شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخبر المفجع!
وقمت من بين من كنت معهم على مائدة الإفطار، لأعود إلى غرفة نومنا وآخذ معي آلة التصوير من حقيبتي، وسألني من بجواري إلى أين ونحن متأهبون للخروج؟ وقلت لهم: لا بد من أن آخذ آلة التصوير وسأعود بعد دقائق، وخرجت من الغرفة مهرولاً لأصعد في السلم على الطابق الأول الذي كنا فيه، وكانت المفاجأة الحبيبة لي عندما ألقيت نظرة على الرواق الممتد في تلك المدرسة، فإذا بصديق العمر زميلي في مدرسة الفلاح وابن حارتي في الشبيكة والهجلة بمكة المكرمة وابن صديق والدي السيد علي حسن فدعق مقبلاً من أقصى الرواق، فقد علم في صباح ذلك اليوم أنني بين أعضاء تلك البعثة، فأقبل إلي يحبو، وبدلاً من أن يكون متهلل الأسارير ماداً ذراعيه لي ليحضن كل منا الآخر، إذا بي أراه متجهم الأسارير دامع العين. فلم أكد أقترب منه حتى سألني: إلى أين؟ فقلت له: لآخذ آلة التصوير واللحاق بالبعثة قبل أن يتحركوا إلى البلاط الملكي وزيارة الملك غازي والسلام عليه، فصاح بي في صوت جهوري مفاجىء، شلَّ أعصابي وهو يقول لي: لقد قتل الملك غازي منتصف ليلة البارحة، فوقفت واجماً بضع ثوان، ثم قلت له: من أين لك هذا الخبر ونحن الآن متهيئون للذهاب للبلاط ومعنا الدكتور فاضل الجمالي الذي جاء قبيل ساعة ليصحبنا إلى بلاط الملك؟ فقال: هذا الخبر صحيح، وقد أخبرني به منذ دقائق زميل من زملائي في كلية الحقوق جاءني مبكراً من بيته وهو يبكي ويقول لي: إن والده – وكان وزيراً للداخلية ولا أتذكر اسمه – قد بات البارحة خارج منزلهم، وأنه عندما عاد إلى البيت كان يبكي وأخبر أهله بأن الملك غازي قد قتل، وعلمت الزوجة وعلم الأولاد، ورأى ذلك الزميل أن يسارع بذلك الخبر إلى صديقه وزميله السيد علي فدعق، الذي كان يومئذ طالب علم في كلية الكاظمية قبل أن يلتحق بعدها بكلية الحقوق العراقية والتي تخرج منها.
قلت للأستاذ الفدعق، أنا لا أستطيع أن أصدق ما أسمع ولا أستطيع أن أعود الآن إلى أفراد بعثتي وأخبرهم بمثل هذا الخبر وأتحمل مسؤولية إشاعته ونقله، فقد يكون مبالغاً فيه أو يكون متسرعاً في فهم غير صحيح من زميلك الذي نقل إليك الخبر، فقال لي بعد أن جذبني من يدي إلى باب مدخل المدرسة: انظر إلى علم المفوضية الألمانية وهو مخنوقاً على ساريته، فقد بلغها الخبر، وأعلنت حدادها برفع العلم مخنوقاً على ما ترى. قلت له في سرعة ونحن نلتقط أنفاسنا: ربما يكون زعيم من زعماء ألمانيا قد توفي، فقال لي مؤكداً بإصرار بأن ما جاء به صحيح، فنفضت يدي من يده وعدت في الحال إلى غرفة طعام الإفطار المكتظة بجميع أعضاء البعثة، وفي صدرها بين رؤسائها الدكتور محمد فاضل الجمالي، والبهجة تغمر القاعة وتشرق من أسارير الأساتذة والطلاب تهيؤاً وسروراً بأننا بعد نصف ساعة سنكون في البلاط الملكي بقصر الزهور وسيلتقي هناك بجلالة الملك غازي.
رجعت واجماً إلى الكرسي الذي كنت أجلس فيه بين رفاقي، فسألني أحدهم: أين آلة التصوير؟ وقبل أن أجيبه بأنني لم أجدها في حقيبتي لعذر طارئ، قال لي: ما لك ما الذي حصل؟ إنك متجهم الأسارير. قلت له: لا شيء! فيظهر أني قد فقدت آلة التصوير فقال لي: بسيطة! سأعطيك بعض الصور التي سألتقطها للذكرى، فقلت له: وهو كذلك. وأخذت أتفرس في وجه الدكتور الجمالي غير بعيد منه فوجدته في قمة غبطته وسروره بلقاء زملائه من الأساتذة، وقد صممت على ألا يبدر مني أي شيء فيه رائحة ذلك الخبر الذي سمعته من صديق الأستاذ فدعق. وبعد دقائق تحركت الكراسي تحت من كانوا جالسين عليها في صخبة صاخبة، وقال الدكتور الجمالي: تفضلوا أيها الإخوان واسبقونا إلى السيارات فنحن الآن في طريقنا لبدء برنامج هذا اليوم.
وقام الجميع وكنت بينهم وانسبنا في البهو المؤدي إلى حديقة المدرسة، وكانت السيارات الثلاثة للبعثة وسيارة كبيرة أخرى من الحكومة العراقية لمن سيصاحبوننا من العراقيين تحف بها مجموعة من البوليس راكبي الدراجات، وأمامها سيارة صغيرة فيها مكبر للصوت وبها ضابط كبير ليقود الموكب إلى البلاط الملكي.
وطلعنا إلى السيارات كل إلى السيارة التي كان فيها، وكنا قد اختلطنا بعد وصولنا بغداد، فلم يبق تمييز بين حافلات الطلاب والطالبات، فجلست بين زملائي في السيارة المتوسطة، وأنا أحمل هماً كبيراً لهذا السر الذي اطلعت عليه منذ هنيهة ولم أر أية بادرة من حولنا ولا في الشارع، ولا من المرافقين من رجال الشرطة والبوليس، يدل على أن ما سمعت قد حدث. وكنت عند خروجي من المدرسة قد مددت بصري مرة أخرى إلى سارية العلم الألماني المنكس على مفوضيته، وكنت حريصاً حرصاً كاملاً على أن لا يسمع هذا الخبر أحد مني نظراً لخطورته وتخلصاً من مسؤولية إشاعته، سواء أكان صحيحاً أم غير صحيح، إذ إن الدكتور فاضل الجمالي كما قلت هو المسؤول معنا، ولا يمكن مطلقاً أن لا يعلم أو أن لا يصله الخبر ونحن قد ركبنا السيارات، وكان من حولي من أصحابي الذين رأوني واجماً منذ عودتي إلى قاعة الطعام وأثناء خروجي من المدرسة إلى السيارات، وخلال الدقائق التي جلسنا فيها على مقاعدنا يلمحون أنني غير طبيعي. ولكني كنت كما قلت مهيئاً نفسي لكتم هذا السر، وأن أكون في رصانة طبيعية، عندما انفجر فجأة الخبر الحقيقي على أسماع جميع من كان في السيارة، وأولهم الدكتور فاضل الجمالي.
لقد ضقت ذرعاً بهذا السر الخطير الذي أطلعني عليه زميل الصبا السيد علي فدعق الذي كان يومئذ طالباً في كليات بغداد، والتقيت به في صباح ذلك اليوم فأخبرني بما سمع، فكبر عليّ كتمان السر هذا عن من معي في البعثة، ولكني أبيت البوح به لخطورته ولئلا يصدر مني بالذات، فأنا طالب سعودي في الجامعة الأمريكية في بيروت ضيف من ضيوف الملك نفسه في بغداد ومن حقي أن يُسمع هذا الخبر من غيري، وأن يسمع به قبلي رجال الحكومة العراقية المرافقون لبعثتنا وعلى رأسهم كما قلت آنفاً الدكتور الجمالي، وقلت: إن شيئاً من هذا لم يحصل مني إلى أن جلسنا في السيارات وبدأ الموكب في التحرك إلى البلاط الملكي للسلام على الملك، أتذكر أصوات الدراجات النارية التي يركبها البوليس المرافق لسياراتنا كيف ضجت وكيف تهيأت للانسياب مبتدئة الموكب وأنا أقول في نفسي: ما هذا؟ بعد بضع دقائق سنكون في البلاط الملكي، وأين خبرك يا صديقي فدعق وأنا أحمله كما يحمل الإنسان القنبلة المتفجرة بين يديه، وأتطلع من نوافذ السيارة إلى ما حولي في الشارع الممتلىء بالناس، ذاهبين وآيبين، ثم إلى الدكتور فاضل الجمالي وهو واقف أمام باب السيارة الأولى يتولى الاطمئنان، على أن كل من في البعثة قد ركب السيارة بما فيها أساتذتنا رؤساء تلك البعثة، إذ أقبل ضابط عسكري على دراجة نارية ضخمة لا أزال أتذكر خوذته العسكرية الفيصلية، وترجل أمام الموكب، ثم توجه إلى الدكتور الجمالي الذي رآه مشرفاً على ركوب السيارة للانطلاق بالموكب نفسه إلى البلاط الملكي، ولقد ركزت أنظاري كلها على ما سيفعل ذلك الضابط، فقد شعرت أنه يحمل ذلك الخبر الذي حملته أنا وضقت بكتمة ذرعاً، ومرت ثوان والضابط بعد أن أدى التحية للدكتور الجمالي يهمس في أذنه، عندها تعالى صوت الدكتور الجمالي في صيحة عفوية لا أزال أتذكر منظره أمامي وأنا مطل من نافذة سيارتي عليه وهو يرفع ذراعيه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! – قالها ثلاثاً، ثم توجه بخطابه إلى أساتذتنا الدكتور شارك مالك، والدكتور قسطنطين زريق والأستاذ أنيس المقدسي ومن معهم من الأساتذة الآخرين يقول لهم: تفضلوا.. تفضلوا، تفضلوا بالنزول من السيارة فعندي ما سأخبركم به.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2191  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج