شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم (1)
بقلم الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
الشاعِـر عبد الله بَلخير وأصالتـه العَربيَّـة
في بغداد على ضفاف دجلة ومياهه الجارية، المتدفقة عذوبة، وبين الخضرة الزاهية التي تموج بالسحر، فتمتع النفس بالجمال، والقلب بالنشوة.. كانت نفوسنا تحنّ حنيناً غريباً، وتستاف شوقاً عميقاً إلى رمال الصحراء الساحرة، وخيماتها المبثوثة فوق صدرها الرحب، فنحس بأنها تعزف الأعماق الروحية لحناً عجيباً، يبث مكنون متعة نشوى إلى تلك الكثبان والهضاب والبطاح.. وتطرب النفوس إلى الشعر الذي يحمل أوصاف الصحراء وحياتها، ويتغنى بالجزيرة وأزهارها وجآذرها، والأعاريب وأزيائها. إنها صلة الوراثة، أو صلة الحضارة، مع مورثات سكنت في اللاشعور، وحرصنا عليها، ورسختها الدراسات الحضارية لتاريخ أمتنا ومحصولها في بث الوعي، ونشر العرفان في كل صقع رفرفت فيه راياتها، وفي كل أرض ظللته أفكارها وعقيدتها.
أنه الحنين الذي يسري في شعر الشعراء، ويجوس في مشاعر الكتّاب العرب والمسلمين.. انحدر مع التاريخ العربي والتراث الإسلامي، فباح بالود، وأشرق بالحب للديار العربية مسكن العرب ومهبط الوحي.
لا شك بأن هناك عدة عوامل ربطت المثقَّف بالعراق، وبلاد العالم الإسلامي بالجزيرة، فتغنَّى بها ولهاً، لأنه استاف أنسام الصبا، وهبات الشمال والجنوب، وجنح في خياله إلى اهتزاز أعمدة الخيم وخفق الرياح فيها.. فآثرها على القصر المنيف والقط الأليف لأنه عاش في خيال مجنح غريب، يتنسم أزاهير الربى والبطاح دون أن يراها أو يعرفها.
فالعرار والخزامى في الجزيرة وجنجانها وقيصومها، لها وقع موسيقي عجيب، عذب الجرس، خالب الرنين في نفسه ومشاعره وقلبه.. تهز إحساسه ذكرياتها، وتملأ روحه شوقاً إلى مغانيها ومرا بعها، وتجمع الرغبة المشتاقة إلى رنات أسمائهم وهمسات عبيرها.
ذاك حب الصحراء العربية، وحب قطاتها العرب، ورثناه ذكريات ضبابية حلوة، وهمسات حنين شجية الترنيم، تسربت إلى النفوس، ولامست القلب، وسكنت في شغافه إن كان الشغاف أسمى مكان في درجات الحب، لم تذهبها الأيام، ولم تمحها خطى الدهر، وطول العهد، لأنها موسيقى أوتار الحب الذي علق في القلب، وسار مسرى الدم.
كان الحائط السياسي السميك يحول دون بلوغ الأماني في الوصال. وكانت القطيعة التي فرضتها الظروف تلجم الشوق من البوح، وتصد الأحلام عن تحقيق اللقاء.فكان حصادنا منها ما غار في القلب من الشوق، وما استكن في النفس من أمل مشرق المحيا باسم الطلعة في المستقبل. وما أكثر الأماني وأحلى الأحلام في المستقبل! ولولاها ما عاش الإنسان، ولَران اليأس على قلبه، وهيمن الموت على روحه.
خرج العرب بعد الحرب العالمية الأولى مِزقاً يلوكها الغرب، وجثثاً يدوسها بسنابك خيله.. يعبث بمصالحهم، ويتمتع بالجني الرطب من خيراتهم.. وأنّى للمِـزق أن تكون جسماً؟! ومتى دبَّت في الجثث الحياة؟!! ليس لها غير الأحـلام، ولا تملك إلاَّ الأماني تطل من حنايا النفس، وتشرئب في استحياء وخوف ورعب، تنشد الوحدة لجمع الشمل الممزَّق، وتطلب التقارب لإزالـة هـذه السدود والحدود والتطاحن، وترجو مـن الله تعالـى أن تشفـى الأرواح المريضة، والجثث المصابة.
وكان فرح التاريخ العربي ثملاً بالوحدة التي تحققت في الجزيرة العربية، وكان يحلم بأنها سوف تسري إلى الجزيرة كلها، والى العرب أجمعهم.
إن من لم يَعِش في بلد أصيب بالاستعمار، وأُهين بالحكم الأجنبي الذي لا يربطه به دين أو لغة أو تاريخ، لا يعرف رفّات الحنين العميقة التي تسكن قلوب الأحرار تطلُّعاً للحرية.. ولن يعرف أحلام الشوق العارمة للانطلاق في الأجواء الواسعة للكلمة المحبوسة، والأفكار المقيدة.. إلا السجين المقيد الذي يرسف في دجنات الطغيان.
