شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > عبد الله بلخير يتذكر > عبد الله بلخير يتذكر > حركة التعليم في "نجد" قلب الجزيرة العربية بدأت أوائل القرن الهجري الحالي
 
حركة التعليم في "نجد" قلب الجزيرة بدأت أوائل القرن الهجري الحالي
لقد قامت الدعوة السلفية التي تمخضت بها جزيرة العرب، ثم انبثقت منها في نجد، وبالذات في مدينة الدرعية أولاً في فجر انبثاقها في عام 1158هـ، الموافق 1745م، عندما التقى في مدينة الدرعية الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب.
فقد كانت نجد في تلك السنوات شبه مقطوعة عن التأثيرات العلمية، التي كان من الممكن أن تصل إليها من الأقطار العربية المجاورة والأقطار الإسلامية المتباعدة، مع أن الحركات العلمية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي، وفي أطراف الجزيرة العربية بصفة خاصة في تلك الأيام، كانت متواضعة وبسيطة، وكانت تتفاوت في قوتها وفي ضعفها بين قطر عربي وقطر عربي آخر.
وقد اضطر الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الانتقال من بلدته "العيينة" في نجد إلى مدينة الدرعية في ضواحي مدينة الرياض اليوم، مكروباً ومضطهداً من أمير بلدته ومن مشايخ القبائل والبلدان المحيطة بها، التي سمعت ببروز الشيخ وظهوره في بلدته تلك بعد تلقيه العلم في الحجاز، وفي العراق.
وكان هذا الاضطهاد الذي تعرض له الإمام محمد بن عبد الوهاب قد استمر سنوات عديدة، رأى بعدها أن أصله وعشيرته وقومه في نجد أولى بالدعوة إلى السلفية الإسلامية الصافية النقية، لما كان يسود نجد في تلك الأيام، بصفة خاصة والعالم الإسلامي بأسره بصفة عامة، من تباعد عن التعاليم الإسلامية الصافية، ومن شيوع الجهل، والبعد عن مبادئ الإسلام العظيمة.
فقد أصاب نجد ما أصاب سواها من البلدان العربية والإسلامية من الخرافات والبدع والانحراف عن الجادة التي كان يسير عليها السلف الصالح في بلدان الإسلام، فضاقت بالشيخ محمد بن عبد الوهاب قريته، وضاق بها، وضاق به أهلها، وضاق بهم بدوره، فرأى أن يهاجر من بلدة "العيينة" إلى بلدة "الدرعية"، وكان أمير الدرعية يومئذ هو الإمام محمد بن سعود، الذي كان من أبرز أمراء الأسرة السعودية يومئذ.
وسمع الأمير محمد بن سعود بوصول الشيخ إلى بلدته، وكانت أخباره قد سبقته إلى أمير الدرعية وإلى البلدان النجدية الأخرى، فذهب إليه، وهو في بيت مضيفه الذي نزل عليه في الدرعية، وتلاقى الرجلان في غرفة استقبال البيت المذكور، في لقاء تاريخي مبارك. وعرض الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث طويل على الإمام محمد بن سعود الأوضاع المتردية التي تتخبط فيها نجد ومن فيها ومن حولها من البادية، وأسهب للأمير الحديث عن سوء العاقبة وشر المنقلب الذي تضطرب فيه البلاد، بخروج البادية بأسرها تقريباً عن مبادئ الإسلام، وبخروج البلدان الحاضرة، على مثل ذلك، إلا من رحمه الله. وهم قلة متباعدة، متناثرة، في أماكن قليلة من بلدان نجد.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب إن الجهل الذي يتخبط فيه الناس وانحسار الثقافة والعلم والمعرفة عنهم بالأسباب التي يعرفها الأمير، هي شيء لا يرضي الله ولا رسوله، وإن الواجب على من تعلم وعلم من الرجال أن يصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الواجب على من تولى أمراً من أمور المسلمين من حكامهم ورؤسائهم ومشايخ قبائلهم أن يتلاقى مع طلبة العلم والعلماء في العمل على إخراج الناس مما هم عليه من جهل وانحراف، وإن الدعوة الإسلامية الصحيحة المتوارثة من السلف إلى الخلف يجب أن يكون لها المقام المحمود بعد الآن بين بادية نجد وحاضرتها، ثم ما جاور نجد من البلدان العربية الأخرى، فالدعوة إلى الله وإلى الكتاب والسنة هي ميراث الصالحين من الخلف عن الصالحين من السلف.
واستطرد الشيخ محمد بن عبد الوهاب –يحدث الإمام محمد بن سعود– فقال له: "إنني عارض عليك هذا الأمر، أدعوك إليه، وأحثك عليه، وأبرئ ذمتي من عدم التبليغ، وأرى أن في هذه الدعوة من مثلي لمثلك، وأنت في عز ومنعة وحكم، ما يثبت خطاك ويؤيد مقامك، ويجعلك من الدعاة الصالحين الذي أرجو أن تكون به من أمراء الإسلام وخدمة الشريعة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وسيبسط الله لك إذا قمت بهذا الواجب فضله وتوفيقه ونصره، وسنكون حولك نشد عضدك ونسير خلفك ونشترك معك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فننقذ بذلك إذا صفت السرائر وحسنت النية والطوية منا ومنك، فتقوم أنت ونقوم معك بهذا الواجب الذي كلفنا الله به وندبنا إليه، وفي هذا عز الدنيا والآخرة، وإني أبشرك من الآن بأننا إذا تعاضدنا وتكاتفنا وتآخينا على القيام بهذه الدعوة أن ستكون لك ولكل من قام مقامك العزة والرفعة والمنعة".
ولقد كان الإمام محمد بن سعود يصغي إلى كل ما أفاض به الشيخ، ويستمع وهو متهلل الأسارير، منشرح الصدر، قوي العزيمة على هذا الأمر الذي وصل إليه في بلاده، فما كان منه إلا أن مدّ يده يصافح الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويعاهده على أن يقوم معه بما دعاه إليه، وأن يؤيده وينشر دعوته، وأن يكونا من تلك اللحظة متآخيين متناصرين في الدعوة إلى إزالة البدع والخرافات والضلال الذي تتخبط فيه بادية نجد وحاضرتها، وأن لا يصدهم أو يثني عزيمتهم في سبيل ذلك أية عقبة من العقبات، يستعينان على إزالتها بالصبر والجهاد والإخلاص، وأن يكون القصد الأعظم من كل هذا، هو العودة إلى الله، وإلى شريعته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتهلل وجه الشيخ بدوره وتعانق الرجلان، وكان الموقف موقفاً بطولياً بارك الله فيه وأيده ووفقه.
ومن هنا، ومن تلك الحجرة المتواضعة التي ضمت الرجلين في بيت متواضع جداً، من بيوت تلك البلدة المغمورة التي لا حول لها ولا طول على ما جاورها، من بلدان نجد، انبثقت هذه الشعلة النورانية تضيء دياجي الجهالة والعماية في قلب جزيرة العرب، ثم تفيض بعد ذلك على أطراف الجزيرة العربية في عهد الإمام سعود الكبير من ذرية الإمام محمد بن سعود، المشار إليه في هذا الحديث. فتصل الدولة السعودية بهذه الدعوة الجديدة الخالصة المخلصة، إلى أطراف جزيرة العرب بأسرها، من أطراف دمشق وحوران وفلسطين والأردن في الشمال، إلى شواطئ البصرة والخليج العربي بأسره حتى عمان، وفي الجنوب تصل إلى نجران ومن نجران تصل إلى حضرموت، وتصل بعد ذلك، ومع ذلك، إلى الحجاز نفسها وإلى الحرمين الشريفين، وتتمخض الجزيرة العربية حينئذ بهذه الحركة المباركة التي أزاحت عن الجزيرة ما علق بأحوال أصلها وسكانها من الانحراف والخروج عما كان عليه السلف الصالح من المسلمين فيها.
وبارك الله في أسرة آل سعود منذ تلك اللحظة، ورفع صيتهم وأعلى كلمتهم، وجمع حولهم الحواضر والبوادي، ومشت راياتهم تضطرب في جوانب الجزيرة العربية، حاملة هذه الدعوة المجدِّدة لما كان عليه حال البلاد العربية في عصورها الأولى من الخير والدعوة والإرشاد.
وتوالى النصر والتوفيق والتأييد من الله سبحانه وتعالى، لهذه الأسرة منذ قيامها بتلك الدعوة حتى اليوم. نستثني من ذلك الاضطراب المتقطع الذي حصل بين الفينة والأخرى في نجد بالذات وبين أفراد الأسرة نفسها في بعض الأحيان، وكان كل ذلك بسبب ردود الفعل الكبيرة التي تغشت هذه الدعوة وأحاطت بها من الدولة العثمانية وهي في أواخر عهودها. فقد رأت الدولة العثمانية عند انبثاق هذه الدعوة وبُعد انتشارها في جزيرة العرب أن فيها ما يخيف ويهدد خلافتها وسلطانها وقوتها ونفوذها، خصوصاً وأنها قد غمرت أقطاراً متباعدة تقع تحت دولتها ونفوذها، فألبت عليها البلدان المجاورة لها، وبعثت قوادها والمحكومين من قبلها في مصر وفي الشام وفي العراق وفي الخليج، بعثتهم ليحاصروا هذه الدعوة التي فوجئت بأنها في بضع سنوات من انبثاقها قد استولت على الحرمين الشريفين ووصلت كما قلنا إلى أطراف العراق والشام وفلسطين واليمن.
فكانت حملة الدولة العثمانية عليها سراً وجهراً، فألبت شيوخ القبائل وزعماءها، سواء أكانوا في عقر دار الدعوة أم في ما جاورها من بلدان وأقطار، وبادرتها بالحرب، فبادرت الدعوة السلفية هذه المبادرة بمبادرة أعظم منها، فكان الصراع عنيفاً بينهما. وتألبت على الدعوة السلفية قوى أخرى فألفت الكتب ونشرت الدعايات تحاربها، وتنازلها وتبارزها، بل لقد أخرجتها حتى من سلفيتها وصفائها، وما شهد به كل من وفد إلى الحج في العهد الأول للدولة السعودية من علماء الإسلام، الذين جاهد كثير منهم بتأييدها ونصرتها، وجاهد كثير منهم بمحاربتها ومنازعتها.
وقام على سبيل المثال في اليمن عالم عظيم هو الإمام الشوكاني، فصدع في بلاده بتأييد هذه الدعوة ورفع صوته بتلبيتها، وقام أمثال له في أماكن أخرى من العالم العربي، بل ومن المغرب بأقطاره الأربعة بمثل ما قام به الإمام الشوكاني على اختلاف في الجلاء والوضوح وفي القوة والعزم.
ومن حقنا وحق المتسلسلين أن يذكروا لأئمة هذه الدعوة المتسلسلين من صلب الإمام محمد بن سعود حتى يومنا الحاضر، فضلهم ومكانتهم وجهادهم، فقد أوذوا في سبيل ذلك كثيراً، كما أوذي كل مصلح من المصلحين في الملل الأخرى. كما يجب علينا أن ننوه ونشيد بأبناء الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبأحفاده وبمن تبعه بإحسان إلى يومنا هذا، فنذكر للشيخ فضله وما وفقه الله إليه من صدق العزيمة وصفاء النية والتبتل إلى الله بدعوته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنه من هذه الشخصيات العظيمة التي نوهنا بأسماء عدد منهم في أحاديثنا السابقة، إذا لم يكن أعظمهم تأثيراً وأبعدهم صيتاً وأصدقهم جهاداً.
فقد قامت دولتان سعوديتان: الأولى التي قام بها الإمام محمد بن سعود المشار إليه آنفاً، والثانية التي قام بها وجددها الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، الذي حذا حذو سلفه وقام بمثل ما قام به، بل ولقد وفقه الله بأن يرسي في الجزيرة العربية قواعد وحدة عربية إسلامية لا ينافسه في مثلها أحد، وهي اليوم تفيض على الجزيرة العربية وعلى العالم الإسلامي بأسره من أقصاه إلى أقصاه بالخير وبالعلم وبالمعارف وبالجامعات وبالهيئات وبالمؤازرة وبالأخوة والقيادة والريادة، مع بُعد القائمين بمثل هذا الأمر عما تعنيه كلمة القيادة والريادة، فإنهم يرون أن ما يقومون به إنما هو تشريف من الله سبحانه وتعالى لهم للقيام به، لما أفاء الله عليهم من فضل وتأييد وتوفيق، فهم بذلك خلف صالح لسلف صالح إن شاء الله.
سبيل ما تعاضد وتحالف وتآزر به جدهم الأكبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أئمة الأسرة السعودية.
رحم الله هذا السلف الصالح، وتغمدهم برحمته ورضوانه ونسأل الله لخلفهم أن يكونوا كسلفهم إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :620  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.