صنعاء.. يا لحنَ الزمان البكر في سمع العدمْ |
صنعاء.. يا أول حَرف خُط في لوح القِدَمْ |
من قبل أن يكتبَ بالحبر على طرس قَلَمْ |
وقبل أن يشمَخَ "إيوان" وأن يُبْنَى "هَرَمْ" |
صنعاء.. يـا عـرش الملـوك الصيـد "أذواء" الكـرمْ |
كم عبد الغواةُ فيك للجمال من صنمْ |
ورتَّلوا لقدْسِهِ من سجعة ومن نَغَمْ |
كم من "نـبيٍّ" قـد عرفـتِ وهـو يشـدو بالحكَـمْ |
وشاعر، وساحر وكاهن، وكم.. وكمْ! |
من فرحة، ونكبة ومن سرور، وألمْ |
واثبْتِ بالحيلة أحياناً – وحيناً بالشممْ |
قد يهرم الدَّهر ولكن لن يُصيبك الهرمْ |
سرَّ الشباب فيك قد أعيا الزمان والأممْ |
و "قلبك العصيُّ" لَمْ يُهْزَم لحادثٍ أَلمّ |
للحرب، أنت "هيكل" وأنت للحب "حرمْ" |
من شفق الخلد نسجتِ المجد للشعب علَمْ |
والصبغة الحمراء قدْ قطرتها ورداً ودمْ |
* * * |
أقسمُ بالوالدِ والأمِّ.. وما أغلى القَسَمْ |
لقد حويتِ مـن صفـات الحسْـن مـا خـصَّ وعَـمَّ |
والله قد أعطاكِ منها ما اصطفى وما أتَمّ |
أولاك ما لم يول – قصداً – بلداً من النعَمْ |
وما حَبَا قوماً كما حبَا ذويك من شِيمْ |
من رقَّةٍ في عفةٍ ومن حفاظ للذمَمْ |
* * * |
صنعاء.. قلبها أرقّ من نسائم السَّحرْ |
للحُبِّ في غياضها أهلٌ، وللحُسْن سمرْ |
أبدعها الله لأهل الفنِّ مأوى ومقَرْ |
كم صدح الشعر وغنَّى، كم تصابى، وشعر |
وكم تمادى في الذنوب. وتجنَّى، وغفرْ |
* * * |
صنعاء.. "قلبها العصيّ" لا يُبالي بالخطَرْ |
ولا يلين لتصاريف الزمان والقدرْ |
لكنَّه للحبِّ يُعطي حِسَّهُ؛ إذا أمرْ |
سيَّان من ماطلهُ ومن عصَى، ومن شكرْ |
تزوَّدت بكلِّ ما يصرف عنها كلَّ شرْ |
لكلِّ قوم شِربُهم "فكلُّ شِرب محتضَرْ" |
ما يصرع الطَّاغي إذا اشتطَّ، وأدهى وأمرْ |
وما به لكلِّ جبارٍ أثيم مزدَجَرْ |
كم من مليك سامها بالخسْف عمداً وقهرْ |
قد خلَّدته لعنة الدَّهر، وآب محتقَرْ |
وكم طموح لم ينَلْ إرباً، ولم يقضِ وطرْ |
استنجدتْ آماله بها.. ففاز، وانتصر |
* * * |
صنعاء.. والقرون تترى، ما أسا وما أسرْ |
تواكبت على ثراكِ كل أصناف الصورْ |
من كل لونٍ للحياة، والفناء، والعِبَرْ |
أنا الذي قد بارك الآلامَ فيك واصطَبرْ |
لولا علاكِ لاندحَرْ.. لولا هواك لانتَحَرْ |
لولا خيالات الوصال ما تغنَّى أو شعرْ |
تقدَّس الجمالُ فيك، وتألَّه البَشرْ |
وكلُّ شيء صاغهُ الخلاَّقُ فيك.. بقدر |
* * * |
صنعاء.. يا ملعبَ أوهام الشباب الحالم |
مدينة الخلود، والأسرار، والطلاسمِ |
يا مسرح الهوى، ويا روض الغرام الهائم |
في أفقٍ يزهو بألوان الجمال الدائمِ |
مضمَّخ النُّور بنفح الطيب، والبراعم |
عرائس الخيال في غلائل الغمائم |
ترقص كالأطفال بين الزهر والنسائم |
ما بين طرفٍ ساحرٍ من فوق ثغر باسم |
وبين خصر ناحلٍ من تحت صدر ناجم |
ترتعش اللذات كالورود في الكمائم |
وبين هاتيك "الرَّوابي" الخُشع الجواثم |
تزدحم الأهواء في توق وشوق عارم |
وتُجْتنى القطوف قد طابتْ لكل لاثم |
والحُبّ قد خوَّلها عفواً.. لكل آثم |
* * * |
أوَّاه.. يا قلبي، أفق وتب، وعش، وسالم؛ |
