خَلَّفْتَ أسرابَ الطُّيور حَيارَى |
وَتَرَكْتَ أكْباد الأحِبَّة نارا |
وغََمَرْتَ آفاقَ العُروبةِ بالأسى |
يا وَيْحَها كَمْ غيّبتْ أقماراً |
تَبْنِي وتَنْسِل للخَراب وللرَّدَى |
لِمَ لا يَعيشُ عظيمُها الأدْهارا؟ |
ما بَشَّ قَلْبي مَرَّةً إلاّ بَكَى |
مِنْ وَقْـعِ أحـداثِ الزِّمـان مِـراراً |
يا صَيْدَح الشِّعْر الذي رَقَصَـتْ علـى |
نَغماتِهِ الدنيا… فُدِيتَ هَزارا |
عَجَباً أَتَثْوي في التُّـرابِ، وكُنـتَ لا |
تَرْضَى أقـلّ مِـنَ النُجـومِ جـوارا؟ |
ويَهيض جانحَكَ القَضاءُ، وكنْـتَ فـي |
ساحِ المَعالي جَحْفَلاً جَرَّارا |
تَرْمي وتُرْمى لا تَني لَكَ هِمّةٌ |
وتصولُ في غمراتها إعْصارا |
ما هَدّك الداءُ العَياءُ، وإنَّما |
خَطْبُ الدِّيـارِ علـى فُـؤادك جـارا |
أيموتُ مَـنْ وَهَـبَ القضيـةَ رُوحـه |
وبَنَى لها في قَلْبِهِ الأسوارا |
حمّلت نفسَك فَـوْقَ طاقَتِهـا، فهَـلْ |
أيْقَظْتَ جَفْناً أوْ أقَلْتَ عِثاراً؟ |
كم صَيْحةٍ للثّأرِ لَوْ أطْلَقْتَها |
في القَفْرِ لانْتَفَضَ الجََمادُ وثارا |
طافَتْ على الأسْماع، لكنْ لا صَـدىً |
مَنْ ذا يُلَبِّي شاعراً ثَرْثارا؟ |
يا شاعـري أشْكـو إليـك كبارَنـا |
فلَقَد غَـدَوا بَعْـدَ البلـوغِ صِغـارا |
يَتَزاحَمون على المعاصي خِفْيةً |
ويُحَرِّضون على الصلاة جِهاراً |
ماذا إذا انتُهكتْ كرامةُ شَعْبهم |
أوْ لم تَزَلْ لذّاتُهم أبكارَا؟ |
ذَهَبَتْ فلسطينٌ فلم تَغْضَبْ لها |
عَبْسٌ، ولا هزّ البلَاء نِزارا |
لكأنّها لم تُقْتَطَع مِنْ لَحْمِنا |
أترى ألِفْنَا فاسْتَسغْنا العارا؟ |
أضْحَتْ تُثير الضِّحْكَ مُؤْتَمراتُنا |
يا قَوْمُ لا يَلِدُ الرَّمادُ شَرارا |
شادَ الجدودُ لنا بناءً شامِخاً |
وأتى عليه خُمولُنا فانْهارا |
* * * |
يا شاعرِي، قُلْ للذيـن جَنـَوا علـى |
آمالنا: لا، لَنْ نعيش أُسَارى |
عارٌ بقاءُ الغِلِّ في أعناقنا |
الحُرُّ لا يَستعبد الأحرار |
إنَّ القيودَ عديدةٌ، وأشدّها |
قيدٌ تخمّنُه العيونُ سِوارا |
وسِيادةُ البَلَدِ العزيزِ خُرافةٌ |
إنْ لم يَكُنْ سَيْفُ الحِمى بَتَّارا |
كَمْ تَدّعون بأنكُم مِنْ أمةٍ |
طَلَعَتَ على حِـلَكِ الدُّجَـى أنْـوارا |
لَوْ صـحّ زَعْمُكُـمُ لكـانَ عَتادكـم |
للسِّلْم يبني ما تَرَون دَمارا |
الأرض – والتاريخُ يَشْهـدُ – أرضُنـا |
فعَلامَ تَغْدُو للدَّخيل عَقارا؟ |
وعَلامَ يَسْلُبُنا القويّ طَعامَنا |
وشرابَنا… ونُلَفِّقُ الأعْذار؟ |
لا بُدّ مِنْ يَوْمٍ أغرّ مُحَجّلٍ |
نَشْفي الغَليـل بـه ونَـرْوي الثـارا |
الوَحْدةُ الكُبْرى تَلوحُ وشيكةً |
فَلْنَفْتَحَنَّ لها الجوانِحَ دارا |
هذا النسيمُ لسَـوفَ يُصْبـحُ عاصِفـاً |
ولَسَوْف يَغْدو هَمْسُه تَهْدارا |
إنََّ العُروبةَ قد صَحَـتْ مِـْن نَوْمهـا |
لا كَهْفَ
(1)
بعد اليَـوْم، لا استعمـارا |
تَمْضي العُصـور وتَنْطَـوي أحداثُهـا |
ويَظَلُُّ في الدنيا اسمها سَيارا |
سَعَتِ الشآم إلى العِراق مشوقةً |
فاهْتَشَّ إسْلامٌ وبَشّ نَصارَى |
مَنْ كانَ في رَيْبٍ فليسَ يُفيدُه |
أن يَشْرئبَّ ويَشْحَذَ الأبْصارا |
داوَى المسيحُ عَمَى العيـون، ولم يَجِـدْ |
طِباً لِغاوٍ في الحقائق مارَى |
* * * |
يا عَبْقَريّ الشِّعْر يَجْمَع بَيْنَنَا |
عَهْدٌ زَكا سَبَباً وطابَ نجارا |
عَهْدٌ بنـاهُ الحَـرْف، لَمْ تَعْصِفْ بـه |
غِيَرُ النَّـوى، بَـلْ زِدْنـه استِقْـرارا |
شَطََّ المََزارُ بنا ولكنْ لم نَزَلْ |
نَرْعَى لرابطةِ البَيان ذِمارا
(2)
|
إني لتخْنُقني الكَآبةُ كلَّما |
طافَ اسمُها بين الرِّفاق ودَارا |
أوَ ذاكرٌ في ظِلِّها سَهَراتِنا |
نَتَطارح الأشعارَ والأخْبارا؟ |
تَخْتال أنْت على العَشـيرة (أخْطَـلًا) |
عَفّ اللِّسان وأزْدَهي "بَشَّارا" |
لا مَزْحَ يُنْسينا الوَقار، وربَّما |
لَبِسَ المُزاح إلى النَّدِيّ وَقارا |
أدْنَتْ لِعُشَّاقِ الجمالِ قُطوفَها |
وحَلَتْ لإِخْوان الصَّفاء مَزارا |
نَرْتادُها واللَّيْلُ في أَقْماطِه |
طِفْلٌ تَرَدَّدَ في الظلام وحَارا |
حتى إذا طَلَعَ الصَّبـاحُ علـى الرُّبَـا |
خَتَمَ الحديثَ وفَرَّق السّمّارا |
وتخالَطَتْ خُطُواتُنا، فكأنَّنا |
مِنْ خَمْر شِعْـرك نستميـلُ سُكـارى |
إنِّي لأحْني للفضيلةِ هامَتي |
وأغُضُّ طَرْفي للنَّدَى إكبارا |
لولاكَ يا ابـنَ الشـامِ لم يُعْـرَف لنـا |
أدَبٌ، ولَمْ يَعْرِفْ له أنْصارا |
أنْتَ الذي استَنْبشْتَه وجَلَوْتَه |
كَنْزاً تَخاطَفَ نورُه الأنظارا |
جَمَعَ الأنَاقَة والفَصاحة مِثْلَما |
يَلِدُ الربيعُ حَمامةً وكَنارا |
أنْصَفتَه، لكنْ بغَيْر تَعَصُّبٍ |
خَسِئ التعصُّـبُ فاستحـال شِجـارا |
سَجّلْتَ ألف فضيلةٍ لبُنَاتِهِ |
ورَفَعْتَه للتائهين مَنارا |
صَاوَلْتَ فيه الحاقِدين، تألّبوا |
لقِتاله، وَتَهيّأوا أظْفاراً |
جاؤوا بآلاتِ الدَّمار، وجِئْتَهم |
بالحقِّ، فانْقَلَب الهُجُوم فِرارا |
نَضَّرْتَ بالإِيمان كل مَفَازةٍ |
وقدحْتَ مِـنْ لَيْل الشُّكـوك نَهـارا |
يا صاحبي شَـرِبَ الزمـانُ مَدامِعـي |
فاعْذُرْ إذا لم يَنْهمِرْنَ غِزارا |
حامَتْ على قَلْبي الُخطوبُ فلمْ تَـدَعْ |
فيه لبارقةِ الرَّجاء مَدارا |
لولا نَـدَى غَلْـواءَ لالْتَهَـمَ اللَّظَـى |
عُشِّي، وأحْرَقَ زَهْريَ النُّوّارا |
نَشَرتْ علىّ جَنَاحَها، فأظلّني |
وَكَسَتْ طريقي نَضْرةً ونُضارا |
مِنْ وحي عَيْنَيْهـا أصـوغُ قصائـدي |
وأزُفُّهُنّ إلى الخُلودِ عَذَارى |
غَلْواءُ حُلّي في جَناحي عُقْدَةً |
أطَأ الثُّرَيا قَشْعَماً جَبارا |
ماذا أقولُ وقد تَبَلْبَلَ خاطِري |
وعَصَى البيانُ أميره الخَطّارا |
عِشرونَ مِنْ خَيْر الصِّحاب مضَوا، فمـا |
جَدْوَى البَقاء وقَـدْ وَهيـتُ جِـدارا |
كانوا كَواكبَ فـي سمائـي وانْطَفَـوا |
أتكونُ أيامُ الضِّياء قِصارا؟ |
جَمَعَ الدمُ العربيّ بين قُلوبنا |
ومَحَا الحدودَ وقرّبَ الأمصارا |
لم يَبْقَ مِنْ أصواتهم إلاّ الصَّدَى |
كالرَّبْعِ يَتْركُهُ الرَّدَى آثارا |
عابوا علىَّ كآبتي، وَلَو إنَّهم |
سَبَروا جَوايَ لأطْرَقوا اسْتِغْفارا |
في مُهْجَتي نارٌ وفي عَيْني قَذَىً |
بُلّوا غَليلي أو أموت أُوارا |
* * * |
يا شاعراً نَبَذَ السخَافَةَ مَذْهَباً |
واستَقْبَحَ الثَّوْبَ الزَّرِيّ إطارا |
يَغْزو السمـاءَ علـى جَنـاح خَيالـه |
ويَصولُ بَيْنَ نُجومِها هَدَّارا |
ما كُنـتَ خَصْمـاً للجديـدِ، وإنّمـا |
خَاصَمْتَ مِثْلـي الزَّيْـف والتَّهْـذارا |
وكَرِهْتَ أن تَعْفو لِبِدْعة مَعْشَرٍ |
رَكَبُوا الرَّطانة للخلودِ قِطارا |
أعياهُمُ الأُفُقُ البعيدُ، فآثَروا |
لخُمولِهم، أنْ يَسْكُنوا الأوْجارا |
أَكْبَرتُ فيك صَراحةً في الحقِّ لا |
تُؤْذي صِغاراً أوْ تهاب كِبارا |
قُلْ للذيـنَ علـى الجَمـال تآمـروا |
يَبْقَى الجمالُ، وتَذْهبون غُبارا |
حارَبْتُم الشِّعْـرَ الأصيـلَ فحـاذِروا |
عُقْبَى الغُرور… لَقَـدْ يكـون بَـوارا |
لا تَحْسَبوا التَّزْمير يُحْيي رِمّةً |
صَدَقَ المسيحُ فلَمْ يَكُنْ زَمّارا |
هَذِي المجلاَّت التي تُعْنَى بكم |
حيناً، لَتَهْزَأُ منكمُ استمرارا |
تَهْوي رؤوسُكمُ على أسْلاتها |
غَدْراً، وتَنْهمرُ الدماءُ جُبارا |
لَمْ تَرْعَكم إلاّ لتَفْضَحَ عَيَّكم |
وتزيدَكم في غيِّكم إصْرارا |
فَتَحسّبوا للكاذبين، فطالما |
كان الثَّناء لطالبيه شنارا |
* * * |
مَنْ يُنْبئ الفَيْحاء أنَّ هَزارها |
هَجَرَ الغُصونَ المائساتِ وطارا |
يا لَهْفَةَ الفَيْحاء تَفْقِدُ دَوْحةً |
زَهْراءَ طابَتْ مَنْبتاً وجوارا |
لَم تَلْوِها ريحٌ، ولم تَخْفِضْ لها |
رأساً بأدْراج السَّحابِ تَوَارى |
شَمَخَتْ ولكن لا غُـرورَ… وطالمـا |
زادَ الشُّموخُ ذَوِي الصَّغار صَغارا |
تأوِي إليهـا الطَّـيْرُ تَطْلَـب مَفْزَعـاً |
فَتردُّ عَنْ حُرُماتِها الأخطارا |
وَتَمُدُّ للراجي مَراحِم ظِلِّها |
وتُغيث مَـنْ غَضَـبِ الطبيعـةِ جـارا |
يا لهْفَة الفَيْحاء كم غَنَّى لها |
وبَكَى لِفُرْقَتِها دَماً مِدْرارا |
حَدَبَتْ عليه، وأطْلَقَتْه لِلْعُلا |
فَمَضَى يُصارع باسْمِها التَّيارا |
يَشْدو فتَصْطَفِقُ الخميلةُ نَشْوةً |
وَيهُزّ أعطافَ النَّسيم فَخارا |
لَمْ يَغْتَرِبْ عَنْ أَهْلِهِ طَمَعاً، وَلَمْ |
يَتْركْ مَرَاتِعَ أُنْسِه مُخْتارا |
لكنْ لكـي يُرضـي نـِدَاءَ طُموحِـه |
ويَرودَ آفاقاً ويَجْنيَ غارا |
حَمَلَ العُروبةَ في حنايا صَدْرهِ |
حِرْزاً يَقيه العادياتِ وسَارا |
فإذا اسمُه شَمْسٌ تمـوجُ علـى الرُّبَـا |
تِبْراً… وتَغْمُر أبْحُراً وقِفارا |
تَرْنو إليه النَّيّرات رواغباً |
لَوْ كُنّ في طُرُقاتِه أزْهارا |
يا شاعرَ الفَيْحاء هذي دَمْعتي |
هَلاّ اختَرَعْتَ لعيّها الأعذارا؟ |
أنا بَيْن سِرْبي بُلْبُلٌ، لكنَّني |
آليْتُ ألتزمُ السكوتَ شِعارا |
لكأنَّ صَوْتـي مـاتَ بَْـين جَوانحـي |
وكأنما غَدَتِ القلوبُ حجارا |
إنَّ الذي رَفَدَ البيانَ برُوحِه |
هَيْهَاتَ في حَرَم العَطاء يُجارَى |
أقْسَمتُ لَنْ يَجْزيـك حَقَّـك شاعـرٌ |
وَلَوَانَّهُ نَظَم السُّهَى أشعاراً |
عَقَلَ المُصابُ يَدي وشـلَّ فَصاحـتي |
فَلْيَبْكِ قلبي… إنَّ دَمْعيَ غارا |