شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة فارس الاثنينية سعادة الأستاذ سمير عطا الله ))
السلام عليكم جميعاً، لقد غمرني السادة المتحدثون كما غمرني المضيف بهذا التكريم، ولست أملك رداً سوى الشكر وعميق الامتنان، يقول المثل اللبناني العامي (بدك اتحّيروا خيّرو) وقد تكرم راعي هذا المنتدى الأدبي النبيل تكرم فاستضاف، وخيّر فحيّر، فماذا بي أن أقول هذا الاثنين ما لم يُقل في اثنين مضى؟ وماذا ترك من سبق لِمَنْ لحق؟ وإذا كنت قد اخترت في النهاية موضوع التصارع في نفس الكاتب بين الصحافي والأديب فلم يحدث ذلك إلا بعد تصارعات كثيرةٍ أخرى في النفس أيضاً. فالصحافي يقع بسهولة في إغراء المقارنة خصوصاً إذا كان العمر قد كدّسَ له القرائن وسهّلَ عليه المقاربات، وهو في ذلك أشبه بأساتذة الأدب المقارَن يعودون بكل جديد إلى كل قديم، وقد خطر لي في البداية أن أحدثكم عن جدة كما عرفتها قبل ثلاثة عقود ويزيد، أو عن الطائف يوم كانت قرية للرمان والعنب وكأنها لم تكبر عما عَرَف عن رمانها الطيب الخلفاءُ أو عما تركت فيها السيدة زبيدة من سبل المياه إذ كانت من عاداتها الكريمة أن تبني في كل مكانٍ عيناً للعُطار، ثم قلت في نفسي ألم يسأم أولئك السادة السعوديون من أولئك الكتاب الذين لا يكفون عن سرد تذكاراتهم البعيدة أمامهم، على أن السفر عندي هوىً لا صناعة، وحبٌ لا تكلف، وقد خيل إلي أنني حقاً عرفت الطائف يوم عرفتها وفيها فندق صغير واحد للضيوف وللمسؤولين وللعابرين على السواء، أو أنني حقاً عرفت جدة يوم كانت مدينة صغيرة في ظل النخل وعلى ضفاف البحر. إن المعرفة لا تدرك أبداً وأن المدونين الذين سبقونا في رفقة القوافل كانوا أكثر دقة وأكثر جدية وأكثر انبهاراً بما رأوا، لقد ترك لنا الرحالة الصادقون منهم والملعونون والخبثاء والطيبون سجلات كان يمكن أن تذهب مع الذاكرة، وتركوا تفاصيل ورسوماً وصوراً كتابية لا تزال تسحرنا إلى اليوم وسوف تظل، وتركوا لكم ولأولادكم أن يقارنوا بما كانت على هذه الأرض الطيبة من مجدٍ وطيبٍ ونور، وبما أضيف إليها من بناءٍ وعمرانٍ وازدهارٍ ومذهلات التطور، كنا نسأل قبل ثلاثين عاماً أين تنتهي جدة، وأمس وجدتني أسأل بُعَيْدَ المطار أين تبدأ جدة؟ فمن الطائرة كان من الصعب علي أن أعرف إن كنا نهبط في أضواء جدة المترامية أو في أضواء مدينة أوروبية كبرى، لقد مضى عقدان تقريباً ولم آتِ فماذا بقي للمقارنة وماذا تَبقّى لأدب المقارنة؟ إن المرء يعتقد أن المدن لن تتغير في انتظار عودته فإذا بها مدن تلد مدناً، وإذا بها إرث يلد إرثاً، وإذا بالرقعة التي كانت في مدى العين لم تعد حتى في عدستنا في ذات الطائرة المحلّقةِ على أربعة آلاف متر، ولن أطيل أكثر فيما تعرفون أكثر مما أعرف، إنها مجرد سطور عاجلة تأكيداً لروعة ما أُنجز وإقرار مَنْ رأى بما رأى، لقد كنت ألهث خلال السنوات الماضية خلف نور الرياض التي عرفتها أيضاً يافعاً في المرحلة نفسها، والآن عرفـت أو أدركت أنه يجب أن أتخلى عن هذه الهواية، هواية المقارنات فهي مُتْعَبَةٌ في هذه المملكة التي نزلت فيها الرسالة العظيمة من السماء، وطلعت لها الكنوز من الأرض، وأعطتها الأرحام طليعة صُنّاعِ التاريخ وحراس الأمة.
مذ كنت في العاشرة من العمر وأنا أحلم بأن أصبح أديباً، ومذ كنت في التاسعة عشرة وأنا أعمل في الصحافة وفي كل عام دون استثناء أو إغفال أو خطأ وأنا أحلم بأنني في العام المقبل سوف أخـرج مـن ضغط العمل اليومي إلى متعة التأمل وإعادة القراءة وإعادة الكتابة والإبحار لدفات الكتب وأغلفتها المقواة بدل الاحتماء بورق الصحف المبلل الذي يُطْوَى ولا يحفظ، ويذهب إلى العبث لا إلى الرفوف، وإلى الذاكرة اليومية بدل الذاكرة الكبرى، على أنني منذ أربعين عاماً وأنا أُصْغِي إلى نداء الصحافة وإغراء الكتابة اليومية، وفي الصباح كل صباح أتفقد زاويتي قبل أن أقرأ أهم الأخبار، وكأنها هي الحدث وإذا ما عثرت فيها على خطأٍ مطبعـيٍ صغـير أو كلمة مغفلة شعرتُ بالكرب وطار الكثير من فرح النهار، إن العمود اليومي يتحول من زاوية إلى طقس من الطقوس، ففي إمكان الكتاب أن ينتظر وأن يتأنى لكن الصحيفة ذاهبة إلى الطبع باستمرار، فما أن تنتهي من زاوية حتى يتعين عليك البحث عن أخرى، وما أن تفرح بأنك عثرت على موضوع حتى تبدأ في البحث عن آخر، لم أجمع بين دفتي كتاب سوى تلك المقالات التي لها طابع أدبي، أما ألوف المقالات السياسية الأخرى فقد تركتها تذهب مع يومها، مع مشاعر النهار وغضب النهار، وانفعالات النهار بأنها كُتِبتْ بمداد تلك المشاعر، تلك هي متعة المقال اليومي أن تقول ما تريد أن تقول في اللحظة نفسها، وأن تخاطب وتحاور وتتواصل مع آلاف الناس، وتلك هي مأساة العمل اليومي، إن ما كُتِبَ، قد كتب ليومه ونهاره، كُتِبَ لكي يُقْرَأ مرة واحدة لا لكي يُحفَظَ كي يزول لا لكي يبقى. الصحافة مثل السياسة عمل متحول ولحظات عابرة، تتلازمان وتتناقضان وتتقاتلان وتلتقيان على نحو دائم، والمؤلف الأدبي ليس في حاجة إلى حَدَثٍ ولا إلى مبرر، إن في إمكانه أن يستعير من التاريخ أو أن يتأمل في المستقبل أن يلجأ إلى الرواية أو إلى الشعر أو إلى التراث لكن الكاتب الصحفي في حاجة إلى حدث حاجته إلى الأكسجين، الحدث يكتب عنه نصف المقال ويترك له الباقي، والحدث ينتقي له الموضوع ويقدمه إليه وفي النهاية يتأمل في نفسه وفي حياته ويكتشف أنه يعرف الأسماء والمواقع والتاريخ والأسباب والمتغيرات أكثر مما يعرف عن أداء أولاده في المدرسة، إننا نعطي للقراءات السياسية والثقافية المتعلقة بعملنا اليومي أكثر بكثير مما نعطي للأسرة أو للعطلة، ولا عطلة في الصحافة اليومية لا إجازات لأنك سوف تأخذ معك إلى هونولولو أو إلى سور الصين قلماً وورقة، فهما ليسا تحفة معمارية أو سياحية بل إنهما مجرد مقال آخرٍ أو زاوية أخرى، وإذا حدث ولم تكتب مشاهداتك شعرت كأنك ارتكبت خيانة ما، في حق ذاتك وفي حق الآخرين، فالناس تسافر من أجل الراحة أو الفرح أو بالانبهار، لكن الصحفي يسافر كي يفرح ويُبْهِرَ ويعيد الكتابة عن سور الصين وكأنه أول رجل وصل إلى هناك. من أجل أن يكتب كل يوم على الصحفي أن يقرأ كل يوم، وأن يقرأ كل شيء أما الأديب فله متعة الاختيار لا يقرأ إلا ما يحب، ولا يطالع إلا ما يريد، ولا يلهث وراء شيء، بل يترك الأفكار تأتي إليه، هل هناك أديب جيد؟ إذا لم يكن أيضاً صحفياً جيداً، هل نجيب محفوظ أديب أم صحفي؟ أم خليط ممتاز من الاثنين؟ إن الأديب الذي لا يعايش الناس كما يفعل الصحفي ولو بأسلوب آخر ووتيرة مختلفة هو بالغالب أديب لا يقرأ أديباً أو صحفياً على الكاتب أن يكون مرآة زمنه وعصره، وكبار كتّاب العالم اليوم وحملة نوبل صحفيون سابقون مثل جابرييل جارسيه ماركيز علمتهم الصحافة كيف يبحثون عن التفاصيل تحت الحصى، وكيف يحولون المشهد الذي يراه جميع الناس إلى لوحة خاصة، وأذكر هنا يوم عاد ماركيز إلى قريته بعد غيابٍ طويل فوقف أمام مدخلها قائلاً (لقد تحول كل شيء إلى نص) يحول الصحفي كل ما حوله إلى نص، إلـى خطاب خاص بينه وبين ذلك القارئ الذي يشعر بوجوده دائماً ولا يراه، يرافقه كظله ولذا لا يراه، وتزداد الكتابة اليومية صعوبة عندما يكون المنبر من نوع "الشرق الأوسط"، التي تُنْشَرُ في بلدان كثيرة في كل صباح ويقرأها في ساعة واحدة السعودي والمغربي والمصري والمغترب السوداني في كاليفورنيا أو نيويورك كيف تخاطب هذه الكوكبة من الطباع والأذواق والثقافات والاهتمامات بلغة واحدة ترضي الجميع وتثير اهتمامهم؟
إن الأديب يكتب لنفسه ويستريح، لكن الصحافي يحزن إن هو أغضبَ مشاعرَ قارئ ما ولو بغير عمد، ومطلوب من الصحافي أن يكتب كل يوم حدثاً وراء حدث، لكن ليس مسموحاً له أن يخطئ مرة واحدة، ثمة قارئ ذكي أو مثقف أو مطلع لا يرضى لكاتبه الخطأ ولا يرتضي له أحياناً موقفاً معاكساً لقناعاته أو للصورة التي رسمها القارئ في ذهنه، يوم أصدر ضياء الحق حكماً بالإعدام على المؤسس الباكستاني "ذو الفقار علي بوتو" كتبتُ في جملة من كتبَ مطالباً بالعفو، مستنكراً أن يُوضَعَ رجل من حجم بوتو في زنزانة بتهمة غير ثابتة، وفي النهاية أعدم الرجل فكتب مقالاً عنوانه (ضياء الحق ضياء ماذا)، أجمل رسالة تلقيتُها يومها كانت من هنا من جدة صاحبتها سيدة أو فتاة لا أدري وكانت من سطرٍ واحدٍ فقط "إننا نشكرك باسم ذوي القلوب الطيبة"، إن كتاباتنا تعكس نفوسنا ومشاعرنا وطباعنا ويأخذ عليَّ بعضُ أصدقائي أنني لم أكبر بعد وأنني ما أزال أنفعل، وأنني لم أدرك بعد خداع الحياة لكنني أرفض بهذا المعنى أن أكبر، وأرفض أن أتحول إلى آلة تكتب عن تشرد عشرة ملايين هندي في فيضان أوروسا من دون أن نتخيل معهم فظاعة المأساة، وحجم المأساة، ومشهد الأطفال يتمسكون بأثواب أمهاتهم هرباً من الغرق، إن الكتابة عن الحدث تحتاج إلى مشاعر أولاً ومن ثُمَّ إلى معرفة، فالأديب يكتب غالباً عن المتخيَّل، لكن الصحفي يكتب عن الحقيقة وهي أحياناً ظلم أو نبل أو جمال أو حقد أو بشاعة، يكتب الأديب مطولاً ويقرأ في هدوء وأناة، والصحفي يكتب بسرعة ويقرأ بسرعة، يستطرد لكنه لا يطيل، فالملل عدو العمل اليومي والرتابة قاتلة، وغالباً ما أُسأل ألا تخشى ألا تعثر يوماً على موضوع؟ طبعاً أخشى. لكن أخشى ما أخشاه هو أن أكرر اليوم كلاماً كتبته قبل عشر سنوات فمن أين لهذه الذاكرة التي تُحمِّلها كل هذه الأحمال أن تبقى يقظة إلى درجة الكمال، أليس كافياً ما حمَّلناها من أطنان الصحف والكتب والمجالس والمشاهدات والأسفار ومتاعب النهار؟
يعيش الأديب ويعمل وكأنه يملك كل الوقت، له الماضي يغرف منه، وله الحاضر يدونه، وله المستقبل يتأمل فيه، ويعيش الصحفي على جسر ما بين الماضي والمستقبل، يقفز مِنْ حدث إلى حدث ومن قضية إلى قضية ومن بلد إلى بلد، إنه مخلوق لا يملك شيئاً، يكتب للمغامرة اليومية، وعندما يتوقف عن الكتابة أسبوعاً يرى نفسه فجأة في ذاكرة النسيان وفوائت الأمس، إنه كاتب له جمهور كبير يفوق أحياناً بكثير جمهور الأدباء، لكنه جمهور متحرك سريع لا يشكلُّ الكاتب اليومي سوى جزء من يومه فإذا انتهى اليوم وصرنا في يوم آخر لا يمكن للقارئ أن ينتظر أو أن يتوقف، فليس الكاتب هو الذي ألزم نفسه بالحدث وجعلها جزءاً منه وحكم على ذاته بأن يكون سريع العطاء سريع النسيان. كان الفرنسي بولو يقول ما أن تنتهي الجملة التي أقولها حتى تكون قد ابتعدت عني، لا أحد يعرف أهمية الوقت مثل الكاتب اليومي لأنه يلهثُ خلفه باستمرار، وعندما يعثر عليه لا يعثر عليه، كل ما حوله مجرد نص لمقال آخر، لا يمكنه أن يصغي إلى الأخبار كما تصغي الناس إليها، ولا يشاهد مسرحية كما يشاهدها الناس، ولا يُطْرَبُ لأغنية كما يطرب لها الآخرون كل شيء مرتبط بالنص بهذه الدورة الدموية الملازمة والمتعبة أحياناً والممتعة أبداً، يظلم الصحافي فينا الأديب ويقول أيضاً الفرنسي شارل بيجيه لا شيء أكثر عبقاً من صحيفة هذا الصباح، ولا شيئاً أكثر جِدةً من إلياذة هوميروس. لكن من كان هوميروس؟ ألم يكن صحافياً يكتب الشعر! وما هي ألف ليلة وليلة سوى عمل صحفي رائع استند إلى شهرزاد بدل المصادر الموثوقة أو المصادر المطلعة، لقد كان للسيدة شهرزاد مخيلة جميلة وأسلوب صحفي شيق، فيه المقدمة وفيه الخبر وفيه انحباس الأنفاس وفيه التحليل وفيه سلوى السلطان شهريار حتى يؤاتيه النوم.
لقد كانت السيدة شهرزاد في غياب الطباعة هي صحيفته كل يوم تزوده بخبر، كل يوم بمقال أدبيٍ وشيء من الشعر وشيء من العلم وشيء من التاريخ، قالتِ المصادر المطلعة يا سيدي شهريار إن الوزير دندان قال بضوء المكان. لقد استعارت شهرزاد الأسماء المركبة كما نستعير اليوم المصادر الموثوقة، وكتبتْ أو روتْ التاريخ على طريقتها أيضاً من دون أن تحرج أحداً أو أن تثير غضب أحد، ولكن هل يستطيع الكاتب اليومي أن يفعل ذلك؟ هل يستطيع أن يُمضي الأيام وهو يكتب من دون أن يغضب أحداً أو أن يرضيَ أحداً؟ لأن إرضاء البعض إغضابٌ للبعض الآخر وخصوصاً في عالمنا هذا حيث الموضوعية عداء معلن وحيث الرأي الآخر عدو يجب أن نسأل منه على الدوام. غالباً ما يُطرَحُ على الكتّاب الصحفيين سؤال تقليدي هل أنت نادم على شيء مما كتبت؟ وغالباً ما يكون الجواب لا لست نادماً على شيء، ولو قُدّرَ لي أن أعيد كتابة كل شيء لما غيرتُ حرفاً أنا آسف أنا أقول إنني لن أفعل شيئاً سوى هذه المهنة الجميلة الممتعة المؤنسة، لكنني نادم على أشياء كثيرة نادم خصوصاً على أنني لم أنتظر إلى عمر الأربعين كي أبدأ الكتابة بعدما أكون قد أمضيت ثلاثين عاماً في القراءة وبين غبار الكتب أغترف من هذه البحار التي تركوها ومضوا رجلاً بعد رجل، جيلاً بعد جيل، لغة بعد لغة، حكمةً بعد حكمة، متعة بعد متعة، تفسدنا الصحافة إذ تقنعنا بأن الكتابة عمل سهل لكننا كلما قرأنا سطراً إضافياً أدركنا صعوبة هذا العمل ومدى فروضه وهَوْلَ امتحانه وجدية تجربته. إن الأديب الذي فينا يحاول كل يوم أن يستمهل الصحفي وأن يأخذ بيده، وأن يضرب عليها أحياناً، هو يصحح الكلمات، هو يغضب من الاستسهال والسرعة، هو يعلمنا الانتقاء، هو يعلمنا التواضع، هو الذي يمنعنا من الكتابة عن الذات إلا في انمحاء الذات، هو الذي يعلمنا أننا مهما عرفنا لم نعرف شيئاً مما يعرفه قراؤنا، هو الذي يعلمنا احترام مشاعر الآخرين، هو الذي يصل على ضمائرنا الاهتمام بشؤون المساكين والمسحوقين في أي مكان، والصحافي الذي ليس فيه أديب هو مجرد سلة من الكلمات التي تتساقط من ذاكرتنا _ بسرعة، ولا تستوقف ضمائرنا ولا تمنحنا أكثر مما تعطينا الكلمات المتقاطعة المرصوفة عمودياً وأفقياً. الكاتب شاهد على يومه وزمنه، يخطئ أحياناً ويصيب أحياناً، لكن يجب أن يكون صادقاً دائماً. تلك هي حياة الكاتب وتلك هي سيرته، لا شيء آخر لقد طُلِبَ مني أن أحل ضيفاً على برنامج حوار العمر وقلت لمقدمته أيُ عمر؟ ماذا يهم الناس كم مرة كنت رئيساً للتحرير؟ وكم مرة كنت مديراً أو محرراً؟ إنني أفضل على ذلك أن نتحدث عن رؤيتي كصحفيٍ رافق الأحداث والرجال والمراحل والمظالم عـن قربٍ أو عن بعد. أما أنا فمن أنا؟ مجرد راءٍ يقع يوماً في ثورة أيار الطلابية في فرنسا أو يلهث خلف ديغول إلى منفاه الايرلندي المؤقت أو يحضر قمة عربية تتشاجر بين الجدران وتبتسم للصورة التذكارية، أو مجرد كاتب عائد مع انطباعات الفقر من بومباي، مجرد رجل بين الرجال يحب ويستنكر ويُعجِبْ ويُعجَبُ ويبهر ويأمل لأولاده وأمته بأن يكونوا أكثر هناءً مما كان وأقل قلقاً وأكثر استقلالاً.
طالما أُسأل من المتواضعين ما هي الأخبار؟ إلى ماذا ستؤول الأمور؟ متى الحل؟ وأجيب دائماً أنني أقرأ ذلك في الصحف مع غيري، لم تُبْقِِ ثورة الاتصالات أخباراً نخبّرها لأحد، وفي الماضي اشتهر عن أحد السياسيين في لبنان أنه كان يمر على الصحف في كل مساء ويطلع فيها على الأنباء التي ستنشر غداً ثم يذهب إلى حيث هو مدعو ويبدأ بالتبجح. غداً تعرفون، غداً تسمعون، غداً تقرؤون، المؤسف أن (السي إن إن) إنما عكرت عليه صفو الخاطر، أصبحت الأخبار تسبقنا إلى كل مكان، وإذا بقي للكاتب أن يعرف كيف يقرأها وأن يعرف كيف يظل قابعاً في التاريخ لكي يطل من نافذته على الحاضر العابر والمستقبل الذي يبدو خلف اللحظة وإنما هو خلف الدهر، يتطلع الصحافي إلى عالم الحقيقة ويتطلع الروائي إلى عوالم خيالية، وكلاهما يبحث عن المثير أو المؤنس في الكلمة أو في الجملة، إن الروائي يتوقع منا أن نقرأ كل الفصول قبل أن يفاجئنا بالخاتمة، لكن في رواية بعنوان الصفحة الأولى عن الصحافة النيويوركية أوائل القرن يقرأ مدير التحرير نبأ الجريمة الذي كتبه المحرر القضائي وما أن ينتهي من الفقرة الأولى حتى يسأل المحرر بغضب ولكن أين اسم القاتل؟ فيرد المحرر أنه في الفقرة الثانية، فيصرخ المدير من جديد ومن هو ذلك الغبي الذي يقرأ الفقرة الثانية؟
لا أحب أن أطيل عليكم أكثر مما فعلت، ولكن ونحن في مجلس خاص لم يتهمنا بالممالأة أحب أن أصارحكم بأنني مدين بالكثير في حياتي العملية لهذا البلد. وما الدعوة إلى الاثنينية وتشريفكم سوى دين آخر من ديونٍ كثيرة أعزكم الله وأعز هذه المملكة التي تفاخر بعروبتها ويُفَاخَرُ بها بأنها أرض الرسالة العظيمة. وشكراً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :444  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 106 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.