شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ عبد الله ثابت))
قبل عقدٍ من الزمان ذهبت إلى جامعة الملك سعود بالرياض، قاصداً زيارة بعض ممن كبروا من أبناء جيلي على فكرة النيل منهم، والتنكّيل بهم، من قبل الصحويين الإسلاميين، بأقذع التهم والافتراءات على المنابر والمحاضرات وأشرطة الكاسيت، كما فعلوا بغيرهم على طول البلاد وعرضها. استقبلني معجب الزهراني في مكتبه بمنتهى اللّطف وخفّة الروح. أخذ كتابي، وتحدثنا قليلاً، ثم استأذنته ومضيت. وتجري الصدفة أن ألتقيه بعدها بشهرين فقط، في بيت صديقٍ مشترك، ومن ذلك اللقاء المليء بالأسئلة والحوار، نشأت صداقة عميقة، والتي كان وما زال لها في نفسي أجمل الأثر، والذي وجدته وأجده دوماً، عبر هذا القرب الممتد بهذه السنين والرحلات والمدن والطرقات والبوح والكتابة، أن يقظة الدهشة يوماً إثر يوم، التي تنطوي عليها نفسٌ كنفس أبي توفيق وذهنه، كفيلة بفلْح الكثير من هذا التخبّط والعتمة، وإنقاذها من قلّة الحياة. من قرأ مقارباته وتعرياته الناقدة لخطابات التوحّش بتنوّعها والتقائها، والتي أُعملت في سجل سويّة الإنسان بعموم، والمرأة بخصوص، وكذلك انهماكاته في جماليات الكتابة، والتعقَّل والأنسنة، من قرأ غرامه بابن رشد وألبير كامو، من قرأ اشتغاله على التقاطاته الخاصة في الشعر والرواية، ومن قرأ روايته "رقص" سيعرف ولو قليلاً؛ أيّ قلبٍ ونفسٍ حافلة ومشويّة بالأسى والحلم، بالمكابدة والكدح، مرارة للفهم والإصرار المضني على الأمل!
ما أتحدث عنه الليلة، هو كيف يستحيل إنسانٌ ما، إلى خضابٍ متعددٍ ومنسجمٍ من أمكنة، من قرية في جنوب الجزيرة العربية (الغرباء)، لباريس واضطراب سؤالها المدنيّ عن جوهر اليوم ومعناه، ثم غرقه في ابن رشد والأندلس، ثم إلى عالمٍ من قلق الرياض وإسمنته والحياة المختبئة بينهما، هربه لأصدقاء لا تبلى قلوبهم في البحرين واليمن، كل هذا يفضي إلى إشارةٍ جماليةٍ وعقليةٍ في آن، أختار أن يكون معلمها. رصيدها الدائم هذا المجموع الثري المتنوّع مما حصل عليه في الوقت والتجارب والأمكنة، وكل هذا نابعٌ من فكرة الحياة المستحقة والثمينة، التي صدق تقلباتها ولا نهايتها فأقامها!لم يصدق النهائية، ولا طغيان السائد! إنه شخصٌ يريد الحياة، يريد الحلم والأمل، لهذا فهو يحب ويُحب، ويفهم عناءك، ويسألك.
نعم، قليلون ممن تفيض الكتابة بحلاوتها في النفس، وتمضي في قول شيءٍ ما عنهم. كأن الكلمات تعرف روحها وهيئتها السلسلة حين يتعلق الأمر بهم. مثلاً، تأخذ الكتابة في نفسي عن معجب الزهراني هذه النبرة العذبة لأسباب كثيرة، تتصل جميعها بفلك تركيبته العالية والخاصة، بدءاً من أصالته الشخصية، وجذور صفائه الجنوبي الجبلي، شجراً ومطراً، مصقولاً بالفن والعلم، كما قدرته الكتابة المستقلّة؛ نقداً وفكرةً ونصًّا، وانتهاءً بالأثر الذي يتركه، فكلّما اقتربت منه، حكّ لهفةً معرفيةً فيك، وقدح شيئاً عميقاً في قلبك وذهنك كاختبارٍ جماليٍ متجدد.
ولأستعرض مكاناً واحداً من هذه الخلطة لأثره العميق كما الأمكنة الأخرى، سأتكلم على "الأندلس".
(وقد حسبناها تحتفل بذاكرة أندلسية مشتركة رأينا بعض مخزوناتها الثمينة تطل من هذه العربات المزركشة، التي تجرها أحصنة أنيقة وثيران قوية فشاركناها الفرح حتى منتصف الليل، والتقطنا عشرات الصور، أعجبني منها واحدة بين عريسين أنيقين، وأخرى بصحبة راعٍ أعارني عصاه وابتسم لزوجتي، وثالثة مع فلاحة شابة فاحت منها رائحة الأرض).
يقول معجب:
"يعشق الناس لغة واحدة
ولذا قلت.. ومنذ البداية
سوف أغني".
 