فقد عاش العرب في جزيرتهم يترحَّلون من مكان إلى رَبْع طلباً للكلأ النضير والمرعى الوفير، بعد أن دالت دولتهم. ومهما كانت تلك الحياة، بجوعها وشبعها وعطشها وعوزها، فأبناؤها لم يتجرعوا ذل الحكم الأجنبي وهوانه الروحي، وهو أقسى من ألم الجوع والعطش والفاقة والمرض..لأنهم ما اشتووا بالإهانة الغربية وما ذاقوا مرارة حياتها وحرقة نارها ولظاها.
ومن ذاق هوان الاستعمار، ومذلة رؤية الوجوه الأجنبية خلال الديار، الذي فرَّق الجمع، وبدَّد الشمل؛ تهزه الأشواق إلى الانضمام إلى إخوانه، وتطربه همسة الحرية والوحدة، وتملأه نشوة كل خطوة من خطواتها ترددها الجوانب والجوانح.. ويعمق أثرها إذا جاءت من الجزيرة العربية الأم العزيزة، والنبع الثر الزلال.
كانت حفاوتنا ونحن طلاّب في المدرسة الابتدائية كبيرة عندما جاءت مجلة "الفتوة" تحمل قصيدة هزت الجوانح والنفوس، تتغنى باسم بلدان العرب، ألقيت في وفد الكشافة الذي ذهب إلى الجزيرة.. مرحِّبة تقول:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
أشدو بذكرها وأهتف باسمها
في كل جمع حافل أو نادي
منها خُلقت وفي سبيل حياتها
أسعى وفي إسعادها إسعادي
كلٌّ له في مَن أَحبَّ صبابة
وصبابتي في أمتي وبلادي
لأنها عزفت أجمل لحن، وأرق نغم على وتر العروبة، النابع من الجزيرة. فحفظناها لجمال أسلوبها، ودفق عاطفتها، وصدق عباراتها.. إنها عبرت عن رغبة كامنة في نفوسنا نحو الجزيرة العربية، ونحو الوحدة الكبرى..
بقي الصدى العذب يلازمني، وبقيت حروف القصيدة راسخة، تصاحبها الرقة، والعذوبة والفكر العميق. كنت أرددها في المناسبات، و أسال عن شاعرها الركبان.
وفي يوم من أيامي في المجمع العلمي العراقي ببغداد، جاءني الصديق الدكتور شريف، وقد حصل على الدكتوراه، ومعه رسالة من عمان.. ولم يكن يعرف ما يحمل هذا الصديق من مفاجأة سارة.. أبحث عنها منذ سنين طويلة الأمد، وما كنت ادري ما كان يحمل.. لكنني صرخت من الدهشة والغبطة.. وقلت : أنه الشاعر الذي أبحث عنه، والقصيدة التي ألوذ بها في ذكرى الجزيرة العربية وأمتنا كلها.. إنها تهتف بصدق بعواطفنا، وتنشد بعمق رغباتنا الأصيلة.. كادت الفرحة تطفر على وجهي ومشاعري وأنا أردد:
يا مرحبا ببني العراق ومن بهم
يعتزُّ كل موحد بالضاد
ببني الذي ملك البلاد بأسره
هرون رافع راية الآساد
بمحرري أوطانهم بسيوفهم
والقاطعين بها عرى الإفساد
فرح الزميل، فقد كانت فرحة الترحيب به ضمن أبيات الشعر لأن الشاعر يرحب بكل عراقي.. إنه شعر عبد الله بلخير القائل:
مدَّ العراق إلى (الحجاز) يمينه
ومشى المقام مرحِّباً متهادي
وترجلت (صنعا) وقام مرحِّباً
(بردى) يصفق بين دَوْح الوادي
وسرعان ما أصبت بخيبة أمل كبيرة، عندما لم أجد عنوان الشاعر مع رسالته.
فقلت : واخيبتاه! أبَعْد هذا الانتظار الطويل، وإشراقة الأمل الحلو، يطويها ظلام اليأس..بسرعة..وتختفي الأحلام الجميلة..؟
رسالة بلا عنوان المرسل أشد ألما على النفس من القطيعـة، ففي القطيعة يأس، وفي الرسالة أمل وحنين باللقاء، حال دونه العنوان المجهول.
كان عزائي بنسخ متعددة من قصيدة (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) فقرأتها، وأحسست بالمتعة الفنية في صورها الكثيرة التي منها :
تشرئب الذرى على جنبات الأرض شوقاً إلى سماه دفينا
يملأ النور من مجرتها الوديان والسهل والربى والحزونا
فإذا كل قلعة من قلاع الأرض قد أطبقت عليه الجفونا
وهزني الشعور الديني العميق الصافي الذي ينساب صادقاً،عميق اللحن العاطفي، ووقفت عند قوله:
فـإذا الغـار في طيوف من النور تغشت مكانه والمكينا
هذه حركات الجماد في الذرى وسطوع النور في الكون، وإطباق جفون بطاح الأرض تحتضن بشوق ولهفة سماء الرسول وذكره. إنها من أجمل صور الفن الشعري، والصدق العاطفي، والإيمان العميق.
ومضى الزمن سريع الخطى، يخب يطوى أعمارنا، ويسجِّل انقضاء سني الإنسان دون تؤدة أو تأنٍّ. وعلى حين غرة وجدت نفسي في ظلال الرياض، أسعد بظلها الظليل، وأمتع النفس بصحبة أماجدها وكرامها، وأتنسم صبا نجد نقياً عذباً، ولا أكلفه المسرى إلى روابي بغداد. وكان شوقي إلى معرفة الشاعر كبيراً. ولما سألت عنه قيل إنه جوّاب أسفار، ورحالة آفاق.. لا يستقـر في بلـد.. ففي كل يوم له مستقر، ولكنه يقيم في جدة في بعض أيام السنة.
وكنت أسعد بصحبة الأخ عبد العزيز الرفاعي وأدباء ندوته بين آونـة وأخرى.. ولم أكن قد تعرفت على الناس بعد. وتذكرت الشاعر وأنا في جلسة من جلساتها.. فالتفت إلى جارٍ لي، لطيف المحيـا، باسـم النظـرات، رقيـق العبارة، وهمست له بشوق وعفوية:
- هل في الحاضرين عبد الله بلخير؟!
قال هامساً:
- ماذا تريد منه؟
قلت:
- أريد أن أتعرف عليه.. أو أعرف عنوانه.
قال برقّة محببة :
لا حاجة لك بالعنوان..
ولولا لطف الرجل ورقّته لثرت على تلك البسمة المشرقة التي ملأت وجهه.. واستدرك قبل أن أقول شيئاً:
- أتريد عنوانه ؟!
قلت بحزم وأدب ورضا:
- نعم..
وبلا مقدمات احتضنني الرجل، وقال :
- أنا عبد الله بلخير.. وأنت فلان..
فلو عزفت موسيقى الدنيا ألحانها اللطيفة، وهبَّت نسائم العبير برياها وعطرها رخية عذبة.. لما سعدت كما سعدت بهذا اللقاء الجميل والشوق العميق الصادق..
قلت: لك علي فضلان..
الأول: شعرك الذي علمنا.والثاني : رسالتك..
وعقدنا أواصر الود، وسمقت شجرة الحب بيننا زاهية الثمرات نضرة الرؤى.
وكنت أعجب من صمته طوال هذه الفترة.. وكنت أستحث الصديق الكريم على نشر شعره. وحمدت الله أنه نشر شعره وأنا في الرياض، إنه بعـث جديد لشاعر رائد..
شاعرنا عاش بعيداً فترة طويلة عن الأضواء، فقد انغمر في عمله الرسمي، وأنشأ مؤسسة جديدة وقف لها كل ما يملك.فكان مخلصاً في كل عمـل.. والجمهور سريع النسيان والتقلب. والنقاد في الوطن العربي أو أشباه النقاد لا يكترثون إلا بالأدب الرسمي وأصحاب الألقاب.. أو أصحاب الآراء المتقاربة، ومن مدعي الحداثة والتطور، أو من الثلل ذات النفع المشترك. ولم يكن شاعرنا موظفاً كبيراً أو من أصحاب المنافع، أو من أصحـاب المنافـع، أو من الآراء النفع المشترك، فبعدوا عنه.
وبالرغم من أنه من رواد الشعر الحديث، وقلما يجود زمنه بمثل هذه القريحة الفياضة، والنفس الطويل.. فما وجدت له ذكراً واسعاً في الكتب التي كتبت عن هذه الفترة باستثناء ما كتبه الدكتور بكري شيخ أمين، وعثمان حافظ، وما جاء في وحي الصحراء.. وهي صبابة لا تطفئ ظمأ الباحث الذي يريد البحث الطويل، والتفصيل الوافي لدراسة أوجه الشاعر الفكرية و الأدبية.
الحديث عن شاعرنا طويل، فقد عالج كثيراً من القضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة، وأسهم في رسم صور حوادث عربية وحضارية لم يلتفت إليهـا إلاَّ القليل. وأبرز هذه الصور ما رسمه لأمته العربية وتاريخها وحضارتها القديمة والحديثة. فهو من القلة القليلة المعاصرة، التي حباها الله بالشعور العربي الصافي، والإحساس القومي النبيل، والدعوة إلى الوحدة العربية في ظل التيار الديني الحنيف وضوء تعاليمه السمحاء.
فقد هتف للفكر العربي وهو طالب في مدرسة الفلاح ولازمه حتى هذه الساعة التي انشغل غيره من الشعراء عن أمته وقضاياها بمشكلات بعيدة عن مجتمعه وحضارته وأوجاعه.
ومدرسة الفلاح كانت القاعدة الصلبة التي تربى على لغتها الشاعر، فقد زودته الزاد العربي الأصيل من اللغة والنحو والفقه.. لأنها كانت تعنى باللغة العربية، وتراث الإسلام الأصيل. ومتى نشأ الشاعر على قاعدة فكرية عربية قوية، فإن نموّه اللغوي وحسه الشعري لن يتردى في حمأة الإسفاف والضعف. ثم تفتحت أمامه آفـاق المعرفة الأجنبية، وتعرف على الحضارة الغربيـة فـي دراسته في الجامعة الأمريكية.. وبذلك لم تبهره حضارة الغرب، إنما احتواها واستفاد منها، لأن الحضارة العربية أعطته المناعة الفكرية وزودته قوة في اللغة والعقيدة. أخذ من التيار الجديد، واستفاد منه دون أن يضيع شخصيته وإيمانه بأمته.
وبلخير من رواد النهضة الفكرية والأدبية في الجزيرة العربية التي بدأت في زمن الشريف حسين متأثرة بالدستور العثماني الذي أعلن في سنة 1908م، ففتحت آفاقاً جديدة، واتصلت بالعالم بعد خمود وانكماش داخل الموروث الحضاري.. بما وردها من مطبوعات من مصر والعراق والبلاد العربية الأخرى.. وسمقت هذه الشجرة في عهد الأسرة السعودية.. وإذا ما درسناه فلا يمكن إغفال الغزاوي ومحمد سرور الصبان، ومحمد حسن العواد، وحسين سرحان وعبد الوهاب آشي وغيرهم من الرواد الذين تركوا آثارهم في الشعر العربي الحديث والفكر المعاصر.
حافظ شاعرنا على أصالة الشعر العربي، واحتوى الفكر الغربي، وتغنى بأمجاد أمته وتراثها الحضاري الزاهر، كما سار من قبل احمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والرصافي والكاظمي، والزهاوي.. وعندما أقرأ شعره أحس بدبيب صادق ينساب في شعره يعلو حتى يصبح فكراً واضحاً، وعقيدة صافية، فهو صاحب إيمان عميق بأمته وتاريخها..
فلا غرابة إذا كان شاعرنا مصلحاً ومفكراً مؤمناً، إذ استنهض الجيل، وذكرهم بماضي الأمة العربية وتراثها الإسلامي.. إنه صاحب حس تاريخي عميق الغور لاتساع معارفه وسعة دراسته للتيارات القديمة والاتجاهات الحديثة.
وقد كثرت أسماء المدن العربية والقواد العرب في شعره، مثل: الشام، والفسطاط، وبغداد، والقيروان، وفاس، وحضرموت.. مذكراً بان تعدد الأسماء لا يدل على الفرقة، لأن شوقه إلى أية مدينة من هذه المدن مثل شوقه إلى مكة المكرمة، وجدة والرياض..
وتدفعه الرابطة العربية العميقة إلى تفقد المسلمين في كل أنحاء العالم من الفلبين وإسبانيا حتى غانة وكينيا.. إن ترديد الأسماء العربية فيه إيحاء روحي للشباب ليعيد للنفس الثقة بالوحدة العربية والتضامن الإسلامي.. ويهز الفكر المعاصر الذي انفجر في التيارات الغربية الفكرية والأدبية، وابتعد عن تاريخه وحضارته وأسماء قادته بعد أن ضاعت شخصيات شعرائه في هذا المد الجديد دون وعي أو إدراك، فكتب أدباً لا صلة له بالعرب والإسلام، إلا الحروف العربية التي سجل فيها هذا الإنتاج الذي سميته أدباً تجاوزاً.
جاء هذا الأدب سطحي الفكرة، غامض القصد، غائم الأماني، خائفاً قلقاً.. لأنه لا يملك القاعدة الثابتة الصلبة من اللغة الأصلية، والتراث الحضاري السليم، ولو درس الآراء الغربية، وتعرف على براعتها النفسية، وقاعدتها الاجتماعية، ودوافعها السياسية لعذرته.. لكنه يجهل كل شيء، إلا ما ترجم ترجمة سيئة رديئة، وإلاَّ حرصه على النشر، وادعاء الحداثة والتقدمية والعصرية والتجديد وما هو غير التقليد الرديء.
إن دراسة اللغة العربية دراسة واعية، وتزويد الفكر حضارة العرب الأصلية، سوف يمنح الشاعر قوة في الأداء، وسلاسة في التعبير، ووضوحاً في القصد، رغم اختلال المُثُل في الوطن العربي، والاضطهاد الفكري، وحبس حرية المفكر الواعي، وكسر قلمه، وقطع إصبعه.. ففي البيان العربي سعة للقول، وميدان للتعبير في المجاز والتورية والرمز الذي يزخر به أدبنا العربي.. مع أننا لا نحتاج لمثل هذا الالتواء في الأقطار الغربية.
شاعرنا يتخذ كل وسيلة في الشعر لبعث الهمم، سواء نظمه في الأعشى ومنفوحة، أم حيّا مجلة، أو فرح بنجاحه ابنه سبأ. قد كتب إلى مجلة "عالم الكتب" (3) قصيدة تداعت أفكاره فيها إلى ثقيف، ومحمد القاسم، والوحدة العربية، والمجد الإسلامي.. منها :
أهلا بدار ثقيف هل سمعت
أذناك من اسم ومن نسب
أشجى وأروع من نداك به
في سمع كل موحد عربي
لكأن في أصدائه عبق الـ
ـفتح المبين على مدى الحقب
ومحمد بن القاسم الثقفي
وبني ثقيف القادة النجب
يدوي به التكبير مذ طووا
الأهواز نحو السند في صخب
ويذهب إلى القارة الأمريكية ليمتع نفسه بتسلم ابنه الشهادة، فيقول:
فتى من بلادي وابن قومي وأمتي
ألا سلمت أم، سقته العلى دّرا
أسائله ممن فتانا فقال لي
بزهو من البدو الألى غلبوا الحضرا
فقلت أمـن عدنـان؟ قال أنا أنتمي
إلى كل فخذ في جزيرتنا الخضرا
وسيان عندي البدو والحضر كلهم
قبيلي، أمن قحطان أم مضر الحمرا
أنا حضري الدار لكن مولدي
بإحدى الرمال السافيات من الغبرا
لجدي على كثبانها الحمر خيمة
ترف بها أطنابها الصبح والعصرا
إن الأمة العربية لم تتحالف عليها المصائب، وتتفق عليها المحن، وتتكالب عليها الأعداء إلا من تفرق كلمتها، وتمزق شملها، وانتشار الإقليمية الضيقة في ربوعها، وخلق قوميات جديدة في ديارها.. فأصبحت الشام فيها أربع قوميات هي: السورية، واللبنانية، والأردنية، والفلسطينية.. وبذلك سهل على الأعداء إخراج فلسطين وبلورتها قومية واحدة، وكأنها قائمة بذاتها، أليست فلسطين جزءاً من الشام العربية؟ وللأسف سرى هذا التيار في الجيل الحاضر، وتبنى هذه التفرقة والتجزئة. وكنا إذا ما تركنا ديارنا لا نقول إلا بأننا عرب وبأننا مسلمون.
فقد سرنا في الخط الذي رسمه الأجنبي، وحققنا ما أراده منذ القرن الثالث عشر الهجري والتاسع عشر الميلادي..وقد حافظنا بكل حرارة وحماسة وبلا تفكير أو وعي ما خطط لنا، وأصبح هدفه جزءاً من اللا شعور..لا يمكن التخلص منه.
كنا نقف بقوة أمام إحياء التاريخ القديم في العراق وسورية ومصر.. عندما رسم المستعمر آثار بابل ونينوى، وفينيقيا والفراعنة على الطوابع والنقود. والمصيبة أن أبناء العرب هم الذين يروجون اليوم لهذه الإقليمية حتى أصبحت الأمة العربية دولاً تتقاتل، بل إن أبناء الإقليم الصغير بدأوا يفتكون بوحشية بإخوانهم، ويفترسون أبناءهم وأحبتهم في الأمس القريب وأصبح أبناء القضية الواحدة يتحاربون بالسلاح الأبيض.
كنا نقول نحن عرب من العراق أو الشام أو اليمن.. فأصبحنا نقول بأننا عراقيون وسوريون وسعوديون.. وأخيراً خليجيون.
يا الله أخشى أن يأتي يوم نقول: أني بغدادي أو موصلي أو بصري أو رياضي وشقري وعنيزي وقاهري وتعزي وتطواني.. والحبل على الجرار حتى تصبح للقرى والأرياف قوميات جديدة.. مثل دول المدن في أوروبا في القرون القديمة.
هذا التمزق، وهذه الفرقة والإقليمية جرأت علينا الأعداء، وأصبحت إسرائيل تشمخ في بلادنا، وقالتها بصراحة وسمعناها من الأمير سلطان بأن ضمانة إسرائيل هي في تفرقة العرب، وخرابها في وحدتهم.
بعد عهد طويل من صمت لقيثارة بلخير، بدأت أصابع العازف الماهر تسمعنا من جديد جميل الأنغام وحلو الألحان. وكانت دهشة الشعراء واضحة للنفس الطويل، والقافية الموحدة، والمواضيع العربية الأصيلة.. يعالجها بأسلوب عصري جميل، وطريقة بارعة حديثة.. يصل الماضي بالحاضر. وتدفق عند الشاعر ينبوع الشعر عذب الدوي، دافق الأصالة ثرا، ودهش شاعر الحضارة المعلبة، والمقلد للفكر الغربي، وضائع الشخصية الشعرية في تيار الغرب العارم من طول النفس الشعري عند بلخير.
وشاعرنا بلخير لأصالته، فإن دراسته للفكر الغربي الحديث، واحتكاكه المباشر بالثقافة الأدبية، بقي صافي الأديم، عذب الرواء، حلو الجرس.. لأن جذوره الثقافية صانته من هذا العبث الجديد، ووازن بعقله بين الماضي والتيار الجديد، فغلب الصفاء العربي والحس التاريخي على تيار الفكر الأوروبي. فقد رأى الهمجية الشرسة على العرب في كل حياتهم، وما عاناه إخوانه من نكبات الفرقة والتمزق.. فصاغ شعره ليعيد الثقة بالفكر العربي والتيار الحضاري الأصيل ويوصل وشائج هذا الشعر الأصيل، ولا يستبدل الغرب بالعرب في طراز أدبه.
في شعر الشاعر يطل تاريخ العرب بعامة، وجو المملكة العربية السعودية بصورة خاصة نتيجة تجاربه الكثيرة، في ترحاله بين مدنها، واحتكاكه برجالها، ولا سيما الملك عبد العزيز (رحمه الله) الذي وحد الجزيرة العربية.. فطرب شاعرنا للأمل الكبير الذي كان يراود أفكارنا بعد أن سرت روح التمزق والتفرقة في نفوس العرب، فقال:
متى يجمع الله الجزيرة كلها
على راية كبرى ترف وتخفق
جزيرتنا الكبرى منارة مجدنا
وعالم دنيانا التي نتعشق
نذرنا لها أرواحنا وقلوبنا
فكل فؤاد في هواها يصفق
ونؤمن إيمان النبيين أنها
لنـا الوطـن الأسمى به نتعلـق
والصدق ينساب في عاطفة الشاعر مع جلاء القصد، وسمو الغاية. وغذى شعره غزارة التجارب الواضحة في وصفه ومدحه وفرحه وحزنه.. لأن الشاعر لم ينظم في سبيل مطمع خاص، أو مكسب فردي، أو أمل شخصي.. فقد تجاوز الرجل هذه المرحلة بما حباه الله من قناعة، وما أعطاه الله من رضا ونعم.
وقد سيطر بأسلوبه الجميل وقابليته الكبيرة على تجاربه الشعرية وصوره الفنية، ووازن بين تدفق العاطفة وسمو الخيال وبين العقل والمنطق. واستفاد كثيراً من تجارب الحياة الاجتماعية، والاتجاهات الحضارية التي استقاهـا مـن المنبعين: العربي والغربي.
وأخذ مكانة واضحة بين شعراء العرب المعاصرين، بعد أن أقنع ذوق القارئ المرهف، وأرضى المتعة الفنية، وروى الخيال المجنح، وربط بين المعاني الجميلة وبين الحياة الاجتماعية.
وشاعرنا واضح التجربة، رقيق العاطفة، وصـادق الإحسـاس، عميـق المشاعر، ملتزم بالمنهج العربي والفكر الإسلامي.. لا يتكلف في شعره. وأكثر شعره قوي الصناعة، لا يشذ عن الإطار الفكري الأصيل، ولا المضمون النفسي العميق الذي يعكس الغرض الاجتماعي الهادف. وإيقاع ألفاظ الشعر وتركيبه الفني حلو الوقع، رغم طول القصائد، والجهد النفسي الذي يبذله في المطولات.. وقلما يهبط أسلوبه الشعري أو يسف في قصده، لأن قصائده صادقة الإحساس، وعميقة الجذور تهدف تقرير الواقع وتهدي إلى مزاياه.
وقد نوع شاعرنا في المواضيع التي طرقها لكثرة التجارب والأسفار المتنوعة والاحتكاك الكثير بالأحداث العامة، واختلاف البشر والصور في ظلال الفكر العربي الإسلامي الإنساني. وقد أثرت به أحداث العرب وأرقته عندما رأى الأمة العربية في انقسامها وتمزقها، فزادت الأحـداث الكثيرة من ألمه، فظهرت في صدقه الفني وجمال المضمون الشعري، وسمو المحتوى الفكري للقصائد الطويلة.
وبالرغم مما يدعيه بعض النقاد من أن شعر المديح يمثل انحداراً في الشعر، وانه بعيد عن العاطفة الصادقة، ويمثل أدب التزلف والملق السياسي.. فأنا أرى أن هذا الشعر كان سجلاً للأخلاق العالية التي سجلها الشاعر، وتمناها أن تسيطر على المجتمع، لغرس المثل العالية بين الناس، والتأكيد عليها. فقد سمعت وأنا طالب بكلية الآداب خطاب الدكتور طه حسين في الملك فاروق، وكان يرتفع به حتى وصل بنا إلى السحاب، وطاب حتى شممنا رائحة الطيب تفوح في قاعة الحفل.. ولما ذهب الملك، وعوتب في كل ما قال، قال أنه كان يجسد الفضائل العالية والسجايا الكريمة التي يراها جديرة بأن يسير عليها ملك مصر. وتلك صور المديح في أكثر شعرنا.
ودعاة التجديد الذين يهاجمون المديح الذي نظم في قادة العرب وخلفاء المسلمين، تحولوا هم إلى عبادة وثن أجنبي، واستماتوا في تأليه الفرد، ورفعوه فوق مصاف الناس.
فأين إذن نقدهم؟ كل ما في الأمر أن العرب صوروا المثل العليا والسجايا الكريمة في المديح.. والمعاصرون رسموا صورة لفكرهم، وجمدوا هذا الفكر، وهاجموا من لم يكن عبداً لهذا الوثن الجديد الذي سموه فكراً أو أسلوباً أو تقدماً.. الذي مثل صاحب الفكر وكاتبه الذي جمد وتحجر على شعارات ومثل حجرية ذهب بجديتها الدهر وعفا عليها الزمن.
وقد امتاز شاعرنا برسم الصور الشعرية المشرقـة تزين شعره في كل حدث جديد أو تجربة صادقة.. فقد وصف الحنين العميق، والذكريات العذبة عندما ذهب إلى التنهات، واستاف عبقها وحلو أيامها عند قوله:
طيوف من الذكرى الشجية والوجد
ترامى بها عمري على الجزر والمد
تراءت على فكري تضيء وتختفي
كومض الرؤى أو كالشرار من الزند
تشع بذهني من وميض تلالات
أشعته عبر السنين على العهد
تفيض على لبي وحسي وخاطري
وتشرق في قلبي بقربي أو بعدي
وأذكر أيامي بنجد تضمخت
من الشيح والقيصوم والرمث في نجد
أحن لذكراها وذكرى رياضها
وغدرانها في ما أعيد وما أبدي
أروح وأغدو في رفـارف نورهـا
كأني بها أختـال في زمـن الخلد
طويت بها أحلى وأغلـى شبيبتي
أجوب بها ما يستثار به وجدي
فأذكرها ذكرى المرتل ورده
إذا ما تبدى في المصلى على الورد
ما أحلى ذكريات الشباب، وبدوات الصبا، ومآرب النفس التي رسمها شاعرنا في أيام المقابض في التنهات والصحراء العربية الساحرة، وما كان فيها من دلال القهوة، وفوح الهيل، واجتماع الصحب حول موقد الساحرة، وما كان فيها من العودة من الصيد وتجاربه الكثيرة. إنها صدى لصورة جميلة من الطبيعة دون زيف. صور فيها عبث الشباب البريء المصطلي بنار الحب العفيف، والخلق القوي، ليحارب نزعات النفس وصبوات الروح، وهو يصطلي بأتون الصبابة العارمة:
ونصبح فـي أسرابنا انطلقت بنا
تحوم كأسراب الصقور على الورد
نخب إلى غدرانها حين تلتقي
عليها العذارى الواردات على الوعد
مـن البدويـات الصباح جـآذر ال
بطاح مثيرات الصبابة والوجد
تعطرن من ما فاح والتف حول ما
أقمن به من أقحوان ومن ورد
نزاحمهن الكتف بالكتف كلنا
يزاحـم حتى يلتقي الزنـد بالزنـد
ونغترف الماء القراح وكلنا
بقربته يخفي بها غير ما يبدي
فما الماء ما نبغي ولكنه الهوى
يهيب بنا نحو الموارد في قصد
نطارح فيها الواردات من المها
تباريح أكباد بها الكمد المعدي
تلظت بها أشجانها فهي شعلة
توهج فيها الحب بالوصل والصد
وتضحك في لهو مثير يزيده
لظى عبث يزداد بالأخذ والرد
فتلتهب الآهات من وهج الجوى
يفوح على قلب تنزى وفي كبد
ألا تحس وأنت تقرأ هذه القطعة بعطر البدويات الفواح، وقد ملأ أنفاسك بالسعادة، وتسمع أصوات العبث الجميل، ومطارحات الحب العفيف، والهوى الصادق بين سطور هذه الأبيات، وتلهب وجهك أشجان هذا الهوى العذري الجميل تدخل إلى قلبك.. إنها صورة من صور الشاعر الشعرية التي لا يحاكيها غير صور شوقي، ومنها صورته في (مها بكفية) التي زحمها بكتفه في الكنيسة، وزادها أبو الخير بصدق العاطفة وعمق التجربة وصفاء النفس. هذه الحوادث البريئة العفيفة لن يحس بها الشاعر المعاصر، ولا العذراء الحضرية التي تذهب إلى الحنفية وتأخذ الماء بسهولة ويسر، بملل وفتور.. إنه ملل الحضارة التي سهلت كل شيء، وأفقدت البشر حرية لقاء الطبيعة بجمالها الساحر، والعمل من أجل الطعام والشراب.. وما أهنأ تلك الأيام بالطعام السائغ بعد جوع! وما أحلى الري بعد العطش والظمأ!.
يعجبني في الشاعر صدق وفائه للذكريات الحلوة العذبة، مثل صحبته للملك عبد العزيز رحمه الله.. فوصف مضارب الخيم في صدر الصحراء، وشمخ الملك الراحل بين جمعه وجنده وآله بقوله:
تعالى أخو نورا في جموعه
وناف إلى الكرسي كالعلم الفرد
تسامى بها فسطاطه في تلالها
كما الفلك الوهاج واسطة العقد
تحف به مثل السحاب مضارب الـ
ـوفود ترامت في التلاع وفي الوهد
وقفت بها أرنو إلى جنباتها
تسيل دموعي وهي غالية عندي
إنه شاعر عربي أصيل، حوَّل صور الشعر القديم إلى حداثة جميلة، بعبارة جديدة، وأسلوب عصري بلا تعقيد أو غموض أو إبهام..فأعاد صور امرئ القيس أو النابغة أو زهير و الأعشى في رداء العصر الجديد. وابتعد شاعرنا عن الألفاظ القديمـة، وحول التنهات وخيامها وفسطاط الملك إلى صور عصرية جديدة الروح حديثة المذاق.. فما زالت أزاهير الربى تملأ الجو، وتبسم للمطر في أيام الربيع.. إنه الشاعر البدوي الذي يفرح بالسحاب وهو يسح، ومنه ينبع الخير والنعمة، فيستسقي الغمام لمقبرته بقوله:
سقت قبره في (العود) (4) مخضلة الندى
تسبح في برق يشع وفي رعد
تسيل بها (البطحاء) التي رف قبره
عليها وما زالت به وهي في رفد
ومن دراسة شعر الشاعر تظهر ميزة واضحة على شعره، تحتاج إلى وقفة عميقة لانفراده بها بين كثير من الشعراء، فقد انسابت روح الفن القصصي في أدبه، وتجلت صوره الدقيقة في الرسم. وكنت أتمنى أن ينظم مسرحية شعرية، لذهاب هذا الفن واندثاره بين الفنون الأدبية المعاصرة. ففي شعره جمال السرد، وقوة النسج، وجمال أداء اللفظ والإيحاء وقوة الحوار وجمال الخاتمة.
إن الروح العربية لم تقف على التغني بالأمجاد، وإنما ربط الماضي العربي الزاهر بالحاضر المؤلم المتردي. وذكر العرب في أندلسياته بالعرب وفتوحهم، وذكر غرناطة وقرطبة والحمراء، وشعراء العرب فيها عندما زارها، وذكّره سكن شوقي في الأندلس بأحداث العرب المعاصرة. ولم يملك في تلك الساعة غير الدموع المغزار، فقال:
ثم اضمحلوا فلم يبق الدبور لهم
ذكرا سوى مثل(طسم) أو مثل عاد
حمراؤهم عظة الدنيا وصخرتهم
في البحر ذكرى ثمود الصخر بالوادي
وصخرة القدس طفراء لخيبتنا
في الأرض خيبة أجداد وأحفاد
صدقت أيها الشاعر العربي المسلم.. سيسخر منا الأحفاد إن بقي العـرب على هذه الفرقة والهوان.. وسيسجل التاريخ أسوأ ما سجل في تاريخنا..
وأخيراً ليست هذه دراسة نقدية لشعر الصديق العزيز عبد الله بلخير، أو تحليلاً فنياً لصوره الرائعة، فهي بحاجة إلى وقت طويل وروية المتأني.
وكاتبنا حفظه الله مستعجل علي، فآثرت أن أقدم هذه الصفحات المستعجلة لأعبر عن حبي وتقديري للشاعر، آملا أن يقف باحث على دراسة جوانب الشاعر الكبيرة وحياة المجتمع التي وصفها في الحجاز ونجد، ويقف عند ذكريات الشاعر في منعطفاتها وشوارعها ومحلاتها وأيامها التي ذاق فيها أفاويق حلاوتها، ورسم كثيراً من معالم الحياة في صور الخيل، وحركة السيوف اللامعة المشروعة في الرقصات الكثيرة المعروفة، ومنها ما أسهم الملك عبد العزيز-رحمه الله- فيها:
يتهادى (عبد العزيز) ويختال
عليها ما بين شيب ومرد
والمواضي على سواعدهم تز
هو بهم والسنا على كل حد
وهو كالراية المنيفة في علـ
ـياه رفت على مشارف نجد
وعلى رأسه المقصب في حمـ
ـرة إشراق صحبة المتبدي
***
وفي الختام إن الباحث الأستاذ محمود رداوي بذل جهداً كريماً في دراسته الأدبية والفنية، وأنصف الشاعر، وقدمه للقارئ المتأمل بصورة المحب، وقد سبقني في ما أردته.. وبذلك حقق وحدة العرب في هذا العمل من حضرموت إلى المملكة السعودية فالعراق والشام في الشاعر والمقدم والدارس.
ووفق الأستاذ الرداوي بعرضه الجميل، وأسلوبه السلس، وعبارته المتأنية في إبراز صورة الشاعر التي أرجو أن تكون حافزاً لدراسة أخرى، تسير ضمن المنهج العلمي. وإبراز جوانب القصة والرواية في شعره (5) والاتجاه الإِسلامـي
في فكره (6) ، والصور المتتالية في قصائده، وحياة المجتمع في ثناياها. وأن تتاح دراسة الشعر الذي حجبه الشاعر عن الدارسين، وعسى أن نجدها في ديوانه الموعود، فليس من حقه إخفاء هذا الشعر عن المعجبين والدارسين، وليس فيهـا ما يضير الشاعـر الكبير، وبخاصة شعـر الغزل الرقيـق، والنسيب الجميل، وقضايا عامة صارت جزءاً من التاريخ الحديث.
بورك بالأديب الباحث الأستاذ الرداوي على جهده وصبره، وعلى تقصيه في الدراسة، ورسمه صورة مشرقة حية للشاعر وحياته.. في وضع كتاب سيكون من دون شك من مصادر الشعر العربي في الجزيرة العربية، ولن يستغني عنه باحث في الأدب العربي في المملكة العربية السعودية.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3087  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.