كفاك ما قد نلتَ من هول، وذل حاطم |
كل حياتي عشتها في حندس المظالم |
إمَّا يتيماً ينظر الكونَ بطرف ساهم |
أو خائباً في حبِّه أو شارداً كالهائم |
أو في السجون موثقاً أو في لظى الملاحم |
أو باكياً مصارع الرفاق في المآتم |
لا أتَّقي مصيبةً إلاَّ بخطبٍ داهم |
متى متى.. ألقى عصا الترحال، والتخاصم؟ |
وفي "أزال" حيثما درجتُ بالتمائم |
أحسوا ثمالة الحياة في سلام دائم |
* * * |
صنعاء.. قـد قالـوا حَـوَت دون سواهـا كـل فـنْ |
لو قيل للدهر ألا يعرف ما بين المدنْ |
لها شبيهاً في الجمال، والدلال، والفتنْ؟ |
لقال ليس.. وأضاف لا، وما، ولم، ولنْ |
هندسة الإِبـداع قـد.. حبـت لهـا قلـب "اليمـنْ" |
وحكمتها في القرى.. بين "ظفار" و"عدنْ" |
"سام بن نوحٍ" رادها.. واختطَّها له وطنْ |
بعد استشارة النجوم، والعقول، والفطنْ |
* * * |
صنعاء.. قلبها "عصيّ" في الخطوب والمحنْ |
جحافل "الأحباش" لم تُسْلسْ لتيهها رسنْ |
ظلَّت على ولائها "لتُبَّع" و "ذو يَزَنْ" |
وفضلت علـى "الصّلـيب الحبشـي" صمـتَ "الوثـنْ"؛ |
ضلالةٌ جميلةٌ فيها الإِباء قد كمنْ |
* * * |
أوَّاه يا "صنعاء" قد أخنى على قلبي الحزَنْ |
ضيَّعتُ في الأوهام عمري، وشبابي في الإِحَنْ |
سخرتُ بالموت جنوناً، وهزئتُ بالزَّمنْ |
مشَرداً أو تائهاً، أو في السجون مُرتَهَنْ |
أو في نضالٍ.. دُونَما جَدْوى، ودونَما ثمنْ |
فَقَدْتُ أصحابي، وأترابي.. وأهلي، والسكنْ |
ولم أفقْ إلاَّ على صوت المشيب والكفنْ |
* * * |
في الحبِّ عقلـي انهـار مخْبـولاً، وإحساسـي انطَحَـنْ |
مشاعري ذابت، وروحي كلَّ، واستخذى، وأنّ |
ما كنت من أكفائه فَشَفَّ قلبي. وامتَهَنْ |
وكنتُ قد أعطيتُه مِنِّي الخفيّ والعلَنْ |
* * * |
أوَّاه يا صنعاء أشواقي تدمدمُ في الضلوعْ |
لم يبق لي شـيء بـه أُعـزي إليـك سـوى الدُّمـوعْ |
دمع المعذب، والمشرد، والمتيَّم، والولوعْ |
دمـع المشيب علـى شبـاب هـام فـي تلك الربـوعْ |
دمع الضيـاع علـى "المداكـي" والمفـارج والشمـوعْ |
دمع الندامة ذاب بعـد اليـأس مـن جفـنْ الخضـوعْ |
* * * |
صنعاء قلبها "العصيّ" ليس بالبَرم الهلوعْ |
هزم "الغزاة" بصبره وحمى "الفتوة" بالقنوعْ |
لا للطغاة الباطشين هَفَا، ولا عرف الخنوعْ |
لكنه يصغي إلى شكوى المدلَّه والجزوعْ |
باللحن تنتحر القوافي فيه من شعر يروعْ |
بالحسن تلتجئ المفاتن منه في عطر يضوعْ |
بالمجد يجأر، وهو بين مخالب الصقر الطَّموعْ |
* * * |
صنعاء.. هل يُرجى لمثلي نحـو سفحـك مـن رجـوع؟ |
أنا "ابنك العاصـي" رجعـت أجـرُّ أذيـال الخشـوعْ |
قلبي على دين الصبابة ما له عنها نزوعْ |
شهدتْ على إخلاصه رجفاته بين الضلوعْ |
وخفوقه إن لاح في جُنح الدجى برق لموعْ |
وإذا تَبَتَّل كنتِ أنتِ له الضَّراعة والدموعْ |
ويكاد لا ينساك حتى في السجود وفي الركوعْ |
هل لي إلى "القلـب العصـيّ" إذا تمنَّـع مـن شفيـعْ؟ |
كللتُ قرباني إليك "عقيرة" الصبِّ المطيعْ |
بتمائمي، وعزائمي بطفولة الحب الوديعْ |
بالشعر، بالأنغام، بالآلام، بالقلب الوجيعْ |
بهـواكِ "يا صنعـاء" لو ضاعـت حياتـي لـن يضيـعْ |