شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
كَلمة النَّـاشِر
إن الحديث عن معالي الأستاذ الفقيد عبد العزيز الرفاعي، يكاد يصل من حيث الصعوبة، إلى درجة الحديث عن النفس.. ليس لأن جذور علاقة الصداقة التي امتدت في أعماق طريق أخوتنا على مدى أربعين عاماً فحسب، ولكن لأن هذه الجذور بقيت تمتد حتى بعد رحيله عنا فقد بقيت أعماله واسمه تشع بأشذائها، ولذا فهو الغائب الدائم الحضور، والحاضر الدائم الغياب، ولا أكثر عناء كعناء الكتابة عن حاضر غائب أو غائب حاضر. وإذا كان بمقدوري تأطير تلك الجذور في أكثر من بوتقة فإنه من غير الممكن تأطير عبقها في ذكريات حميمة أو ألق حديث شجي.. إذ لا يمتلك قلمي القدرة على تأطير تلك الجذور في سطور.
لقد سرني صديقي الأستاذ أحمد سالم باعطب بوضعه كتاباً عن فقيدنا، فقيد الأدب والفكر، معالي الأستاذ عبد العزيز الرفاعي - وما كان الأمر بمستغرب منه- فهو الذي عرف بالوفاء وصدق المودة وخالص الود لأصدقائه.. ولحسن الظن بي وما يعرفه عن وثيق صلتي بالراحل الكبير فقد تفضل بإطلاعي على مسودة الكتاب الذي بين أيديكم.. فوجدت فيه أجمل هدية يمكن أن أقدمها لمحبي ومريدي وتلاميذ الراحل العزيز.. خاصة وأن الكتاب ينحو منحى التوثيق مما يجعله وثيقة لحياة الفقيد التي امتلأت بجلائل الأعمال وناصع الخصال.
ورغم صعوبة الحديث عن الفقيد إلا أنني وجدتني مضطراً لخوض غماره من خلال هذه الكلمة، فقد كان أستاذنا الرفاعي إحدى أهم العلامات المضيئة في ساحتنا الفكرية والأدبية بل والاجتماعية معاً.
فهو لم يكن مجرد أستاذ جيل فحسب، وإنما كان رمزاً اجتماعياً، استطاع من خلال ندوته الأسبوعية التي كان يقيمها في دارته بالرياض مساء كل خميس، وفي دارته في جدة آخر أيامه رحمه الله، فكانت ملتقى فكرياً واجتماعياً في آن واحد، فقد جمعت على امتداد سنواتها الطويلة أعلاماً من المثقفين، ورجالاً من المفكرين، وعظماء من الأدباء والشعراء فكانوا صفوة المجتمع من أبناء المملكة وزوارها الذين يفدون إليها بين حين وآخر ويحرصون أن يكون حضورهم لندوة أستاذنا من مهام زيارتهم الرئيسية، لقد كان أستاذنا الفقيد - طيب الله ثراه - أنيس الجميع وسميرهم الباش في وجوههم والآخذ بألبابهم حين يحدثهم أو حين يصيخ السمع لأحاديثهم، فقد كان رحمة الله عليه يتمتع بموهبة فن الإصغاء التي هي من سمات كبار المفكرين والأدباء.
كان رجلاً موسوعياً، فإذا تحدث أثرى الموضوع، وإذا ناقش أقنع، وإذا استنطق في أمر، كان قوله الفصل… يدعم الرأي بالدليل، ويسنده بالمراجع الموثوقة… يوجز فيبين... ويطنب فيُسأل الاستزادة… حتى إذا خرج الجمع كانت هوادجهم المعرفية محملة بمعرفة جديدة، أو على الأقل بمعلومة ترشح من عبق عطره، لا فقط بالعطر الذي اعتاد الفقيد تعطير أيدي رواد ندوته به حين ينصرفون، فقد كان العطر ينضح من النفس والنفيس.
يمتاز أستاذنا الرفاعي رحمه الله بالخلق الرفيع مع كل من تعامل معه… فهو خريج مكارم الأخلاق… يأخذ خلقه من مشكاة النبوة، ويضيء حياته بنور الصحابة، ينشر بين جنبيه وهجاً من روحهم الشفافة، وأريجاً من عبيرهم الفواح… يتكىء على رصيد كبير من العلم والثقافة اللتين نالهما من دراساته ومن حلقات العلم حيث أبلى شبابه زحفاً على الركب بين مشايخها، فقد عرفَته حصاوي الحرم وأعمدته بين جنباته منذ نعومة أظفاره وحتى باسق شبابه... وكم كان كبيراً يوم كان صاحب المعالي الجاثي على ركبتيه يستمع إلى فقيه أو عالم من علماء الحرم المكي فكنت ترى صورة من صور العلماء إذا تساموا .. ولم يكتف بذلك فكم عرفته مكتبات ودكاكين باب السلام التي كانت تحيط بالحرم المكي ... من تلك المناهل والينابيع استقى الرفاعي الكبير بأخلاقه فكان أمراً طبيعياً أن تكون شجرته الفكرية وارفة الظلال، دانية القطوف، دائمة الاخضرار... ومن شجرته هذه، تدلت عناقيد إبداعه شعراً ونثراً سيبقيان مدى الدهر زاداً لمن أراد التزود، ودليلاً لمن أراد دخول جنائن الفكر الفاضل المؤمن… لقد كان رحمه الله علماً خفاقاً بين أعلام ساحتنا الفكرية والثقافية، وسيبقى علماً خفاقاً بين جحافل رجال الثقافة والعلم.
وكما نذر قلمه للفكر الهادف فقد نذر حياته لخدمة أمته ووطنه… فأسهم في إرساء دعائم المعرفة عبر مساهماته في المؤسسات الصحفية وعبر المكتبة الصغيرة (الصغيرة باسمها، الكبيرة بأهدافها، وعطائها الثر، وفكرها العميق، وبتراثها الذي صاغه من أمهات الكتب، وعصير التجارب، ونادر المخطوطات)... لقد كانت المكتبة الصغيرة كبيرة حتى على عمل كثير من المؤسسات ناهيك عن عمل فرد واحد يقف صامداً في وجه التحديات، فيؤلف، وينشر، ويوزع آلاف الكتب الرصينة في زمن لا يداني فيه رخص الكتاب إلا رخص الإنسان!!.
كان رحمه الله أكثر الناس علماً بأن الربح من شق القلم أشبه ما يكون بالبحث عن إبرة في كوم هشيم تذروه الرياح… وعلى رغم ذلك فقد تحدى نفسه قبل أن يتحدى الصعوبات… ضحى بما لديـه - بل جاد به - بنفس راضية من أجل قضيته الكبرى… قضية أن يكون الكتاب توأماً لرغيف الخبز، فعمل على نشره بين أكبر قطاع من المواطنين وبأقل تكلفة ممكنة كي يصبح في متناول الجميع… ثم ما لبث أن أصدر مجلة "عالم الكتب" مع زميله الصديق الأستاذ عبد الرحمن المعمر، ليعرف مريـدو الفكـر
والأدب من خلالها الجديد في عالم التأليف تعميقاً للفائدة، وتسهيلاً لعملية الانتقاء.
هكذا كانت قضاياه فوق الصغائر… فوق ماديات يزحف نحوها البشر كل صباح، يمدون الأصابع نحو نار يحسبونها نوراً..
كان رحمه الله نهراً يفيض بالمشاعر النبيلة، وفي هذا النهر الزاخر، أرسى سفينته الشعرية، فصاغ لنا أجمل القصائد معنى ولفظاً وبلاغة.. فقد كان رحمه الله شاعراً مطبوعاً لا أثر للصنعة فيه، تنقاد القوافي إليه طائعة مختارة، يغلب على شعره ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع، ينتقي له المفردات السهلة، لكنه يصوغها في جمل شعرية محكمة البناء والتركيب، مع طرافة في المعنى وإبداع في الصورة الشعرية، يغلف ذلك كله وشاح من نور الفضيلة والإيمان تماماً كروحه السمحة ولسانه العف ويديه البيضاوين… وإنه لمن الصواب القول بأن شعره كان مرآة روحه… وجد هذا الشعر طريقه نحو القلوب دون وسيط أو قاموس أو شرح وتفسير.
عند الحديث عن أستاذنا الرفاعي تتداعى إلى ذهني مقولة الأستاذ الأديب ميخائيل نعيمة "ليس كل ما سُطّر بمداد على قرطاس أدباً، ولا كل مَنْ حَرر مقالاً أو نظم قصيدة موزونة بالأديب، فالأدب الذي نعتبره هو الأدب، ذاك الذي يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها، والأديب الذي نُكرِّمه هو الذي خص برقة الحس ودقة الفكر، وبعد النظر في تموجات الحياة وتقلباتها وبمقدرة البيان عَمَّا تحدثه الحياة في نفسه من تأثير".
وأحسب أن ما قاله نعيمة ينطبق على أستاذنا الرفاعي كما لو أنه قيل فيه دون سواه فهو الرجل الذي وهب حياته للعمل والفكر من أجل ذلك استعذب أقصى الصعاب.. كم سافر وتكبد المشاق من أجل تحقيق كتاب، أو الوقوف بنفسه على صحة معلومة تعينه على بحوثه ومقالاته.. وكم عانى من أجل أن يسكب في زوارق معرفتنا ما يبعث المتعة الفكرية والإبداعية فينا.. ومع ذلك كله لم ينل من فتات هذه الدنيا شيئاً إذ هانت عليه فكان عظيماً باستصغاره لها، عملاقاً باستقزامه لزينتها… كان رفاعياً بمقته لغرور استكبارها والمتكبرين عليها.
طيلة أربعين عاماً كنت متحداً به اتحاد العطر بالزهرة، لم أسمع كلمة نابية توخز ضميراً أو تخدش حياءً وهو ما عُرف به عند الخاص والعام… ولم أعرف عنه أنه غاضب أحداً فقد كان رحمه الله البشاشة تمشي على قدمين، لقد كان الرفاعي هو التواضع في هيئة إنسان.
إن الحديث عن مناقب أستاذنا الفقيد لن ينتهي عند الانتهاء من قراءة هذا الكتاب الذي اختار له مؤلفه عنوان "عبد العزيز الرفاعي.. صور ومواقف" لأنه يعلم تماماً أن الحديث عنه لا يمكن أن يبدأ من نقطة معينة لينتهي في نقطة أخرى… ففقيدنا كان بحراً دون سواحل… وجُل ما يستطيع المرء أن يقوم به تجاه التعريف بمناقبه هو أن يتعرض لبعض مناقبه ولصور من حياته التي يعرفها وقد يغيب عنه الكثير - لذا جاء الكتاب صوراً ومواقف من تلك الحياة الصاخبة الزاخرة بالمثابرة والعطاء - وبالحب، حب الناس جميعاً.. من عرف منهم ومن لم يعرف، وبالتالي فإن رصد حياته كسجل متناسق أمر على غاية الصعوبة، ذلك لأن فقيدنا الذي صعد إلى علياء ربه كان ضنيناً بإظهار مناقبه، صبوراً على الشدائد والبأساء، حتى أنه في مرضه الأخير كان ينتزع الابتسامة من بين مخالب الألم ويقدمها كزهرة ندية إلى رواده بما يحبون رغم تباريح المعاناة.
الرفاعي باختصار رجل أحب الله ورسوله فأحبه الله ورسوله… أخلص للأمة والوطن لذا أصبح اسمه منقوشاً على جذع الدهر، وسيبقى ما بقيت الفضيلة مرسى للأفاضل…
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم فقيدنا ويوفق صديقنا الأستاذ أحمد سالم باعطب لتكملة الأجزاء المتبقية بغية توضيح أكبر قدر من صور ومواقف فقيدنا الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
عَبْد المقصُود محمّد سَعْيد خوجَه
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1259  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج