شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة الثَانيَة
عاش شاعرنا بين بيئتين مختلفتين، بيئة حجازية ولد وترعرع فيها حتى أصبـح فتى مستكملاً، وأخرى عندما نزح إلى مصر وعاش بها واشتغـل بإحـدى الوظائف الهامة بها، فهو يجمع بين ذكريات وانطباعات في نفسه عن الحجاز ومآثره ومقدساته، وبين مصر ومحاسنها وجمال طبيعتها، تطالعنا كل هذه المؤثرات والعوامل في شعره، في طبيعته، في خلقه. ولا بدّ لمن يعنى بدراسة شاعر وتحليل نتاجه أن يعرف المؤثرات والعوامل التي تأثر بها الشاعر، وأن يتفهم البيئة وأثر تلك البيئة في نفس الشاعر، والتي على معرفتها وإدراكها نستطيع أن نلمس أحاسيسه واتجاهاته.
يذكر المؤرخون للبهاء زهير علو مقامه في الإِنشاء في الدولة الأيوبية بمصر، وأنه تعين رئيساً لديوان الإِنشاء لتلك الدولة، وأنه ابتدع في الشعر والإِنشاء نمطاً جديداً خرج به عن التقاليد المرسومة في صور المخاطبات وفي الأساليب، فهو موجز لا يحب الإِطناب وهو مقتصد في زينة اللفظ، وهو نزاع إلى الوضوح والبساطة، فلا يرضى كثرة المجاز والكفاية، ومما نقلته لنا المصادر التاريخية رسالة كتبها رداً من الملك الصالح نجم الدين أيوب على كتاب لويس التاسع ملك فرنسا وهذا نصها:
"بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآلـه وصحبه أجمعين أما بعد، فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشـك وعـدد أبطالك، ونحن أرباب السيوف وما قتل منا قرن إلا جددنـاه، ولا بغى علينا باغٍ إلا دمرناه، فلو رأت عينيك أيها المغرور حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فإذا قرأت كتابي هذا فتكون منه على أول سورة النمل: أتى أمر الله فلا تستعجلوه، وتكون أيضاً على آخر سورة ص: ولتعلمن نبأه بعد حين ونعود إلى قوله تعالى وهو أصدق القائلين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين وقال الحكماء: (إن الباغي له مصرع) وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يسلمك. والسلام".
فكان البهاء زهير بهذا الأسلوب في رسالته مجدداً، فقد خلت من كثرة السجع ومن اللفظ الغريب ومن التكلف الذي اعتاد عليه معاصروه وسار على منواله الكتاب. وهو في شعره لا ينزل به إلى مستوى العامة ولا يغرب فيه باللفظ فيغرب بذلك على الافهام، ليسهل التفاهم والتجاوب مع الجمهور، فشعره من السهل الممتنع ويبدو هذا جلياً من قصيدة له يذكر فيها أمر نزوحه إلى مصر مع والده، وأنه كان انتقالهما إليها بثروة ووفرة في العيش وهي:
دخلت مصر غنياً
وليس حالي بخاف
عشرون حمل حرير
ومثل ذاك نصافي
وجملة من لآل
وجوهر شفاف
ولي مماليك ترك
من الملاح النظاف
فرحت أبسط كفي
وبالجزيل أكافي
إلى أن قال:
ولا أزال أواخي
ولا أزال أصافي
فصار لي حرفاء
كانوا تمام حرافي
وتنتهي هذه الثروة بهذه النهاية السيئة في قوله:
فبعت كل ثمين
معي من الأصناف
واستهلك البيع حتى
طراحتي ولحافي
صرفت ذاك جميعاً
بمصر قبل انصرافي
وصرت فيها فقيراً
من ثروتي وعفافي
وذا خروجي منها
جوعان عريان حافي
ولكن هذه الفترة القاسية من حياته لن تطول، وشكواه من نهايتها الأليمة لن تستمر، فقد طالعنا في جانب آخر من شعره بمدى ما أثر في نفسه من عوامل وأحوال نفسية واجتماعية ونحن نطالع له أول صفحة من حبه لمصر وتعلقه بها، فقد قال في هذا شعراً:
ولم أرَ مصراً مثل مصر تروقني
ولا مثل ما فيها من العيش والخفض
ويبدو تعلقه بها في قطعة أخرى من شعره حيث قال:
فَرَعى الله عهد مصر وحيا
ما مضى لي بمصر من أوقات
حبذا النيل والمراكب فيه
مصعدات بنا ومنحدرات
هـات زدني من الحديث عن النيـ
ـل ودعـني من دجلـة وفرات
ولياليّ بالجزيرة والجيـ
زة فيما اشتهيت من لذات
بـين روض حكى ظهور الطواويـ
س وجو حكى بطون البزاة
حيث مجرى الخليج كالحية الرقـ
طاء بين الرياض والجنات
ويبدو تفانيه في حب مصر بعد أن استقرت به الأحوال، وطابت لـه الأوقات. ويبدو شغفه بها أنه يتغـنى بها وبمواقعهـا، ويعتـز بها كموطنٍ مـن مواطن الجمال والمتعة والبهاء، فهو إن خص الحجاز بذكرياته وأشواقه فقد أكثر في حب مصر وتغنى بجمالها وحيا نسيمها الرطب وبالغ في وصف طبيعتها وأنها تبدو كجنة للعين، وأن ترابها وحصاءها مسك يفوح وأنه لا سلوان له عن أهلها، وليس في فؤاده موضع لسواهم وكيف يسلو وهو يعيش فيها بشوقه، وهو شأن من يحب ويتفانى في حبه ويشوقه ذكر محبه، فيتغنى به شعراً ويردد ذكراه:
سقـى واديـاً بـين العريش وبرقة
مـن الغيـث هطال الشآبيب هتان
وحيا النسيم الرطب عني إذا سرى
هنالك أوطاناً إذا قيل أوطان
بلاد متى ما جئتها جئت جنة
لعينك منها كلما شئت رضوان
تمثل لي الأشواق أن ترابها
وحصباءها مسك يفوح وعقيان
فيـا ساكـني مصـر تراكم علمتم
بـأني مـا لي عنكـم الدهر سلوان
وما في فؤادي موضع لسواكم
فمن أين فيه وهو بالشوق ملآن
عسى الله يطوي شقة البعد بيننا
فتهدأ أحشاء وترقأ أجفان
علي بذاك اليوم صوم نذرته
وعندي على رأي التصوف شكران
هذا هو حب البهاء زهير لمصر، وهذا هو شغفه بها، ولا يخرجه كل هذا عن حجازيته لأن الإِعجاب لا يعدو أن يكون عن ميل وعاطفة، ولكن الأساس الذي ينبت عليه مواهب الشاعر والنبت الذي نبت منه هو الأثر الذي يبقى مع الشاعر مهما اتجهت عواطفه وسلكت ميوله، وإننا نلمس هذا الأثر في شعره واضحاً جلياً وفي أغراضه المعروفة من مديح وهجاء ووصف، وما إلى ذلك من أغراض الشعر، واتجاهاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1722  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج