكان في ذلك العام الذي أنشأ الشاعر فيه قصيدته تلك زواج الملك فاروق بالملكة فريدة، والتي خرجت الصحافة المصرية كعادتها في الأحداث الخاصة بها وهي طافحة بالأناشيد والقصائد والمقالات التي غصت بها وطفحت منها على الصحف المجاورة، فأصبح لا حديث للناس إلا ما قيل من تمجيد وتهليل وتكبير لزواج الفاروق بالملكة فريدة، فأشار إلى ما أشغل العرب كلهم من هذا الحدث بقوله:
يا مصر ضيعت المنى
بين "الفريدة" و"الفريد"
والقصيدة طويلة فقد تغنى بها الطلاب، وبقيت على ألسنتهم عشرات السنين، ولا يزال أكثرهم ممن لا يزال حياً يتذكرها ويحفظ أبياتها.
ومما أهاج شجون الطلاب يومئذ في عام 1938م، أن زار الأمير سعود ولي عهد السعودية الأردن، وذهب للزيارة والصلاة في المسجد الأقصى، فقام شاعر فلسطيني شاب هو الأستاذ عبد الرحيم محمود بإلقاء قصيدة وتحية بين يديه يقول فيها:
"المسجد الأقصى" أجئت تزوره
أم جئت من قبل الوداع تودعه
وكان هذا البيت بيت القصيد في تلك القصيدة، فحفظه الناس يومئذ، ووصلت القصيدة إلى الجامعة الأمريكية يرويها الشباب الفلسطيني وأخصهم صديقيّ الحميمين الدكتور أحمد كمال وشقيقه الدكتور علي كمال، وعنهما رويت هذا البيت ومنهما سمعته وحفظته، ومنذ ذلك الحين إلى هذا العام 1985م لم أعلم أن الشاعر الذي استشهد في الميدان برصاصة صهيونية وانتقل إلى رحمة الله شهيداً بارًّا ببلاده مضحيّاً بحياته، أنه أخ من الرضاع لهذين الدكتورين الشقيقين إلا من مقال أخير في إحدى الصحف، كتبه الصديق الدكتور علي كمال الطبيب الكبير اليوم في مستشفيات بغداد، طبيب الأمراض العصبية والعقلية وزميلي في بيروت، ذكر فيه – وقد جاء ذكر الشاعر الشهيد – أن بينهما رضاعاً وأخوة من هذا القبيل، وعندما روى لي البيت وحفظته عنه وعن أخيه الدكتور أحمد قبل ذلك لم يخبرني بصلة النسب هذه وهي صلة تشرف الجميع.
هذه طرف ومُلح تداعت من ذهني مبعثرة تصور كيف كانت أجواء الجامعة الأمريكية، في عصر الثلاثينيات حتى الأربعينيات من هذا القرن، تلعب فيها الحركة الأدبية وجمعياتها والمنتمون إليها من شتى الأقطار العربية دوراً هامّاً في إخاء الشباب وتوثيق عرى المودة والقربى بينهم.
وقد أضيف إليهم الآن مَن تذكرته وهو الشاعر الأديب رئيس مجلس الوزراء السوداني الأسبق محمد أحمد محجوب، وفخامة الرئيس السوداني إسماعيل الأزهري، والأديب القومي العراقي سعدي خليل الذي كان يشغل منصب رئيس الجمعية العراقية مع عضويته في العروة الوثقى أطال الله حياته، فقد تباعدت بنا الأيام منذ ذلك الحين إلى اليوم غير لقاء خاطف معه يوم كنت منذ عشرين عاماً تقريباً في واشنطن، فلقيته مستشاراً ثقافياً بالسفارة العراقية بها يومئذ، ثم بلغني الآن أنه في بغداد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :880  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج