شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > كتاب الاثنينية > أوراق من هذا العصر > أوراق مبعثرة من تاريخ الأندلس
 
أورَاقٌ مُبَعْثرة مِن تَاريخ الأندلُسْ
1980
عبدُ الرحمنْ
في دجلَةَ كانت قَدَماهُ
وعَيْناهُ بِمَكَّةَ تَزْرعُ في اللَّيلِ الأَقمارْ
صَنَعَ جَناحينِ لَهُ مِنْ سَعَفِ النَّخلِ
وعَبرَ فُراتَ الْخَيْرِ وَطارْ
مَعَهُ مُهْرٌ يَخْتبِئُ الصُّبْحُ بأَطْرافِ حَوافرِهِ
وقَميصٌ، غَابَةُ زَيتونٍ وخِضابٌ مِنْ غَارْ
أَمْضى ليلَتَهُ في الْقُدسِ وتابعَ رِحْلتَهُ
* * *
قالت زرقاءُ الأَنْدَلُسيَّةُ:
زَرَعَ الصَّقْرُ على الدَّربِ بُذوراً
نَبَتَتْ في سَنَواتِ الْقَحْطِ سَنابِلَ
لم يُبْصِرها الآتونَ على دربِ الصَّقْرِ
وَمَرَّ سَريعا
عيناهُ حقولٌ من أَحلامٍ
كَتِفاهُ حِمالٌ من أَحْزانْ
أَتْعَبَهُ الحلمُ وغسَّلَهُ الْحُزنُ
ونودِيَ: عَبْدَ الرَّحْمنْ
لا تحزَنْ، فَالْكوْنُ احْدَوْدَبَ حُزْنا
وَطُيورُ اللَّيلِ امتصَّتْ سُنْبُلَهُ
واسْمُكَ يا صَقْرَ قُرَيْشٍ
مَرْسومٌ في قُبَّتِه
أَنَّكَ مالِئُهُ حَبَّا
وحُروفاً خُضْراً وحَدائِقَ غُلْبا
تَتَوالَدُ أَطْيارُ الْعِشقِ بها
وتُفَرِّخُ باقاتٍ من شِعْرٍ وَقِباباً مِنْ أَلْوانْ
* * *
ومَضى الصَّقْرُ يُفَجِّرُ أَصباحاً في الْعَتْمِ
ويرسُمُ أَطفالاً عَرَباً في كُلِّ طريقٍ يَعْبُرهُ
صُوَراً كانت تَتَحَوَّلُ في لَحْظاتِ الْوَجْدِ سَفائِنَ
تمخُرُ بَحرَ الظُّلُماتْ
ونُجوماً خُضْراً
تُسْكِرُ في اللَّيلِ الطُّرُقاتْ
والصَّقرُ يتابعُ رحلتَهُ
عالَجَ بَوَّاباتِ الْعَصْرِ الْمُنْكَفِئِ على حيطانِ اللَّيلْ
فانْفَتَحَتْ
رَفَعَ مَصابيحَ قُرَيْشٍ فوقَ مَشارِفِها
وتَنَهَّدَ فَرَحا
* * *
ورأى الآتونَ على دربِ الصَّقْرِ
نَخيلَ الْبَصْرةِ مَيّاساً في غُرْناطَهْ
ورأَوْا رُمَّانَ الطَّائفِ
يَنْشُرُ أَسْراباً مِنْ جُلْنارٍ في بُسْتانِ طُلَيْطِلَةٍ
والْقَمْحَ الْمَزْروعَ على جَنَباتِ الْخابورِ
يُفَرِّخُ في قُرْطُبَةَ سنابِلَهُ
قيلَ لعبدِ الرحمنْ:
يا صَقْرَ قُرَيْشٍ أَوْقِفْ حُرّاس الْمَوْتِ
لِيَنْهَضَ عَصْرٌ عَرَبيٌّ في بَحْرِ الزَّمَنِ الأَسْوَدْ
راياتُ أُمَيَّةَ وحَبيباتُ قريشٍ تَمْلَؤُهُ عِشْقا
ونُجومُ الْقُرْآنِ تُضيءُ فِجاجَ الْكَوْنِ لَهُ
انْظُرْهُ غَريقاً يَتَلَوّى
بَيْنَ ضِفافٍ لا قَعْرَ لها
* * *
لكنَّ الصَّقرَ تَوَقَّفَ كُرْها
واحْتَرقَتْ عَيناهُ مِن التَّحْديقِ بوَجْهِ التّاريخْ
وتَدَلَّى رأسُ الصَّقْرِ على الصَّدْرِ الْمُتْعَبْ
نادَتْ زرقاءُ الأَندلسيَّةُ:
-: أَوْقِفْ سَكَراتِ المَوْتِ قَليلاً يا صَقرْ
في السَّقْفِ شُقوقٌ
والأَبْوابُ مُفَتَّحَةٌ
وَرِياحُ الْعَصرْ
تَعْصِفُ بالنَّخْلِ وأَنْتَ الْغارِسُهُ
في أَرْضِ الْغُرْبَهْ
مَنْ يَحْرسُ هذا الْعَرْشَ بِعُجْمَةِ هذا الْكَوْن؟
مَنْ يَرْمي سَهْمَكَ في هذا اللَّيلْ؟
قالَ الصَّقرُ:
تَوَقَّفْ يا طَيْرَ الأَرْواحِ قليلا
كَيْ تُبْصِرَ زَرْقاءُ الآتي
وأَنا
عَيْنايَ المُتْعَبَتانْ
سَوْفَ تَنامانْ
فَدَعيني يا زَرْقاءُ الآنْ
* * *
الصَّقْرُ يَنامْ
والْمَوْتُ مُحَمْلِقَةٌ عَيْناهُ بقامَتِهِ جَزَعا
وتَجَمَّد ثّغْرُ التاريخِ بِمَسْجِدِ قُرْطُبَةٍ
والطِّفْلٌ الْعَرَبيُّ غَريبٌ في رِحْلَتِهِ
تَلْجِمُ شَفَتَيْهِ الْعُجْمَهْ
لا يَعْرِفُ ماذا كَتَبَ الصَّقْرُ الأُمَويُّ
بالْخَطِّ الْكوفِيِّ على حائِطِ أَوْرُوبّا
زَرْقاءُ الأَندلسيَّهْ
كانَتْ لُصْقَ الطِّفْلِ تُدَوِّنُ في دَفْتَرِها
الْمَخْبوءِ بلَيْلِ ضَفائِرِها:
-: جرَّ الأَقْزامُ دَواليبَ اللَّيلِ على وَجْهِ الشِّعْرِ
وَوَجْهِ الْحُبِّ وأَقْدامِ الْفَلاَّحينَ
وسُنْبُلَةِ الْفُقَراءْ
والْمُسْتَتِرونَ بأَوْسِمَةِ الْفَتْحِ
وقُمْصانِ الشُّهَداءْ
وَالْمُخْتَبِئونَ بِحِضنِ اللَّيْلِ الْعَرَبِيّ
تَحْتَ عَباءاتِ الْخُلَفاءْ
مَضَغوا أَشْعارَ الْحُبِّ سِفاحاً
وارْتَحَلوا خَلْفَ الأَفْياءْ
* * *
بَحْرُ الظُّلُماتِ تَمَدَّدَ بَعْدَ الصَّقْرِ
وخَلَّعَ بالْفَرحِ شَواطِئَهُ
أَيُّ جِراح الْعَربِ يُضَمِّدُها بَعْدَكَ يا عَبْدَ الرَّحْمنْ
هذا الْقِزْمُ الْمَلْعونُ
الْمَدْعُوُّ الأَحْمَرَ والْمَدْعُوُّ الأَصْغَرَ،
والُمَدعُوُّ أبا عَبْدِ اللهْ؟
وأَبو عَبْدِ اللهْ
آخِرُ حِصْرِمَةٍ في عُنقودِ الْمَلْعونينْ
وَالوَطَنُ الْمَرْبوط بِحُكّامِ طَوائِفِهِ
تَنْبُتُ فيهِ الرَّاياتُ على الأَشجارْ
تولَدُ فيهِ الأَوْسِمَةُ على أَكْتافِ الْمَهْزومينَ
وينبعُ في عَتْمِ أَزِقَّتِه سَيْلٌ
يَقْذِفُ جَيْشَ طُغاةٍ بينَ الأَحْجارْ
يدْعونَ السِّلْمَ الْمَفْروضَ مِنَ الرُّومِ: سَلاما
وَرُجوعَ الْقَمرِ الأُمَوِيِّ إلى الرَّبْعِ الْخالي: نَصْرا
والأَصْنامْ
تَتَوالَدُ عَنْها الأَصْنامْ
* * *
عائشَةُ الْحُرَّةُ تَعْرِفُ أَنَّ أَبا عَبْدِ اللهْ
آخِرُ مَلْعونٍ في مَعْركَةِ الْعُمْيانِ الْمُمْتَدَّهْ
بينَ التَّعجيمِ التَّعْريبِ
التَّعْريبِ التَّعْجيمِ.. وبَيْنَ الرِّدَّهْ
وَالْمَسْبِيَّةُ غُرْناطَةُ آخِرُ صَوْتٍ في زَفَّتِها
ونِهايَةُ قافِيَةٍ
تُزْهِرُ بِجُنَيْنَتِها
تَسْمَعُها زَرْقاءُ الأَنْدَلُسِيَّهْ
تَصْرخُ مِنْ قافِلَةِ السَّبيِ ومِنْ بينِ الأَطْلالْ
-: مَنْ ضَيَّعَ مُلْكَ الأَبْطالِ بَكى
مِثْلَ الأَطفالْ
فَادْفُنْ رأْسَكَ في الطِّينِ أَبا عَبْدِ اللهْ
لكِنَّ الْفِتْنةَ أَكْبَرْ
واللَّيْلَ الْمِرْواغَ تَدَوَّرْ
تَسْأَلُ عائِشةُ الْحُرَّةُ
هذا الْعَرشَ الْمُحْتَرِقَ بشَهْوَتِهِ
عِنْ قاتِلِ إِخْوتِهِ
عَنْ سارِقِ صُحْبَتِه
عَنْ خائِنِ جِلْدَتِهِ
وعَنِ السّاجدِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْنانْدُو لَيْلاً
وإذا الصُّبْحُ تَنَفَّسَ نادى: الْحَرْبَ الْحَرْبْ
وَجَواسيسُ السِّلْمِ جَواسيسُ الْحَرْبِ جواسيسُ التَّعْجيمِ
يَلوذونَ بِخيْمَتِه
نادَتْ زَرْقاءُ:
-: يا مُدُنَ الأَنْدَلُسِ الثَّكْلى
أَيُّ نِداءْ
يَجْمعُ حُكَّامِ التَّجْزئِ
وأَشْباهَ الْخُلَفاءْ؟
يا مُدُنَ الأَنْدَلُسِ الثَّكْلى
إنَّ الفُقراءْ
حَيَّرَهُمْ عَصْرُ الأَقْنِعَةِ الْمُتَخالِفَةِ الأَلْوانِ
الْمِنُسوجَةِ مِنْ خَيْطٍ واحِدْ
حَيَّرَهُمْ.. أَيُّ الْخُلَفاءْ
يَسْمَعُ نَجْواهُمْ
ويَراهُمْ
وهُمُ الْمِزَقُ الْمَنْثورَةُ بَيْنَ النَّارِ وبينَ الْماءْ
* * *
جاءَ الْعَطَّارْ
خِضْراً أَنْدَلُسِيّاً
يَتَجَوَّلُ فَوْقَ الْبَحْرِ الْمَجْنونِ
وحيناً يَتَوَضَّأُ بالنَّارْ
يَسْكنُ جَفْنَ السَّيفْ
ويُقيمُ بثَغْرِ الْحَرفْ
ويَطوفُ على شُرُفاتِ الْعَصْرِ الْمُتَهَدِّمِ
يَبْني سوراً بالسَّيفْ
ويُخَبِّئُ وطَناً بالحرفْ
وسُيوفُ الْحُكَّامِ تُلاحِقُهُ
ورأى الْعَطَارُ جِيادَ الْمَهْزومينَ
اعْتَكَفَتْ في قَصْرِ الْحَمْراءْ
وطُغاةَ الأُمَّهْ
ساعَةَ نَهَضَتْ أَسْيافُ الرُّومِ عَليهمْ
سَجَدوا
ومنَ الأفْواهَ اللاّئِذةِ بأَحْذِيَةِ الرّومْ
طَلَبوا تَحْريرَ الأَندلُسِ منَ الْغَزْوِ وأَيْديِهِمْ
تَمْهَرُ صَكَّ تَنازُلهِمْ عَنْها
والْعَطَّارُ يُقاتِلُ في غُرْناطَهْ
جُنَّ الْقَتْلُ وأَلْسِنَةُ الشُّعْراءْ
تَمْسَحُ أَسْلِحَةَ الُمَهْزومينْ
وتُجَدِّدُ لِلْمُرْتَدِّين الْبَيْعَهْ
وأَبو عَبْدِ اللهِ الْمَلْعونْ
يصرخُ مِن بينِ الْغُصَّةِ والدَّمْعَهْ:
-: عَمِّي يَبْحثُ عن رَأْسِ أَبي
وأَبي يَمْسَحُ سَيْفَ خَطيئَتهِ بِرِدائي
وسُيوفُ الرُّومِ تُحاصِرُنا
وأَنا أُلْعَنُ وَحْدي
* * *
نادَتْ عائِشَةٌ: لا
أَلْعَنُكُمْ أَجْمَعَكُمْ
مَهْزومينَ بزمنِ الْحَرْبِ
وَمَهْزومينَ بزَمنِ السِّلمْ
يا أَصْنامَ الْعَرْشِ ويا أَشْباهَ الْخُلَفاءْ
لا تَبْكِ أبا عَبْد اللهْ
وَدَعِ الْعَطَّارَ يُقاتِلْ
اِفْتَحْ أَبْوابَ الْمَنْفى لِيَرى الْعَطّارونَ الضَّوْء
وارْقُدْ في قَصْرِكَ أَوْ في قَبْرِكْ
اَلْفِتْنَةُ أَكْبرُ مِنْ حَجْمِكْ
اهْبِطْ عَنْ عَرْشٍ لا تَمْلِكُهُ
واتُرُكْهُ لِمَنْ يَمْلُكُ سَيْفاً
مَنْ يَمْلُكُ سَيْفاً يَمْلِكْ عَرْشا
* * *
أُمَّاهُ دَعيني
- قالَ أبو عبدِ اللهِ - ولَوْ مَرَّهْ
أَدْفَعُ عني الْعارَ أَمامَكِ يا أُمَّاهْ
العَصْرُ الأَعْمى باعَدَ بينَ السَّيفِ وحامِلهِ
والْعَرْشُ الْعَربيُّ تهدَّمَ قَبْلَ مَجيئي
وأَنا لا أُصْلِحُ وَحْدي
عَرْشاً مَنْخوراً بالسُّوسِ الرُّوميِّ
وكلُّ الخُلَفاءِ سَواءْ
كُلُّ رِجالِ الطَّاغوتِ سَواءْ
* * *
غابَ أبو عبدِ اللهْ
فاتِحَةُ الأَحْزانِ وخاتِمَةُ الأَقْزامْ
بَيْنَ نِساءٍ في غُرُفاتِ الشُّورى
ورجالٍ في ظُلُماتِ السِّجْنِ
وفُرْسان مَصْلوبينَ بأَفْواهِ مَدافِعهِمْ
ظالِمةٌ. ظالِمَةٌ عائِشَةُ الْحُرَّهْ
إِنْ تَلْعَنْ هذا الْقزمَ بِمُفْرَدِهِ
والطَّعْناتُ الْعَرَبِيَّةُ في الْجِسْمِ الْعَرَبيّ
عَدَدَ الْقُبَلِ الْعَربيةِ في الْجسمِ الرُّوميّ
وَالْقادَةُ أَشْباهُ الْخُلَفاءْ
أَمْشاجٌ مِنْ طينِ التُّرْكِ وَماءِ الْفُرسِ ولَحْمِ الرُّومْ
تَسْتُرهمْ أَلْقابُ: الْقادِرِ.. والظَّافرِ. والْقاهِرْ
وهُمُ الخاسِئُ والْفاجِرُ وَالْمَهْزومْ
سَجَدوا بينَ يَدَيْ فِرْناندو لَيْلاً
وأَذاعوا حَرْبَ التَّحْريرِ صَباحاً
واللَّيلُ الأَعْمى
ساوى بينَ عَمائِمِهِمْ
قُرْطُبَةٌ نامَتْ في البَحْرِ
وغُرْنَاطَةُ تَهْوي في الأَلْوانْ
وطُلَيْطِلَةٌ مِثْلَ الْمَلحِ تَذوبْ
وعِشاشُ الصَّقْرِ تَلوذُ بعَتْمَتِها الْغُرْبانْ
وشُيوخُ الأَحْياءِ نِفاقْ
رَسَموا صُوَرَ الصَّقْرِ على أَطْرافِ عَمائِمِهمْ
وأشادوا حُجُراتِ اللَّذَّةِ تَحْتَ الطّوفانْ
* * *
زَرْقاءُ الأندلسيةُ هَمَستْ في أُذُنِ الصَّقرِ النائِمِ:
-: عَبْدَ الرَّحْمنْ
العَذْراءُ الإسْبانِيَّةُ مُسْتَلْقِيَةٌ
بِفراشِكَ يا صَقْرَ قُريشٍ
أَوَما أَتْعَبَكَ الإِعْمارْ؟
يا مَلِكَ الأَنْدَلُسِ الأَقْوى
أَوَما شاقَكَ لِلْحُبِّ حِوارْ؟
أُنْظُرْ يا صَقْرَ قُريشْ
إنَّ سريرَكَ والْعَذْراءَ هُنَيْهَةُ عِشْقٍ
تتَرَقَّبُ وَجْدَكْ
الْعَذْراءُ تُحَمْلِقُ بالْقمرِ تَظُنُّكَ ساكِنَهُ
وتُغَسِّلُ بالْعطرِ جَدائِلَها
وهيَ الآنْ
تَنْشُر شَلاَّلاتِ الْعَسَلِ الْبَرِّيِّ
على أَخْشابِ السَّقفِ الأُمَوِيِّ
وتُبْحِرُ في الْجُدْرانْ
بَدأَتْ
منذُ ارتَحلَتْ
واغتَسَلَتْ بجفونِكَ قامَتُها
تَرْوي شِعْرَ الْعُشّاقِ الْفُرْسانْ
تَتَوَضَّأُ بِعَرارِ الصَّحْراءِ
وتُبْحِرُ في الْقُرْآنْ
يا صَقْراً أَثْقَلهُ الْحلمُ وغالَتْهُ الأَحْزانْ
هيَ فوقَ سَريركَ
شَوقٌ ملتهِبٌ وحِقاقٌ مِنْ طيبٍ
وأَكاليلٌ مِنْ أَلْحانْ
تَتَفَرَّسُ هذا الْكَوْنَ الْمُتَيَتِّمَ بَعْدَكْ
لا الأَنْدلسُ سَتُطْفئُ جَذْواتِ الشَّوْقِ بِها
والْمَسْكونُ بها وَحْدَكَ
عَبْرَ الأَزْمانْ
* * *
يا عَطَّارْ
نادتْ زرقاءُ
بِمُفردكَ تُقاتِلُ وسيوفُ الْفُرْسانْ
صادَرَها حَرَسانْ
شَرطَةْ فِرْنانْدو وجَواسيسُ الْخُلَفاءْ
قالَ الْعطارُ: أَراهُمْ
قالتْ: مَنْ جِئْتَ تُقاتِلُ عنهم خَذَلوكْ
طَمَروا الُبِذْرَ بأرضٍ
لا تَعرفُ شَكْلَ السُّنْبُلَةِ
ولا سَعَفَ النَّخْلَهْ
قالَ: أَراهُمْ
قالتْ: مِسْكينٌ يا عَطّارْ
تُبْعِدُ هذا اللَّيْلَ الْمَرْكومَ عَنِ الأندلسِ
أَتَعْرِفُ مَنْ يَخْتَبِئُ بِجُبَّتهِ الآنْ؟
والْكُلُّ اشْتَرَكوا في قِسْمَةِ قافِلَةٍ
تُدْعى: غُرْناطَةَ
تُدْعى: قُرْطُبَةَ
وتُدْعى: عُشَّ الصَّقْرِ الأُمَوِيِّ
وتُدْعى ما لا أَدْري مِنْ أَسْماءْ
* * *
سَمِعَ الصَّقْرُ ضَجيجَ الْمَهْزومينَ، فَجاءْ
يَخْلَعُ بَوّاباتِ الْغُربَةِ عَنْ كَتِفَيهْ
ويَكُفُّ غُبارَ الصَّمْتِ الْمُتَراكِمَ عَنْ شَفَتَيهْ
ناداهُ مُنادٍ: عَبْدَ الرَّحْمنْ
لا تَنْظُرْ خَلْفَكْ
الْمَهزومُ يُداعِبُ سَيْفَكْ
والسّاقِطُ تحتَ نِعالِ الرُّومْ
يَتماهى طَيْفَكْ
والْهارِبُ مِنْ كُلِّ مُنازَلَةٍ
يَنْسِجُ مِثْلَ عَباءَتِكَ الأُمَوِيَّهْ
قال الصقرُ: أَراهُمْ
وأَعودُ إليهم
قال الصوتْ:
ماذا تَفْعلُ وَحْدَكَ يا صَقْرَ الْغُرَباءْ؟
والْعَصْرُ بأكملهِ
يَسَّاقَطُ كَالْوَرقِ الْيابسِ
فوقَ رُؤوسِ الْخُلفاءْ
قال الصقرُ: سأَلْثُمُ شَفَةَ العَطَّارْ
وأُباركُ سَيْفَ العَطَّارْ
وأَشُدُّ على كَفِّ الْعَطّارْ
قالَ الصوتُ: ولكِنَّ الْعَطَّارَ وَحيدٌ
في وَجْهِ الأَعْجامْ
فَوْقَ الْحُلْبَةِ مُنْفَرِدٌ
وبَنو الأَعمامْ
فَرُّوا في كُلِّ ثَنِيَّةِ وادٍ
وتَلَطَّوْا بِالأَحْلامْ
قالَ الصَّقْرُ: خَطَأْ
ليسَ وَحيداً
مَنْ تُنْبِتُهُ الأَرضُ
ومَنْ تَنْتَقُهُ الأَرْحامْ
* * *
ظَلَّ الْموتُ يُسافِرُ مِنْ وَجْهِ الْعَطّارْ
أَكْثَر مِنْ تسْعينَ سَنَةْ
كانَ الْمَوتُ يَسيرُ على أَطْرافِ أَصابعِهِ
خوفاً مِنْ سَيْفِ الْعَطَّارْ
يَرْحَلُ في الليلِ ويرجعُ صُبْحاً
يَتَخَفَّى بعَمامَةِ قاضٍ
أَوْ يَتِسلَّلُ بينَ يَدَيْ طاغِيَةٍ أَعْمى
وإذا اصْطُفِقَتْ أَبْوابُ الأَندلسِ وراءَ الْعَطَّارْ
قالَ الموتُ:
تَعِبْتُ وَراءَكَ يا عَطَّارْ
وانُفَجرَتْ رِئَةُ الْعَطَّارْ
واسْتَلْقى فِرْنانْدو لُصْقَ مَليكَتهِ فَرِحا
* * *
يُرْوى، أَنَّ مُلوكَ الرُّومْ
وطُغاةَ الْعَربِ ومَنْ لَمُّوا بالسَّيفِ طوائِفَهُمْ
غَمَسوا بالطِّيبِ أَصابِعَهُمْ
وأْتَلَفوا لَمَّا جاءَ الْعَطَّارْ
ما مِنْ شَأْنٍ جَمع نَوازِعَهُمْ
في زَمَنِ الْفِتنَةِ وجُنونِ الإعْصارْ
إلاَّ قَتْلُ الْعَطَّارْ
والْعَطَّارْ
يأْتي مِنْ بادِيَةِ الشّامِ يُقاتِلْ
والْعَطَّارْ
يأْتي مِنْ نَجْدٍ مِنْ جازانَ يُقاتِلْ
والْعَطّارْ
يأْتي مِنْ ليلِ الْقُدسِ يُقاتِلْ
والْعَطّارْ
يَأْتي مِنْ صَنْعاءَ يُقاتِلْ
والعطار
يأتي مِنْ وَهْرانَ يُقاتِلْ
والتاريخُ يُسائِلُ مَنْ خَفَضوا أَجْنِحَةَ الذُّلِّ
أَمامَ الذُّلّ
-: هَلْ يَتَّسِعُ بِناءُ الْعَربِ لهذا الْعَطَّارْ؟
* * *
لانَتْ أُضْحِيَةُ النَّصرِ لفرناندو
واضْطَجعَ على صَدْرِ مَليكتهِ إيزابيلاَّ
يَكْرَعُ كأسَ النَّصْرِ وكأسَ الْخَمْرِ
وكأساً ثالثَةً صادَرَها الْحُرّاسُ مِنَ الْفُقراءْ
واخْتَلَجَتْ جُمْجُمَةُ الْعَطّارْ
بَيْنَ يَدَيْ فِرْناندو
مِنْ بينِ جَدائلِ إيزابيلاَّ
مًنْ تحتِ الكأسِ
ومِنْ كُلِّ شُقوقِ الْقَصرِ
ومِنْ تحتِ الأَحْجارِ ومِنْ خَلفِ الأَسْوارْ
صَرخَتْ جُمْجُمَةُ الْعَطَّارْ
-: سأظَلُّ أُقاتِلُ يا فِرْناندو
حتى لا تَكْتُبَ عَرّافاتُ الدُّنيا
أَنَّ رِقابَ العربِ هَوَتْ
تَحْتَ صَليلِ السَّيْفِ
وتَحْتَ حَريرِ الْفَيْءِ
وتَحْتَ حوافِرِ مُهْرِكَ يا فِرْناندو
قالَ الْمَلِكُ الْمُنْتَصِرُ على حُكّامِ الأَنْدلسِ وأَشْباهِ الْخُلَفاءْ:
-: سَيْفُكَ مُغْتَربٌ في التاريخ
ومثلُكَ مَقْتولٌ من كُلِّ جَوانبهِ
هل يوقِفُ هذا الإعْصارْ؟
صادَرْنا لُغَةَ الضَّادِ بحَنْجَرَتِكْ
وبِسَيْفِكَ صادَرْنا الْعطَّارينْ
* * *
-:لا يَكْذِبُ هذا الصَّوْتُ
أَرْحامُ نِساءِ الْوَطَنِ الْمَجْروحْ
أبْعَدُ منْ عُمْق الْمَوْتِ
وسُيوفُ الْعَطارينْ
أَطْوَلُ مِنْ تاريخٍ ذبَحَ الْحُكّامُ بَراءَتَهُ
وعُيونُ الْعَطَّارينْ
تَكْتَشِفُ دُروبَ الآتي
يَكذِبُ هذا الصوت
رَدَّدَ عُشْبُ الأَرضِ، وَماءُ الْمَطَرِ، وصَوْتُ
الزَّمَنِ الآتي
-: يَكْذِبُ هذا الصَّوْتْ
سَيَمُرُّ طُغاةُ الأَرضِ وَيَبْقى الْعَطَّارونْ
* * *
وتَلَفَّتَ فِرْناندو
ليَجيءَ الصَّوْتُ كَمَوجِ الْبَحْرِ كَقَصْفِ الرَّعْدِ
كَعاصِفَةٍ مِنْ نارْ
-: إنَّ وِلاداتِ الْعَطارينَ تَزيدُ
إذا طالَ اللَّيْلُ وَجُنَّتْ خُطُواتُ الْمَوْتُ
وانْكَفأَتْ أَعْناقُ العربِ
على حيطانِ الرُّومْ
* * *
إيزابيلاّ حَضَنتْ سَيْفَ الْعَطّارْ
مالَتْ بِحُنُوِّ الأُنْثى تَسْأَلُهُ:
-: مِنْ أَيَّ بُطونِ الْعَربِ أتى الْعَطَّارْ؟
قال السيفُ: حَذارْ
المَقْهورونَ الْمُغْتَرِبونَ الْمَسْجونونَ
بِعَتْمِ خَنادِقِهمْ
مِثْلُ الْعَطارْ
والْغارسُ رُمَّانَ الطَّائِفِ
والراعي غَيْمَتهُ الْمَوْعودَةَ
بينَ الكَعْبَةِ والأَنْبارْ
والزّارعُ قَمْحَ الفُقَراءِ على جَنَباتِ الْخابورِ
ومَنْ جَحَظَتْ أَعْيُنُهُمْ خَلْفَ الأَسْوارْ
* * *
أَغْضَبَ سَيْفُ الْعَطَّارِ مَليكَتَهُ
فانتَفَضَتْ مِنْ بَيْنِ ذِراعَيْ فِرْناندو
تَبْحَثُ عَنْ مَهْزومينَ بأَحْضانِ جَواريهم
ليَكُفُّوا عَنْها خَطَرَ السَّيْفِ الْمَعْزولِ عَنِ الدُّنيا
ولِتَرْضى إيزابيلاّ
نَشَرَ الْحُكّامُ الأَقْزامُ بِعُجْمَةِ عَصْر الْفِتْنَهْ
أمْراً أَمْنِيّاً وَزَّعَهُ الطّبَّالونَ على الطُّرُقاتِ يَقولْ:
* لَحْمُ الْخِنْزِيرِ حَلالْ
* المَيْسِرُ والخَمْرُ حَلالْ
* دَفْعُ الجِزيَةِ للرُّومِ حَلالْ
* تَعْجيمُ الشِّعرِ ولُعْبُ الشَّطْرَنْجِ حَلالْ
* أَمّا السَّيْفُ فَرِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ اجْتَنِبوه
* مَنْ شوهِدَ يَحْلُم باسْتِجْماعِ الأُمَّةِ يُعْدَمْ
* مَنْ شوهِدَ يَرْسُمُ سَيْفاً يُعْدَمْ
* مَنْ شوهِدَ يَكْتُبُ سَطْراً مِنْ تاريخِ الأُمَّةِ يُعْدَمْ
* مَوْلانا فِرْناندو ومَليكَتُهُ سَينامانْ
* * *
واجْتَمَعَ الصَّقْرانْ
الْعَطّارُ وعَبْدُ الرَّحْمنْ
في حُلُمٍ مِنْ بِلَّوْرِ الْيَقْظَهْ
ضَمَّ الصَّقْرُ الْقُرَشِيُّ الْعَطّارَ وشَدَّ يَدَيهْ
-: لا تَحْزَنْ يا عَطّارْ
أَقْربُ وَعْدٍ لِظهورِ الْعَطّارينْ
لَحْظَةَ تُغْلَقُ أَبْوابُ الزَّمَنِ عَليهم
سوفَ يَجيئونَ مِنَ النَّخْلِ مِنَ السَّهْلِ
من السُّنبلَةِ مِنَ الرَّحمِ ومِنْ تَحْتِ
الأَحْجارْ
لا تَحْزَنْ يا عَطّارْ
بينَ الْعُشْبَةِ والْعُشْبَةِ في الْوَطَنِ الأَخْضَرِ
يولَدُ عَطَّارْ.
* * *
1976
 
طباعة

تعليق

 القراءات :360  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .