شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة معالي الأستاذ الدكتور محمود بن محمد سفر ))
الحمد لله مسبب الأسباب والهادي إلى الحق والصواب، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير نبي الهدى ورسول الرحمة، وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأشعر الليلة في مجلس العلم ومنتدى الفكر ومحفل الثقافة: الاثنينية بسعادة غامرة واعتزاز كبير؛ أما السعادة فمصدرها هذا الحضور الرائع من أدباء ومفكّرين ومثقفين ورجال أعمال وإعلام، جاؤوا للحوار والنقاش والنقد والتقريظ والتعليق على كتاب الإسلام وأمريكا وأحداث سبتمبر، أما الاعتزاز فمصدره الفضل الذي شملني به الصديق الوفي صاحب الاثنينية الأخ الأديب الأستاذ عبد المقصود خوجه الذي طالما كرَّم الثقافة وأكرم أهلها وأغدق على الفكر واحتفى برواده، فله الشكر والتقدير والامتنان من قبل ومن بعد.
أيها الإخوة والأخوات: آثرت أن أتحدث إليكم بين يدي من سوف ينتقدون ويقرظون ويعلّقون على الكتاب، مستبقاً أحاديثهم، وذلك لسببين:
الأول: هو الشعور بأن تقديم إطلالة على أفكار الكتاب سوف يعين من لم يتسع وقته لقراءته منكم أن يتابع الحوار باهتمام قد يجعله يساهم فيه.
والسبب الثاني: هو الحرص على أن أشارككم جميعاً في الخلفية التي دعت لإصدار الكتاب.
وحديثي إليكم -أيها الأخوة والأخوات- سيأتي صادقاً وصريحاً ومرتكزاً على ذات الركائز التي استندت إليها أفكار الكتاب الذي بين أيديكم وهي:
- التمسك بالثوابت الدينية والأخلاقية لأمتنا.
- والانطلاق من محبة الوطن والمحافظة على وحدة كيانه.
- والتأكيد على الخصوصية الذاتية التي منحها الله لوطننا دون سائر الأوطان.
ولأن الثوابت وعشق الوطن والمحافظة على وحدته جميعها أمورٌ محسومة لا تقبل المساومة، ولا تحتاج إلى إعادة تأكيد، فإنني أستأذنكم في التوقف قليلاً عند الخصوصية الذاتية لوطننا لمبررين اثنين:
المبرر الأول: الغموض الذي أحاط بمفهومها عند البعض، ولما في توضيح معناها، وتحرير الخلاف حولها من أهمية بالغة، وتأثير حيوي صاغ أفكار الكتاب المعروض أمامكم وسوف أوضح ما عنيته بذلك فيما بعد.
والمبرر الثاني: استحضار أحداث سبتمبر لهذه الخصوصية كما سوف يتضح لكم عند التعرض لأفكار الكتاب بعد قليل.
خصوصية وطننا -أيها الحضور الكرام- تبدأ من وجود الحرمين الشريفين فيه وتنتهي بهما، هكذا ببساطة متناهية؛ إذ لا خصوصية لنا في غيرهما وهذا يكفي، فهما أقدس مقدسات الأمة، وأطهر بقاعها على وجه البسيطة، ووجودهما ضمن جغرافية وطننا هو الذاتية التي خصّنا الله بها ولا يشاركنا أحد فيها، وهو شرف يحسدنا عليه البعض، ومنّة يغبطنا عليها البعض الآخر.
وإذا كان لنا أن نزهو بهذه الذاتية، ونفخر بهذا الشرف، ونحمد الله على هذه المنّة فإن لذلك تبعاته وأعباءه ومسؤولياته التي لا تخفى على أحد.
وأحسب أن احتضان وطننا لهذه المقدّسات يحدد مواقفنا وسياساتنا بل وسلوكيات مجتمعنا فذاك قدرنا الجميل ونسأل الله أن يديمه علينا.
- إذ لا أحد منا ينكر أو يتنكّر لمسؤوليتنا -دولة وشعباً- تجاه الحرمين الشريفين.
- ولا أحد منا ينكر أو يتنكّر للالتزام العقدي الذي بنيت الدولة على أسسه وتأسس الكيان على مبادئه طالما أن الحرمين الشريفين تاج هذا الكيان ومركز الثقل فيه.
- ولا أحد منا ينكر أو يتنكّر للمجتمع الحارس للحرمين من أن يتصف بالصفات الإسلامية الصحيحة من انفتاح وعمق في الفكر، وسماحة ورفق في التعامل، وواقعية وحسن تدبير للأمور.
ولكن لماذا أقول هذا الكلام؟!
أقوله لأنني أدرك أن البعض منا لا يستسيغ وصف "الخصوصية" التي يُوسم بها مجتمعنا ظناً منهم بأنها غدت -من كثرة استخدامها بدون ضبط مصطلحها- سداً ضد التغيير، ومتراساً يصد التطوير، وحاجزاً يقف حائلاً أمام الإصلاح؛ حتى صار من يستخدمها في نظر ذلك البعض متهماً بالجمود والتخلف والوصولية والتزلف.
قد يجد بعضنا هذا الموقف صحيحاً في أقوال وأفعال وتصرفات بعض الأشخاص المتمسكين بالخصوصية بمعناها العام ومفهومها الشامل، ولكن من غير الصحيح أن ننكر "الخصوصية" بالمفهوم الذي حددناه، وأن نُحملها -بالصفة التي ذكرناها- وزر هذه الأقوال والتصرفات والمواقف، وهي بريئة منها.
فأنا على قناعة تامة كغيري من المواطنين الأسوياء بأن ذاتية احتضان وطننا للحرمين الشريفين لا تحول ويجب أن لا تحول دون البحث عن أفضل الطرق وأسلمها لإصلاح نظم الحياة في مجتمعنا وتطويرها. بل يجب أن تكون دافعاً قوياً لنا جميعاً لنجعل مجتمعنا مجتمعاً إسلامياً معاصراً ومتطوراً ومنفتحاً، ورمزاً مضيئاً لسماحة الإسلام، وعنواناً واضحاً لسعة أفق أهله، وبياناً عملياً لسلامة توجهاتهم؛ فيكون مجتمعنا وأهله بكل ذلك نموذجاً للمجتمع المسلم الوسطي المتوازن والمتزن.
أيها الحضور الكرام: ذاك كان التوضيح للمبرر الأول الذي دعاني إلى التوقف عند مفهوم الذاتية، أما المبرر الثاني الذي من أجله أتيت على ذكر الخصوصية فهو أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م -والتي كانت المحرك لكتابة أفكار الكتاب- استحضرت هذه الخصوصية في أذهان الكثيرين في العالم بعد الأحداث مباشرة، بعد أن أعلن عن اتهام خمسة عشر شاباً سعودياً من تسعة عشر قيل إنهم تواطؤوا في تلك الأحداث ونفذوها.
وتبرير هذا الاستحضار اثنان:
الأول: مبرر طبيعي وهو ما ينبثق من هذه الخصوصية ويترتب عليها من أثر وتأثير في أفراد المجتمع السعودي تربية وفكراً وثقافة تنعكس جميعها بالضرورة في السلوك والخُلق والتصرف، باعتبار أن المجتمع السعودي يحتكم في مسيرته إلى الإسلام السمح كعقيدة حياة، ويحتكم إلى ثوابته وقيمه ومبادئه كنظام حكم.
والثاني: مبرر ظالم وهو تأكيد اتهام الإسلام وثقافته ونظمه الأخلاقية والتربوية والتعليمية وغيرها بأنهم يدعون إلى العنف ويشجعون على التطرف ويحرضون على قتل المخالفين في المعتقد والمذهب، ومن ثم تتحمل نظم الإسلام التربوية والفكرية والثقافية والأخلاقية -والمملكة من بعد ذلك بطبيعة الحال- مسؤولية تصرفات أولئك الشباب المتهمين بتفجير برجي "منهاتن" ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية.
وظل التجني على الإسلام والهجوم على وطننا بين شد وجذب منذ أحداث سبتمبر وحتى يومنا هذا وفي ظني أن الهجوم والتجني سوف يستمران.
لكن الذي لا يشك إنسان فيه هو أن أحداث سبتمبر وتداعياتها خلطت الأوراق وتركت بصماتها على العلاقات الدولية، مما استدعى ويستدعي الأمم للتحرك الجاد والسريع لفرز الأوراق وتصحيح المفاهيم والتفتيش في الذوات بحثاً عن أي اعوجاج أو خلل أصاب النظم الحاكمة للمجتمعات الإسلامية بخاصة، يستوي في ذلك النظم التعليمية والتربوية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
والمملكة -أيها الأخوة والأخوات- لم تكن غير معنية بتداعيات أحداث سبتمبر، بل ربما يصح القول بأنها كانت في عين العاصفة، ووطناً لم يكن في موقف أحوج فيه إلى الوحدة الداخلية والتكاتف والتماسك، أكثر من حاجته إليها بعد تعرضه لتداعيات الحادي عشر من سبتمبر.
هذا هو بالضبط الذي دعاني إلى رفع الصوت في الأيام الأولى التي تلت أحداث سبتمبر، عندما نشرْت سلسلة طويلة من المقالات في جريدة عكاظ تحت عنوان: ما بعد أحداث سبتمبر وحتى لا تختلط الأوراق ضمنتها مرئياتي عما حدث وتداعياته المتوقعة وما يجب أن نقوم به من خطوات إصلاحية في نظامنا التعليمي وخاصة ما يتصل بالتربية الدينية وقضايا الدعوة والداعية، مع التركيز على العناية بالشباب بعد أن عددت الآثار السيئة لتلك الأحداث على الإسلام والمسلمين.
ثم كان أن طوَّرْت الأفكار وأضفت إليها وحذفت منها وعدلت فيها كي تظهر في كتاب هو الذي بين أيديكم. ومن الإضافات الهامة قسم خاص ضمنته الكتاب تحت عنوان حديث عن أمريكا وحديث إلى أمريكا.. دراسة في حالة الغضب الإسلامي، ليس تبريراً لما فعله الشباب العربي المتهم بارتكاب جريمتي الانفجار في مانهاتن وواشنطن، ولكن لتبيان وتوضيح ما يشعر به العرب والمسلمون من غضب تجاه بعض أخطاء السياسة الخارجية للولايات المتحدة من وجهة نظري كمواطن عربي مسلم يكن المحبة والتقدير للشعب الأمريكي، ويعترف بفضل الجامعات الأمريكية عليه في استكمال تعليمه العالي فيها، وقلت لهم في الكتاب ما قالته العرب: "صديقك من صدقك لا من صدّقك".
أما الجزء المهم من الكتاب فهو ذاك الذي يخصنا داخلياً، وهو الذي أستعرض معكم هذه الليلة أفكاره والتي كتبت تحت فصول تحمل العناوين التالية: "حديث إلى الذات" وعنها و "إصلاح الدعوة والداعية" و "حديث عن الفكر والثقافة".
أيها الحضور الكرام:
عندما رحت أفكر في مبررات الهجوم الشرس على الإسلام، والتشويه المتعمد لثقافته ونظمه بعد أحداث سبتمبر المشؤومة، لم أجد سوى أن الذين يهاجمون الإسلام ومن خلفه وطننا أشبه بالأشقياء من قريش في الجاهلية عندما دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة الحقيقة وإتباع الحق فأجابوه كما ورد في القرآن الكريم وصْفهم لأنفسهم بتباهٍ عجيب ما نصه: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجابٌ فاعمل إننا عاملون (فصلت: 5).
وتوصلت إلى قناعة مفادها أن ليس باستطاعتنا أن نفعل الكثير معهم، والأجدى أن نلتفت إلى ذواتنا، ونصلح أحوالنا.
فرب ضارة نافعة، فالأحداث تلك وتداعياتها، وما يقوم به الأعداء الأشقياء من تجنٍ وتطاول على عقيدتنا وعلى وطننا، فتح الباب على مصراعيه أمامنا لمزيد من المراجعة والتدقيق في دواخلنا من أجل الإصلاح والتغيير والتطوير.
تلك كانت -أيها الأخوة والأخوات- النقطة المركزية والأساس الذي دارت حوله أفكار الكتاب.
فنحن إذا سبرنا أغوار الخطاب التهجمي المتأجج ضد الإسلام وضدنا وبحثنا في مكوّناته، فماذا نجد؟!.. نجد أنه موجه إلى بعض أمورنا الداخلية: فمثلاً.
- نجد أن من أهم مكوّناته الحديث عن التطرف الديني أو ما يسمونه بـ "الوهابية" التي يشيرون إليها كإحدى العناوين البارزة لذلك التطرف من وجهة نظرهم.
- نجد أيضاً أن من مكوّناته الهجوم على التعليم ومناهجه وبرامجه.
- ونجد من مرتكزاته التعرض للعديد من الجوانب السياسية والاقتصادية وغيرها من القضايا.
وإذاً أيها الأخوة والأخوات: بشيء من التركيز على محتوى الهجمة والبحث في جزئياتها عموماً، نجد أنفسنا أمام احتمالات ثلاثة:
- أولها: أن كل ما جاء فيها كذب لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وهذا احتمال وارد تماماً في ظل التخبط، والجو المحموم السائد ضدنا منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وحتى يومنا هذا.
- وثانيها: أن ما جاء فيها هو حقيقي وصحيح، وهذا أيضاً احتمال وارد لأننا بشر نخطئ ونصيب وخير الخطائين التوابون كما ورد في الأثر، وعندئذٍ علينا أن نواجه الأمور بفروسية وشجاعة وشفافية.
- وثالثها: أن ما جاء فيها ما هو إلاَّ خليط من الخيال والحقيقة، وعندها تجب تصفية التداخلات فيما بين الحقيقة والخيال.
وأسهل ما في هذه الاحتمالات الثلاثة هو أولها المتصل بالكذب، لأن حبله قصير، وتعريته ممكنة بشيء من الجهد وكشف الحقائق، والاتصال، والحوار، وحتى بالمواجهة والاشتباك الفكري.
وأصعب ما في هذه الاحتمالات الثلاثة ثانيها وهو ذاك المتصل بالحقيقة.. كل الحقيقة، لأن الحقيقة -أيها الإخوة والأخوات- ذات مذاق مر لا تستسيغه النفس ولا ترتاح إليه؛ ولكن من قال أنّ من يريد أن يواجه نفسه بالحقيقة بفروسية، ويصلحها بشجاعة ويتصدى لها بشفافية لديه وقت للتذوّق.
إن البداية الأولى والسليمة في التصدي للهجمة هو البحث بجدية وصدق وشفافية في الجوانب الفكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها التي تمس حياتنا.
لقد انطلقت فيما كتبت من اعتقاد راسخ بأن الرد المفحم على الهجمة لا يكون فعالاً ومجدياً ما لم يستند إلى مراجعة دقيقة للذات وتحديد مواقع الخلل والاعوجاج فيها ومن ثم إصلاحه، ممتثلين في هذا لقول سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي".
فمثلاً: إن كان ما قيل عن تعليمنا وتربيتنا من خلال الحملة الضارية صحيحاً، ونظن أن بعضه صحيح، فمن الخير أن نواجه أنفسنا بالحقيقة ونعترف لأنفسنا بأن هناك خللاً ما شاب منظومة تعليمنا وتربيتنا وخطابنا الديني، ساهم في انتشار فكر ديني عجيب وغريب بين بعض شبابنا يدعو إلى العنف ويرتفق الغلو ويمتطي الشدة.. فكر يبدو أن من أبرز صفاته أنه:
- ضيق الأفق ومنغلق على الذات.
- ويعمل على الفرز والإقصاء، ونبذ الآخر، ورفض التعامل معه.
- ولا يلتزم بالوسطية، ولا يؤمن بالرفق، والتسامح.
- ويحض على المجابهة، ويلجأ إلى العنف للتعبير عن وجهة نظره.
لو نظرنا في دواخلنا وفتشنا في مناهجنا ودققنا في خططنا وبرامجنا، لاهتدينا إلى مواقع الخلل وأصلحناه وبحثنا في جوانب الاعوجاج وقومناه حتى يتناغم تعليمنا وتتسق تربيتنا وينصاع خطابنا الديني لسماحة الإسلام، وواقع الزمان الذي نعيشه، وحتى يكون شبابنا قادراً على التعامل مع عصره من موقف الواثق المتمكن أخذاً وعطاءً، وبهذا نستطيع أن:
- نحول الكراهية إلى احترام وتقدير.
- ونحول العنف إلى سلام وأمان.
- ونحول الشدة إلى رفق واعتدال.
- ونحول الغلو إلى تسامح ومودة.
فهل هذا ممكن؟!..
أقول نعم هذا ممكن بكل تأكيد، إذا نحن بدأنا في البحث عن المفاهيم المفقودة في برامجنا، وعن العناوين الغائبة عن مناهجنا، والعناصر المغيّبة عن مناهجنا، والعناصر المغيّبة عن خطابنا الديني، واستحضرناها والتي من أبرزها:
أولاً: الالتزام بنهج الوسطية في الطرح، والاعتدال في الفكر، والتوازن في النفس في جميع مراحل إصلاح خططنا، وتطوير برامجنا في التربية والتعليم والفكر والإعلام والتوعية والإرشاد والتثقيف.
لقد تعرّض وطننا -أيها الإخوة والأخوات- قبل وبعد أحداث سبتمبر، للكثير من المواقف المأساوية والمؤلمة نتيجة للغلو في التعامل، والتشدد في الفكر، والتمسك بأضيق السبل والأخذ بأصعب المسالك عند التصدي للقضايا العامة المعاصرة، والتطورات الحضارية التي تهم المجتمع، ويكفي الوطن ما مر به فقد نال حصته كاملة من تلك المآسي والآلام، ولا مجال للمزيد.
وثانياً: ترسيخ مفهوم التقريب والتسديد في تفكيرنا وتعاملاتنا وقضايانا مع أنفسنا ومع الآخر، كما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة عنه في صحيح مسلم: "قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن يَنْجُوَ أحدٌ منكم بعمله، قالوا يا رسول الله ولا أنت؟!، قال ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وهذا مفهوم حضاري رائد يدعو إلى المرونة، والواقعية.
وثالثاً: معايشة العصر ومواكبة تطوراته: ولن يتأتى هذا إلاّ إذا:
سيطر الإحساس بواقع العصر والرؤية الناضجة لمحدثاته النافعة على السياسات والخطط وبرامج الإصلاح والتطوير لمواجهة القضايا المتشابكة، والتصدي للتحديات والمشكلات المركبة.
وتفاعل ذلك الإحساس وتلك الرؤية في نفوس المخططين والمنفذين من رجال تعليم وتربويين وعلماء دين وقادة اجتماعيين وإعلاميين وغيرهم ممن يتصدّون للخدمة العامة كل في مجاله وفي الثغرة التي هو عليها، ليمتد الإحساس إلى نسيج المجتمع بكامله من خلالهم.
ورابعاً: مواجهة معضلة كيفية التعامل والتواصل مع الآخر: وهذه -أيها الإخوة والأخوات- معضلة مؤرقة تمثل هماً وطنياً لنا جميعاً يجب التخلص منه بالعمل على تحرير مفهوم التعامل مع الآخر، وإجلاء ما أحاط به من شبهات وتوضيح الرؤية حوله، فالمجتمع السعودي -كأي مجتمع معاصر- في حاجة ضرورية وملحة إلى التلاقي مع العالم الآخر المخالف في العقيدة والمذهب والسلوك والقيم والمنطلقات في تعامله واقتصاده وسياسته وعلاقاته الاجتماعية، لأن البديل هو التقوقع والعزلة التامة عن حضارة العصر ومقوّمات الواقع المعاصر، وهذا مستحيل في ظل العولمة التي يبشرون العالم أجمع بها ويعملون على تضييق الخناق على من يقاومها حتى ينصاع لها.
وخطط وبرامج التربية والتعليم والتوعية والتثقيف والإعلام مطالبة بتدريب المتلقي على التواصل مع المخالف في العقيدة والمختلف في المذهب والمغاير في النهج، ومن ثم الانفتاح عليه بوعي، وإدراك، وسماحة، ورفق، واعتزاز بالذات.
وخامساً: تعزيز المحبة للأمة، والانتماء للوطن والولاء له. وهذا أمر يقلقنا وواقع يؤلمنا ليس من أجل حا ضر وطننا فحسب، بل ومن أجل مستقبله. فقد ترسخ انطباع لدى البعض بوجود تناقض بين الولاء للدين والولاء للأمة والانتماء للوطن، فتضاءلت محبة الوطن عندهم، وقلَّت فاعليتها. الواجب يقتضي العمل فوراً على إزالة التناقض وفك الاشتباك.
تستطيع المناهج التعليمية والخطط التربوية ومؤسسات المجتمع (من منزل ومسجد وإعلام وخلافه) أن تتضافر بطرق متناغمة لتنفي أي تعارض بين الولاء للوطن والولاء للدين، ولتعزّز مفاهيم الانتماء للأمة ومحبة الوطن والإعلاء من قيمة العمل من أجل رفعته لإيجاد مواطن يقدر المسؤولية، وينبذ الاتكالية، ويتخلى عن روح اللامبالاة فيحمل في نفسه فعاليّة روحية عالية تسيطر على تفكيره وتهيمن على تصرفاته.
وسادساً: تدريب وتعويد الطلاب في جميع مراحل التعليم على التفكير عند التلقي: بالانفتاح عليهم بطرق تقوي من تفاعلهم مع ما يتلقونه من علوم ومعارف، وتركّز على مشاركتهم في الحوار مع من يعلمهم ويرشدهم، وتشجعهم على ممارسة التفكير وإعمال عقولهم لكسب الثقة في الذات، والمقدرة على النقاش في كل ما هو نافع لأمتهم ولوطنهم بمنطق سليم، ومستقيم، مستفيدين في ذلك بكل ما تكدس في عقولهم من معلومات ومعارف وعلوم، ولنا أن نتذكر في هذا الصدد ما قاله الفيلسوف "كونفوشيوس":
"المعرفة بلا تفكير لا قيمة لها، والتفكير بلا معرفة كارثة".
Knowledge without thinking is nothing, Thinking without knowledge is disaster.
أيها الإخوة والأخوات:
توقفت في الكتاب مطولاً عند قضية إعداد الشباب وتربيتهم إدراكاً مني لحجم القضية، ومن المفيد إعادة التذكير في هذا الصدد بأمرين هامين:
- الأول: هو أن حوالي 70٪ من سكان المملكة ولدوا بعد عام 1982م.
- والثاني: هو دور التربية الدينية وتأثير الخطاب الديني في إعداد الشباب.
لهذا:
- فمن الحق أن نعترف بأن بعض شبابنا قد تأثر -كما أشرنا من قبل- بالفكر الديني الذي سردنا بعض صفاته، حين استطاعت الأفكار المتطرفة والداعية للعنف أن تتغلغل فيه وتشغل فراغ نفسه.
- كما أن من الفضيلة أن نقر بأن ذلك يدل على:
- أن خللاً "ما" قد نال من برامج التربية الدينية، وطال فحوى الخطاب الديني.
- وأن عدم النجاح قد واكب برامج التثقيف العقدي ولحق بخطط التوعية الإسلامية.
- وأن أوقات فراغ الشباب لم تُملأ بترويح فعالٍ غير مباريات كرة القدم التي صرفتنا المبالغة في التركيز عليها عن البحث بجدية عن وسائل أخرى موازية ونافعة ومسلية.
الأمر إذاً وكما أكد الكتاب، يستدعي توجيه اهتمام أكبر، وحرص أشد، وعناية أكثر إلى خطط التوعية، وبرامج التربية، ومناهج التعليم التي تساهم في إعداد الشباب:
- بتوازنٍ يبتعد بهم عن مزالق التشدد والغلو، فلا ينساقون وراء صيحات التزمت التي تنزع إلى الشدة، ولا يستجيبون لدعوات التطرف التي تنتصر للعنف.
- وبتهيئةٍ وتوسيع مداركهم، وإفساح الآفاق أمام عقولهم، وإرشادهم إلى الطرق الرفيقة، والسبل الحكيمة.
- وبتدريبهم على التفكير والتعامل بوسطية واعتدال، يمكنهم من الرشد، ويضبط انفعالاتهم.
وثمة أمر هام حرصت على التذكير به في الكتاب لأن مؤسسات المجتمع غفلت عنه، وهو إفساح المجال للشباب للتعبير عن آرائهم، وما يعتلج في صدورهم مهما كان صغيراً أو تافهاً من وجهة نظر الكبار، طالما أنه يعبر عن تطلعاتهم، ويعين المجتمع على إدراك معاناتهم، ومساعدتهم على فهم الحياة على حقيقتها ليتمكّنوا من تحمل مسؤولياتهم تجاه أنفسهم ووطنهم.
ونحسب أن التعمق بالبحث في محتوى التربية الدينية، وإصلاح مناهجها، والتنقيب في مفردات الخطاب الديني، وإعادة صياغته، سوف يظلان من أولويات المهتمين بشؤون الشباب تربوياً وأخلاقياً للوصول بالتوعية الإسلامية والخطاب الديني إلى المستوى الذي يجعل الخريجين من طلبة العلم، والدعاة يعيشون زمانهم فلا يفقدون ذاكرتهم الحضارية تجاه العصر وحضارته المهيمنة بمعطياتها، وتحدياتها، وأدواتها، ومنجزاتها، وأفكارها، ويتعاملون مع الآخر بسماحة، واعتدال، وتوازن، واتزان.
ونظن أن المعابر إلى الإصلاح في هذا الشأن تكمن في أمور ثلاثة هي:
الأول: وسطية التعامل مع التراث، فلا: للانكفاء على الماضي وإغلاق منافذ الوعي، ولا: لقطع الصلة بما يزخر به تراث الأمة من تجارب السابقين.
والثاني: الاعتراف بواقع العصر والتعامل مع حضارته باعتدال: فلا: للَّهْث خلفها بدون بصيرة حتى الإعياء، ولا: لرفضها بدون إدراك حتى العزلة.
والثالث: إتاحة الفرص كافة للعقول لإثبات الذات: بإزالة كل عائق يقف أمام تزويد الشباب بالمعلومات النافعة التي توسع مداركهم، وتزيد من فعاليتهم، وتنمي قدراتهم، وتقوي ثقتهم بأنفسهم، وتشجع على مشاركاتهم في صياغة مستقبلهم، وإدراك أحداث العصر وتحليلها، وإقامة حوار معهم حولها بتفتح، وحسن بصيرة.
أيها الإخوة والأخوات:
تلك كانت إطلالة سريعة على ما احتواه الكتاب أردت بها أن أضع أمامكم أهم النقاط التي حواها الحديث عن إصلاح التربية والتعليم وإصلاح الدعوة وتعزيز الثقة بالذات عند التعامل مع الآخر، ومعالجة قضايا الشباب.
ولعلّ مما يزيد سعادتي واعتزازي معاً هو أن بعض الأفكار التي احتواها الكتاب، وتلك التي نشرتها لي جريدة عكاظ عقب الأحداث مباشرة من قبل، قد أخذت طريقها إلى التنفيذ مع غيرها من الأفكار والمقترحات التي لحقت بها من غيري، وكل هذا يؤكد أننا سائرون بحمد الله على الطريق الصحيح الذي سوف يجلب المزيد والمزيد من الخير للوطن والنهوض به.
وأنا على ثقة بأن عجلة الإصلاح التي أخذت في الدوران لن تتوقف قبل أن نصل بالإصلاح إلى المدى الذي يحقق التطلعات ويرقى بالوطن إلى السمو الذي يليق به كموئل للرسالة، ومهبط الوحي ومركز ثقل الأمة الإسلامية والحاضن لأقدس مقدساتها.
أشكر لكم حسن استماعكم وكريم متابعتكم، والشكر موصول ومكرر للمضِيف على كرمه وحسن حفاوته بالكتاب وصاحبه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
عريف الحفل: أيها السادة والسيدات، قبل أن أنقل لاقط الصوت للأخوة المتحدثين، كما تعلمون يفتح باب الحوار مع معاليه فمن له سؤال فليبعث به إلينا وليكن واحداً حتى تتاح الفرصة لأكبر عدد من حضراتكم.
يسعدني أن أحيل لاقط الصوت إلى معالي الدكتور محمد عبده يماني المفكّر الإسلامي المعروف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :880  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 136 من 235
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.