شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة الثانيَة عَشرة
لقد كان الشعر الحجازي قد جمد في صوره وأساليبه وموضوعاته في القرون الأخيرة من العصر العباسي بتحكم الأعاجم في شؤون الدولة وقلة تشجيعهم للشعراء، وبتوالي الفتن على الممالك الإِسلامية، ويحدثنا التاريخ عن مدى ذلك النفوذ الأعجمي في ذلك العصر العباسي، وتقلص السمات العربية في طابع تلك الدولة في عمرها الثاني 232 - 335 هـ فقد كان نفوذ الأتراك والخدم واختلاف أجناس الجواري أمهات الأمراء من الأسباب التي أدت بالدولة العباسية في ذلك العصر إلى التدهور، فقد بدأ خطر النفوذ التركي يجتاح سيادة تلك الدولة في خلافة المعتصم بشره وتهديده، فكان الخليفة يتخذ منهم درعاً لإرهاب أهل بغداد وأهل فارس لميلهم للعلويين، وكانت أم المعتصم تركية فآثر الأتراك على غيرهم من شعبه، وجعل الغلمان من الأتراك في حراسته، فكانوا يبرزون في الميادين العامة والطرقات وهم يمتطون الجياد ويركضون بها ويصيبون من في طريقهم فتأذى الناس بهذا التصرف السيِّىء، وأخذوا يترصدون كل فرد من أولئك الغلمان ويقتلونه، فانتقل الخليفة إلى مدينة سامراء ليبتعد بانتقاله إليها عن بغداد، لقد وضع الأتراك حينذاك أنفسهم على مناصب الدولة الخطيرة يؤيدهم في ذلك المعتصم وأقصيت الوجوه العربية عنها وحل محلهم الأتراك بنفوذهم الخطير، فهم الوزراء وهم القواد وهم الولاة وأصبحت الأسماء التي تتولى الحكم في دولة عربيـة أسماء أعجمية أمثال (اشناس) (ايناخ) و(بفا الكبيد) (الافشين) ولم يقف هذا النفوذ التركي عند حد المناصب بل كان يمتد خطره إلى تولي الحكم في البلاد، فكان إذا ترك المعتصم العاصمة قام فرد منهم على مقعد الخليفة، وهم الذين توجوا ابنه الواثق وسار الابن على نهج أبيه، وجاء المتوكل بعد الواثق فلم يستطع أن يكبح جماح الأتراك ونفوذهم الجبار، وبوقوفه في وجه ذلك النفوذ لقي حتفه بتآمرهم عليه، وأصبح أمر الدولة بأيديهم يولون من شاؤوا، ويعزلون من شاؤوا فقتلوا المستعين والمعتز والمهتدي وحبسوا القاهر وسملوا أعين المتقي والمستكفي وضاع بذلك مجد الدولة العباسية وفقدت سيطرتها، وصارت دويلات متفرقة لا ترتبط بقلب المملكة ولا تخضع لأوامرها. (وكان الخلفاء يعتمدون على العنصر الذي تنتسب إليه أمهاتهم فكان الأمين بن هارون الرشيد يعتمد على العرب لأن أمه عربية، والمأمون يعتمد على الفرس لأن أمه فارسية، والمعتصم يعتمد على الترك لأن أمه تركية، فـإذا بالجيش يصبح خليطاً من العناصر المتنافرة وكان أضعفها عنصر العرب وتبع هـذا تسرب المؤامرات إلى قصور الخلفاء والدسائس، ولما لم يكن الأتراك أهل حضارة وعرفان فقد خسر الشعراء مكانتهم واتجه شعرهم إلى المديح والهجاء والوصف لكسب الجوائز لا للتعبير عن خلجات النفس وآمالها وأمانيها، وأخرسهم النفوذ الأعجمي من أن يثوروا لكرامتهم العربية أو يعلنوا السخط على الطغيان الأعجمي الذي تغلغل في صميم دولتهم العربية وسام العرب سوء العذاب، لقد أمعن الشعراء في هذا العهد الأخير في الصناعة كل إمعان فقل الطبع وكثر التكلف وضعف الاستنباط لأنهم لم يعبروا عن صدق إحساس وابتذلت المعاني والتعابير لأنهم لا يجرؤون أن يعبروا عن أحداث بيئتهم فظهر الابتذال والإِسفاف، ولا غرابة في ذلك إذا انعكست الحقائق وضلت العقول وهم في عهد انحدار من قوة إلى ضعف وسقم في الفكر ومن رفعة إلى خضوع وهوان، فلا بدّ للشعر أن تنهار مكانته الرفيعة وأن يهبط من أوج عظمته إلى الإِسفاف والابتذال.
وكان من جراء تنافس الدول في تقريب الشعراء وإقبال العلماء والكتاب على نظم الشعر الذي يعبر عن المديح المتكلف أن كثر شعراء المديح، فهم يمتدحون ليرضوا الممدوح وهم يذمون أعداء الممدوح ليكسبوا أجراً على هجائهم لهم، وهم إذا وصفوا أغرقوا في وصف موكب الخليفة بما يفوق حد الوصف المصطنع ويذكرون هطول الأمطار على مقدم الخليفة ويصفونه بالكرامة، خواطر لا تعبر عن شاعرية صادقة ولا تستوحي إلهامها من صدق الإِحساس وانفعالات النفس القوية، ومما يروى في هذا المجال الذي أصبح الشعر فيه أداة تكسب ووسيلة من وسائل العيش الرخيصة أن الصاحب ابن عباد بنى داراً فهنأه بها خمسون شاعراً، وأن صديقاً له مات حماره، فرثي الحمار كما روي بأكثر من خمسين قصيدة وكان من انقياد الشعر إلى غير أهله أن الشعر أصبح يعبر عن أغراض تافهة وخواطر مبتذلة.
وإننا إذا ما عرضنا لهذا العرض المتصل بتحكم الأعاجم فإننا نخلص منه إلى العهد الأيوبي الذي وجد فيه البهاء زهير 567 - 659 هـ فنجد أن الشعر قد انتعش في مدة الفاطميين وجاء الأيوبيون فكان لهم فضل كبير في عهدهم القصير في ازدهار فنون العلم والأدب، وازدهرت المدنية وللأيوبين يد بيضاء على اللغة فإن بلادهم أصبحت قرارة العلماء والأدباء لشغفهم بالعربية وعنايتهم بتعزيز العلم والأدب، لقد كانت العناية باللغة في عهدهم وعهد الفاطميين قبلهم أنهم عنوا بلغة الدواوين وأقام كل من الدولتين في عهدهما عالماً بالنحو يراقب الإِنشاء ويصلح الخطأ، أما الشعر فقد ارتقت أغراضه وأصبح الشعر الصوفي يعتنى به واشتهر فيه كابن الفارض في عهد الأيوبيين، وكان من أثر الحملة الصليبية وما لحق البلاد العربية من كوارث أن نزع الشعراء إلى التعبير عن آلام ومواجع الأمة التي يعيشون بها وكانت عوامل البيئة تبرز في أشعارهم.
فكان البهاء زهير في شعره مثالاً لصدق الشاعرية لأنه يعبر عن عوامل البيئة التي عاش فيها، وصدق المشاعر والانفعالات والأحاسيس التي برزت في أشعاره، وتجد في غزله طبعاً لا تكلفاً وسهولة لا تعقداً، تشعر فيه بحيوية متدفقة تتجاوب مع القلوب لأنها بعدت عن التكلف وترفعت عن الإِسفاف، وامتازت بصدق التعابير ولا نقول هذا عن البهاء زهير ونحن نقوم بدراسته لنطنب في آثاره أو لنمتدح فنه، ولكننا نريد أن نؤدي الأمانة للتاريخ فقد قال في هذا أحد المعول عليهم في تاريخ الأدب العربي وهو هيار في كتابه "الأدب العربي":
"إن شعر بهاء الدين زهير المهلبي يجعلنا ندرك ما بلغه لسان العرب من المرونة والاستعداد للتعبير عن ألوف من دقائق العواطف التي صقلتها مدنية خلفاء صلاح الدين الزاهية، وإذا كان البهاء زهير عاش في عصر شاعت فيه لهجة التفاهم بين الناس بكلمات ملحونة أو محرفة عن أصلها العربي، وأنهم إذا أرادوا النظم والإِنشاء لجأوا إلى كتب اللغة ليترفعوا بذلك عن لغة العامة ويتصلون في ذلك بأساليب الشعر القديم والنثر القديم فاختاروا لذلك العبارات الجزلة القليلة الاستعمال وأدخلوا المحسنات البديعية لتزيين الأساليب الشعرية والنثرية، لكن هذا لا يعطي للمعاني وضوحاً ولا للأساليب إشرافاً تستطيع الناس أن تشارك فيه وتتجاوب في معانيه، وكان الكتاب يكتبون لأنفسهم والشعراء ينظمون لأمثالهم، فكان البهاء زهير أقدر الناس في عصره بأن جعل اللهجة الشائعة بين الناس بعد تصحيحها بصحيح اللغة وتحريرها من اللحن لغة للشعر والنثر تعبر عما يجيش بالنفس من خواطر وما تفيض به من عواطف، وهو مجهود جبار قل أن يوفق فيه فرد بإمكانيته فلا بدّ لمثل هذا المجهود أن تقوم له جماعة من العلماء والأدباء وأن تتعاون في مجاله العلمي والأدبي بجهود جبارة، ولكن البهاء زهير اضطلع به وحده وحققه بنفسه، شأن من يحمل نفساً كبيراً ويروم مرتقى صعباً، وتوفق فيه إلى أبعد التوفيق، ولكن هذا التجديد في الأسلوب لم يرق لكثير من الأذواق التي أفسدها التقليد، هذا التجديد الذي يفك عنها قيودها ويخلصهـا من التكلف ومسايرة الفطرة كما قال ذلك الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمـه الله في مقدمته عن البهاء زهير لذلك كان البهاء زهير في شعره: موضع إعجاب المنصفين قال ابن خلكان في ترجمته للبهاء زهير: "وشعره كله لطيف، وهو كما يقال السهل الممتنع وأجاز في رواية ديوانه وهو كثير الوجود بأيدي الناس... الخ".
ولقد لمسنا أثر ذلك فيما قدمناه من شعره في المديح وغيره من أغراض الشعر وإذا ما قورن ذلك بشعر وأثر المعاصرين له نجد أن ما ذكره ابن خلكان في ترجمته عنه كان تعبيراً صادقاً ودليلاً بيناً على قوة شاعرية هذا الشعر وحسن أدائه، وأنه خلف لنفسه هذا المذهب الذي لم يسبقه غيره له وأدى فيه عملاً جباراً وجهداً موفقاً.
فليس من السهل أن يحول شاعر وكاتب لغة الحياة الجارية الملحونة إلى لغـة صحيحة صالحة للشعر والنثر بعد تطبيقها على قواعد اللغة وتحريرهـا مـن اللحن، فيؤدي بذلك عمل المحافظة على تراث اللغة وصحيحها وإيناس الجماهير بما يتقارب مع أذواقهم ومشاربهم دون تبذل ولا إسفاف ولا يتعالى على العامة بغريب اللغة والنادر استعماله بينهم، لقد حاول الأوربيون أن تكون المحادثة هي لغة الصحافة والأدب بعد تنقيحها وتهذيبها، ونجحوا في هذا وتوفقوا لأنهم لم يجمدوا ولم يقلدوا ويقفوا عند جو التقليد، وكأنهم أخذوا عن مذهب البهاء زهير تجديداً لأسلوبهم الأدبي، وإذا نظرنا في مدلول اللغة وأنها وسيلة وليست غاية، فيجب أن تخضع هذه الوسيلة لملكة الفكر ولتعبر عـن مفاهيـم الناس وأفكارهم في سياق التطور الزمني الذي يعيش في ظله الناس، فلا يمكن أن يتعالى الخاصة على العامة باستعمال الغريب والنادر من الألفاظ وهم في وسعهم أن يعربوا وأن يحرروا ما يتداولونه من الألفاظ مع ما يتفق مع المفاهيم السليمة ومراعاة قواعد اللغة وتطبيقها عليها، ولماذا لا نأخذ بمذهب البهاء زهير في أسلوبه الأدبي الذي أخذ به الأوروبيون ونحن أحق به وأجدر، فنستطيع أن نكتب ونتحدث إلى رجل الشارع بما يتقارب مع مفهومه ويتجاوب مع خواطره لأن الأدب ترجمان الخواطر واللغة تعبير عن مقاصد الناس وأغراضهم.
لنأخذ من لهجتنا الشائعة ونحررها من لحنها ونطبقها على قواعد اللغة ونؤدي بذلك سهولة التفاهم بين الخاصة والعامة، وكم نكون بهذا قادرين على السمو بإدراك العامة وأداء الرسالة الأدبية في هدفها الرفيع.
ونورد في هذا المقام شاهداً ودليلاً من شعر البهاء زهير ندلل به على عبقرية البهاء زهير التي توفقت كل التوفيق في إنشاء أشعار من الطراز الأول، يطرب لها الخاصة ولا تكون العامة أقل بها طرباً بلسان هو لسان التحاور ولسان البيوت والأسواق، كما قال عن أسلوبه الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمه الله، قال البهاء زهير يصف موقفاً لحبه العنيف:
لو تراني وحبيبي عندما
فـر مثل الظبي من بين يدي
ومضى يعدو وأعدو خلفه
وترانا قد طوينا الأرض طي
قـال: ما ترجع عني؟ قلت لا
قـال ما تطلب مني؟ قلت شي
فانثنى يحمر مني خجلاً
وثناه التيه عني لا إلي
كدت بين الناس أن ألثمه
آه لو أفعل ما كان علي
هذا هو السهل الممتنع كما قال عنه ابن خلكان، وما أروع ما فيه من التصوير الجميل، ولم يكن البهاء زهير عاجزاً عن مجاراة غيره من الشعراء المتزمتين في تخير الألفاظ العربية، المتأنقين في تزيينها بالمحسنات، فقد كان رجلاً عالماً درس الأدب والدين، وعرف من أخبار العرب الجاهلية والإِسلامية ما ينم عليه شعره، إذ يشير إلى الحوادث ويذكر أسماء كثيرين من الشعراء وغير الشعراء واختياره لكتابة السر في عهد الأيوبيين دليل منزلته من الرئاسة العلمية والأدبية.
نكتفي بما أوردناه في هذا المقال على أن نعود إلى مواصلة البحث في هذا المجال حتى نتم ما بدأناه لدراسة شاعر حجازي أحدث شعره وأدبه مذهباً جديداً في الأدب العربي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :849  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج