شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفلاح في غرب أفريقيا
- كان زميلي وصديقي في مدرسة الفلاح بمكة المكرمة الحاج محمود باه عمر باه، وكنَّا ندرس معاً في الحرم المكي، وأذكر أنه جاء من بلاده موريتانيا مشياً على قدميه إلى مكة المكرمة طلباً للعلم، بعد أن تعلم القرآن الكريم وحفظه وعمره عشرون عاماً، على شيخه الشيخ عمر داود جاه، في قرية تسمى ويدو بوسيابي، في إقليم ومقا بالسنغال، وتلقى هناك مبادئ علوم الفقه عليه، وبعد ذلك على شيخه عالم القراءات الشهير الشيخ عبد الرحمن التركزي.
قضى عامين في طريقه إلى مكة، ووصلها عام 1931م وعمره 23 عاماً، وفي مكة المكرمة احتضنه الشيخ علوي بن عباس المالكي، وأدخله المدرسة الصولتية، ثم مدرسة الفلاح، وأسكنه (الخلوة) التي كانت للسيد عباس المالكي، ثم لابنه علوي بن عباس المالكي، في رباط باب الدِّريبة بجوار الحرم، وفي حلقات التدريس بالحرم، وفي تلك الخلوة، تزاملنا معه، وطلبنا العلم معاً نحو عشر سنوات متوالية على السيد علوي المالكي.
وفي عام 1941م 1361هـ حصل على شهادة التخرج من الفلاح، وسافر على قدميه عائداً إلى موريتانيا وهي بلاده، حيث استقبل من أهالي قريته (جاوول) استقبالاً حافلاً، وهناك أنشأ أول مدرسة فلاح في غرب أفريقيا، ثم واصل إنشاء مدارس فلاح أُخر في المناطق والبلاد المجاورة، فتوجه إلى (داكار) عام 1945م وأقام أول مدرسة عربية في مدينة (كيرديفونس)، ثم توجه عام 1947م إلى مدينة (خاي) في (مالي)، وافتتح بها مدرسة كبيرة، استفاد منها طلاب مالي والبلاد المجاورة لها، وهي بلاد السنغال وموريتانيا وغينيا، وكل أنحاء غرب أفريقيا، وأطراف الصحراء الغربية، وواحاتها المتناثرة في بلاد السوس، وواصل الشيخ محمود في جميع تلك الديار رسالته العظيمة، وافتتح في عام 1957م – 1377هـ مدرسة في جمهورية غينيا، ثم توجه إلى الكاميرون وليبيريا عام 1959م، وأنشأ فيها أربع مدارس، في أربع مدن مختلفة من أصقاعها، وفي عام 1962م عاد إلى موريتانيا ليواصل رسالته العظيمة من هناك، وفي عام 1974م أرسلته بلاده إلى جمهورية الجابون للمساهمة في تعليم اللغة العربية، وهناك قام بافتتاح بضع مدارس أُخر، وزار الحاج محمود الحجاز مع وفد من أسرة مدارس الفلاح هناك، طالباً المساعدة والدعم بالمال والكتب من حكومة المملكة العربية السعودية، وكنت في ذلك الحين نائب رئيس ديوان الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله، ولا زلت أذكر لحظة لقائي به بعد فراقنا ثلاثين عاماً، فقد كنت في مكتبي بالديوان الملكي عندما قالوا لي: إن وفداً موريتانيّاً يطلب مقابلتي، فسمحت له ودخل الوفد يتقدمهم الحاج محمود، فلم أعرفه لأنني أذكره شاباً نحيلاً، وأراه أمامي وقد تقدم به العمر، وزاد طولاً وعرضاً، ولكنه عرفني منذ أول وهلة، فرفع عقيرته ببيت شعر لي كان يردده أيام الدراسة والزمالة معي في الفلاح، وفي حلقات الدرس في الحرم، فعرفته على الفور، وتأكدت من ذلك من وجهه، لأن إحدى عينيه كانت "كريمة" فرددت عليه بقول كان قاله لنا في مناسبة طريفة، وأخذته "الشلَّة" عليه الزاملة لنا وله في "الخلوة" ولا مجال لذكره – وقد أذكره في أحاديث من ذكرياتي المقبلة لطرافته وظرفه.
وكان لقاؤنا مؤثراً بعد ثلاثين عاماً من الفراق، وجلسنا نتذكر أيام الدراسة بالحرم المكي، وفي الفلاح وفي الخلوة، واندفع يسألني عن الرفاق والإخوان والزملاء والأصدقاء، عن حال كل واحد منهم، وماذا فعلت به الدنيا؟!
وقدمته بعد ذلك للملك سعود رحمه الله فعرض طلباته، فاستجاب لها الملك بأريحية وكرم لم يتوقعه الحاج محمود. حتى إنه كان يتوقع أن يعود ببضع مئات من الكتب، فوجد نفسه يرجع إلى بلاده بحمولة كبيرة، شحنت في صناديق تزن أطناناً من الكتب، عن طريق البحر من جدّة إلى السنغال والدار البيضاء، ولقد أفاد الله بهذه الكتب والمصاحف في دعم المدارس الفلاحية التي أقامها الحاج محمود في غرب أفريقيا، وشجعته على بناء المزيد منها بعد توفر المال والكتب، وبهذا الفيض من العون أسس مدارس أُخَر.
والتقيت به مراراً بعدها، وأكثر من مرة لقيته في بيروت، وكان الحاج محمود، كثير السفر والحركة، لخدمة رسالته ونشر دعوته في بلاد المغرب الأقصى، وبذل جهوداً كبيرة لابتعاث خريجي مدارسه تلك بعد ذلك إلى المعاهد والجامعات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي، لمواصلة تعليمهم، وخاصة إلى الأزهر الشريف، وإلى معاهد مكة المكرمة، وكان أصعب ما في ذلك ممانعة الاستعمار الفرنسي – الذي كان يحتل بلاد غرب أفريقيا يومئذ لذلك – ورَفْضه منح التسجيلات وجوازات السفر، الأمر الذي اضطره إلى تهريب تلاميذه بطرق شتَّى، ليوصلهم إلى الأزهر الشريف، وإلى الحرمين الشريفين، وكانت له ولطلابه حكايات لا تصدق في المغامرة، بتخطي حدود الأقطار المغربية نحو الشرق، إذ كانوا يتخفون ويهربون من مراكز الحدود الفرنسية سيراً على الأقدام أشهراً طويلة، بدون زاد ولا ماء، وهم فتيان صغار يقودهم أساتذتهم، ويعاونونهم في الفيافي والقفار، إلى مصر والسودان وتشاد وليبيا.
وفي عام 1978م – 1398هـ انتقل الحاج محمود (باه عمر باه) إلى رحمة الله، بعد أن أنشأ تسعة وتسعين مسجداً، وسبعاً وسبعين مدرسة عربية في معظم دول غرب أفريقيا، تديرها هيئة مركزية في موريتانيا، اسمها الهيئة الفلاحية لمحاربة الجهل ومحو الأمية، وأهدافها المعلنة هي: نشر الدعوة الإسلامية في الأقطار الأفريقية، وتعليم الناس مبادئ الدين الحنيف، وتعليم أبناء المسلمين القرآن الكريم، وتدريس السنة المحمدية، ونشر اللغة العربية (لغة القرآن الكريم) في غرب أفريقيا.
غفر الله تعالى له، وأحسن ثوابه على جهاده الطويل العظيم لنشر الإسلام واللغة العربية في أفريقيا، فقد كان زعيماً مصلحاً، وداعياً إسلاميّاً نادر المثال بين دعاة الإسلام والمسلمين، ولقد كتبت عنه ذكريات عجيبة، ذكرت فيها صلابة عقيدته الإسلامية، وكفاحه وجهاده وشجاعته النادرة في مقارعة الاستعمار وحربه، ومنازلته الفرق الضلالية التي تقوم باسم الإسلام، بما لا يقره الإسلام ولا يرضاه، وله في ذلك المذهل والمعجب، كان له صفات الدعاة من رعيل المسلمين الأوائل، مُشِعَّة في عزمه وحزمه، وفي دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد جرى على سننه (ابنه الذي كان يزورني بعد وفاة والده كلما قدم من غرب أفريقيا إلى الحجاز، فيطلعني على مواصلته اقتفاء أثر والده في رعايته مدارس الفلاح)، على شواطئ المحيط الأطلسي، وعلى صلاته الوثيقة برابطة العالم الإسلامي في مكة، وبالأزهر الشريف بمصر، ويطمئنني بأن نتائج مساعي والده قد أينعت وقطفت ثمارها، وأن المنتسبين إلى مدارس الفلاح أصبحوا ألوفاً، وهنا نعود مرة أخرى بل ومرات مكررة إلى ذكر الشيخ الموفق للخير محمد علي زينل رضا، وأن كل ما أسهبت في ذكره وبيانه وتبيانه في ذكرياتي هذه هو من بركة بيئته الصافية يوم أشعل بمكة ذلك المشعل المتواضع الذي سماه مدرسة الفلاح، فانتشر نورها وضياؤها المتواضع أيضاً في مشارق الأرض ومغاربها، فللفلاح منتسبون ومتخرجون ومريدون آخرون في بلاد أندونيسيا وماليزيا والفلبين والحبشة والصومال وزنجبار وجزر القمر، وهكذا تكون النية الحسنة مبعثاً لهذا الضياء الساطع من العلم والمعرفة، يشرق ضياؤها من مكة على تلك الأقطار والأمصار، في مغارب الشرق ومشارقه وعليه تقوم تهيئة العالم الإسلامي الزاخرة اليوم.
يسعدني أن أحكي للأجيال الشابة قصة كفاح الحاج محمد على زينل، هذا الرجل العظيم، من أجل نشر نور العلم والمعرفة بين أبناء بلاده، ثم أبناء العالم الإسلامي كله، في وقت كانت فيه الأمية والجهل طاغيين على العالم الإسلامي بأسره في القرون المظلمة الأخيرة، بعد القرون المضيئة المشرقة قبل ذلك للمسلمين.
وقبل أن أتحدث عن هذه الشخصية العظيمة، دعني أتحدث عن الظروف التي أحاطت بعالمنا المسلم في ذلك الحين.
لقد كانت أرض الحجاز في القرن الهجري المنصرم، وأواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن الميلادي الحالي، مجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية، التي تردَّتْ أحوالها حتى سميت بالرجل المريض، وزاد الطين بلة اشتعال الحرب العالمية الأولى، وما ترتب على هذه الحرب من مزيد من الضعف للدولة العثمانية، ومزيد من المحن والجهل والخرافات والفقر في الولايات التابعة لها ومنها الحجاز، حتى انهارت الأمبراطورية العثمانية تحت ضربات القوى المعادية.
وكان الاستعمار الأوروبي والإنجليزي والفرنسي بالذات نشطاً في ذلك الحين، ومعه الاستعمار الإيطالي والهولندي في محاربة الإسلام والمسلمين، ومحاصرة أبناء العرب وأبناء الإسلام بالجهل والتناحر والخرافات والتفكيك، حتى لا تقوم لهم قائمة، ويظلوا أبد الدهر تحت ضربات الاستعمار، وسيطرته وإداراته.. ومطامعه وبطشه تمهيداً لانهيار الدولة العثمانية، ثم الاستيلاء على أجزائها ومحو الاستقلال والحرية عنها.
وفي مدينة جدة، الميناء البحري العريق ومدخل مكة المكرمة، والمدينة المنورة لحجاج البحر، وملتقى القوافل التجارية، ومنطلقها إلى باقي الحجاز... ثم إلى ما وراءها من الشمال والغرب والشرق. في هذه المدينة ولد الحاج محمد علي زينل رضا الحجازي مولداً ونشأة وتربية ومستقراً عام 1301هـ - 1884م.
وكانت أسرته من الأسر التجارية الغنية المعروفة، والتي تمتد أعمالها ونشاطها التجاري بين الحجاز والهند وباريس ولندن وموانئ الخليج العربي.
ولم يكن بين أفراد أسرته رجل من رجال العلم والتربية، ولكن الله وهبه البصر والبصيرة وعزيمة المصلحين، فرأى وأحس بما حوله من معاناة، وأمية، وجهل، وأدرك بثاقب نظره أن حال الأمة، وحال مهد الرسالة السماوية لن يصلح إلا برجال وعلماء يحملون مشاعل النور. وينطلقون بها من أرض القداسات في مكة إلى شتى بقاع العالم الإسلامي، لينيروا بها الطريق للأجيال المقبلة في كل مكان.
وفي ذلك الحين لم يكن هناك مدارس ومعاهد نظامية، اللهم إلا إذا استثنينا المدرسة "الصولتية" بمكة المكرمة، ولذا فقد قرر أن يضع اللبنة الأولى، في مسقط رأسه مدينة جدة، فأنشأ بها أول مدرسة فلاح كما سبق وذكرنا في الحلقتين السابقتين عام 1323هـ - 1903م، ومن ثم استعان بالله في ذلك، ثم بأهل الخير والإصلاح في جدة، من أمثال الشيخ عبد الرؤوف جمجوم وأخيه الشيخ صالح جمجوم، وعلماء أجلاء ومربين أفاضل من أمثال الشيخ محمد حسين مطر مدير مدرسة فلاح جدة فيما بعد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1027  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.