شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأستاذ حسين بافقيه ))
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين..
أيها الحفل الكريم: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
يسعدني أن أتحدث في هذه الأمسية المباركة عن أستاذي الدكتور عاصم حمدان، فأنا تلميذ له قبل أن أكون كما وصفني مقدم الحفل، ما إن يتداعى اسم عاصم حمدان على ذاكرتي حتى أستعيد سيرة رجل مسكون بتاريخ الرجال وظلال الأمكنة، إنها مسيرة شخصية أرادت أن تشد من حولها إلى مواطن مضمخة بأرج قدسي، ومحافل ارتبط بها وهو في ميعة الصبا، وطراءة الشباب، فأدرك من فوره أنه واجد طريقه الذي أراده وهو طريق الرجال العارفين، الذين فَهموا فَهاموا، وأيقنوا أن لا درب تطأه أقدامهم سوى ذلك الدرب الذي تحفه الكلمة الطيبة.
وأظهر سمة في الدكتور عاصم حمدان انجذابه إلى الأماكن التي نحب، تلك الأماكن التي انفصلت عن خصائصها الفيزيائية، لتصبح إنسانية بامتياز، وهي أماكن ليس لها من وجود إلا في الذاكرة، تلك الذاكرة التي أبقت منها ظلال أزقتها وشوارعها، وأطياف وجوهٍ اختلطت سحناتها بترابها الذي لا يشبهه تراب، فكأنها كما يقدمها عاصم حمدان أماكن من لحم ودم، نسمع لهمسها، ونأسى لنحيبها، ونعجب لتلك الذاكرة الحانية التي حدبت على تلك الأمكنة، فنسجت من ظلالها تلك الأماكن التي أنطقها الدكتور عاصم، ففرحنا لفرحه وآسينا لأساه، ثم تركناه وحده وقد عزّ علينا ألا نشاركه وقوفه على عتبات تلك الأمكنة التي لا أجد وصفاً أدق من وصفه إياها، حين قال في "ذكريات الحصوة": "كم يلوذ أصدقائي بمنازلهم يعتصمون بها، وألوذ أنا بالماضي أنقب فيه عن صبح وليل بهي وأصوات يتسلل نغمها الشجي من فتحات الرواشين لتستقر في نفوسنا التي لم تكن تشقى بما تشقى به اليوم من هموم هذه الدنيا الفانية".
ما الذي يمكن أن نطلقه على هذه الحالة من الوله بالأمكنة التي لا تستعاد إلا في الذاكرة، وأولئك الصحب الذين مضوا لحال سبيلهم؟ قد يكون الوفاء، وقد يكون الحنين، وقد يكون الوله، ولكنه كذلك، سيرة رجل قرأ تلك الأمكنة شعراً، في حين قرأها غيره نثراً، ووجد فيها وجاءً له عاصماً من قبضة الحاضر ونثريته، فكان الماضي الذي يلوذ به رحماً رمزياً يطمئن إليه، وحين يشعر بابتعاده عنه لا يملك إلا أن يحول كلماته إلى مرثية لتلك الأماكن التي لا تستعاد إلا في الذاكرة، فيوسع تلك الظلال حساً ولمساً، وينطقها وقد صمتت حيناً من الدهر، وما كانت قبله بصامتة ولكنها تستعيد به إذ استعادت كلماتها تاريخ جيل من العارفين، حينما مستها كلمات عاصم حمدان المعجونة بدمه ودموعه، انظر إليه وهو يقول: "اليوم يا صديقي كلانا ينظر من نافذة الدار ويمد بصره بعيداً إلى ذلك الأفق المترامي ويجد نفسه سابحة فيه مستغرقة في أنواره المحجوبة عن الأبصار وممتلئة بذلك الحب الذي يفيض مدده وتلوح أنواره، ينبعث الصوت وينادي المنادي أين محبو جمال هذا الكون؟ وأين الباحثون عن كلمة السر فيه؟ تلك الكلمة التي تعجز الحواس عن فهمها ويدركها الوجدان وحده من دون تلك الوسائل التي تعودت النفوس على الأخذ بها والاشتغال بأسبابها".
هكذا عرفت الدكتور عاصم حمدان حينما عرفته قبل سبعة عشر عاماً، وقد جلستُ إليه مجلس التلميذ من أستاذه، تنطبق كلماته على شخصيته، ترفعاً عن الدنايا وطيبة وتسامحاً، وحدباً على تلاميذه ومريديه وما أكثرهم، وكان يجمع إلى ذلك عقلاً متصلاً بحاضره، راض من المعرفة بالأدب والنقد والسياسة مناحي مختلفة، وحاط ذلك كله بقيم ما أصعب التمسك بها، وهي العفة في القول، والنزاهة في اللسان، وحسن الظن بالناس، وهي لعمري قيم الرجال الكبار.
وقد كنت قبل حين من الدهر أعجب عن سر ولع الدكتور عاصم حمدان بِسير الرجال ومناقبهم، حتى أدركتُ بعد حين ليس بطويل أنه موصول بعلم كان سلفنا يعتز به ويُهرع إليه النابهون منهم، حتى إنه ليمكن القول: إن جانباً كبيراً من إرثنا الحضاري كان في عِلم الرجال، وأننا حين فرّطنا في هذا العِلم العزيز أضعنا الشيء الكثير، وقد كان سلفنا -رحمهم الله- لا يجدون متعة في سواه، ويتجلى بعض ذلك في قول الخليل بن أحمد -رحمه الله-:
وما بقيت من اللذات إلا
محادثة الرجال ذوي العقولِِ
وقد كنا نظنهمو قليلاً
فقد أضحَوا أقلَّ من القليلِ
 
هذا ما أدركه الدكتور عاصم حمدان وهو يُغذّ الخطى إلى أولئك الرجال الذين مرّ بهم ومروا به، وعبر مرايا بالغة التنوع لمجموعة متناقضة في المنصب والمحتد والموقع الاجتماعي، ولكنها تتساوى في مرآة عاصم حمدان، وقد استشف من ورائهم عوالم من الرؤى والوجدان والعرفان، جمعت كبيرهم إلى صغيرهم، وكأنني إذ أستعيد نماذجهم في كتابته أمام أبي إسحاق الحربي، أو بِشْر الحافي، إنهم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال، لأنهم عرفوا سرّ تلك الأمكنة وانطبق عليهم قول ابن الجوزي -رحمه الله- عن مماثلين لهم في زمنه: "فَهِمْتُم فَهِمْتُم" وهذا ما أدركه بعض رجال عاصم حمدان الذين لولا سردُه لطرف من حياتهم لما عرفنا طريقاً إليهم، يقول الدكتور عاصم حمدان عن أحدهم: "شاهدنا رجلاً صالحاً قد جاوز الثمانين من عمره، هذا العم (علي رنقا) واحد من المجاورين المتأدبين في بلد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأكاد أجزم أنني لم أرَ متأدباً في حياتي مثله، كان إذا دنا من الطريق الموازي للضريح المحمدي حمل حذاءه بيده فلا يلبسه حتى يتجاوز برحة باب السلام، كان العم (رنقا) قليل الحديث إذا قابلك أكثر من الدعاء، وإذا انصرف عنك شاهدت تمتمة لسانه بالذكر".
وإنني أستطيع أن أذكر في أستاذي القدير الدكتور عاصم حمدان بعض ما أعرفه ففيه من سيرة الرجال الذين هام بهم مشابهُ جمةٌ، دعامها الكلمة الطيبة، ولين الجانب، وحب الخير، تلك السمات التي بدت واضحة في أسلوبه الأدبي، فكانت كلماته موصولة بحبل من النورانية والوجد والإشراق، وكأنها تنم عن نفسٍ شفافة عرفت طريقها، يوم تاه آخرون، ونافحت من أجل الوصول إلى ذلك الزمن الوضيء بظلال أمكنته الوارفة وأطياف رجاله المتبتلين.
ولا يسعني في الأخير إلا أن أتوجه بالشكر إلى سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه على أن أتاح لي هذه الفرصة كي أتحدث عن أستاذ نبيل لي تعلمت منه الشيء الكثير، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
 
عريف الحفل: وردنا أيضاً.. ورد إلى سكرتيرية الاثنينية كلمة من الأستاذة الإعلامية المعروفة، الأستاذة دلال ابنة عزيز ضياء الأديب والكاتب الكبير المعروف -رحمه الله- وهي تشارك في تكريم الدكتور عاصم حمدان تقول:
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :646  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 197
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.