يقول وهو تحت أحد قناديل إشبيلية:
"ها هي إشبيلية تشعل الموسيقى
لتغني وتراقص ألوان الربيع
وحين مرت المواكب
وغاب القمر
ظل الغريب حزيناً يتساءل فوق الجسر
كيف ضاعت هبة النهر وربة الشعر؟!"
 
يقول وهو يتجول في إشبيلية بقلبه وذهنه:
"في المقهى المطل على الوادي الكبير
صحا الجو لنا
وها هي السماء تنفتح على وجه القمر
وعلى نجوم كثيرة زاهية
تعجبت كيف لم يرها الأسلاف
إلا وهم خارجون من الأندلس! "
 
"في مطعم الفلامنكو الأنيق
ذكرتني الأغاني والراقصون
بحكمة نسيت متى وأين وممن سمعتها
ـ لو استعمل بعض البشر رؤوسهم كما يستعمل هؤلاء الغجر أرجلهم لكانوا أحسن حالاً مما هم فيه!"
 
ثم يقول وهو يقصد مكاناً آخر:
"في الطريق إلى قرطبة، كان لا بد من احترام الطقوس، فالزيارة فريضة، ولا بد من أدائها وفق التعاليم، وفاء لحلم قديم، لا لتاريخ منعني منها خمسة قرون!"
(تزهو قرطبة بثلاثة تماثيل لم نر مثلها في أي مدينة عربية أو إسلامية، ولذا كان لا بد من الوقوف عليها واحداً واحداً).
أ ـ
يا ابن رشد الحفيد..
سلام عليك
قيل لي لم تحج..
فقلت أحج إليك
منذ عمر ونصف وأنا أبحث عنك
ولا يوصلني الدرب إلى قرطبة
وكم كان أعمى بيونس أيرس
مرحا وهو يسخر مني
حين رآني أبحث عنك وعنه و عني
بعيدا عن المكتبة!
 
ب ـ
حيرتني يا ابن حزم
تؤلف طوق الحمامة
لتدشن فكر المحبة في الأندلس
ثم تحتفي بأنساب قبيلة مشرقية
تؤاخذك على التعلق بنعم
ولا تسلم لأحفادك
بشيء من منافع القراءة الظاهرية!
 
ج ـ
ها هو موسى بن ميمون
يقف في منتصف المسافة بين صاحبيّ
ليذكر زوار قرطبة
بأن الشريعة فصل والحكمة وصل.
ومرة أخرى وهو يتجوّل؛
سر فوق الجسر الروماني
تمهل وتأمل..
ولن تسمي الغزاة الذين مروا من هنا برابرة
لأن قرطبة التي ترى
فتنة لم ينج أحد منها!
 
هـ ــ
ميسكيتا
تجدد ماء التاريخ
حتى اجتمع الجامع والكاتدرائية
في جسد واحد
فكيف لا يصلي بنا عاشق كابن عربي
باتجاه آيا صوفيا؟!
 
 
(في الطريق إلى غرناطة كانت الحقول والقرى تتبارى لإيقاظ البصر وإنعاش البصيرة، ومعها الحق. فطرقات الأندلس كلها متاهات إن لم يهتد المسافر بأضواء الحمراء).
مناديل غرناطة:
1 ـ غرناطة التي أرى
ليست مدينة (ومعك الحق يا هوجو...)
هذه رمانة مشرقية تباهى بثمارها
ولا تخفى عن الزوار شيئاً من مفاتنها
فحين تراها تغسل جذورها في ماء الواديين
وفروعها في أفلاج تتدفق من ثلج الجبل
ثم وكأنه يستجلب قريته هناك في الأندلس، ويقول:
"من أعلى حصن في القصبة
رأيت صقراً يحلق فوق المكان
وكم بدا طائر النار حراً
لا تغريه خضرة السهل الفسيح
بل ذلك البياض الذي يشع رأس الجبل
معلناً نهاية قصد وبداية قصيدة!".
 
أخيراً، يختم معجب بمحاورة أساه، على ابن رشد والأندلس اللذين أضعناهما:
" ـ هاك المنديل
ـ ليست هذه أطلال فلماذا تبكي؟
ـ أعرف هذا.. ولذا لا أفعلها عمداً
ـ أوكانت لك حبيبة أندلسية؟!.
ـ لا أذكر ..
ـ رجاء قف.. ما جئت لأحزن في غرناطة.
ـ سأحضر المزيد من المناديل.
ـ ... وسأتدبر أمر القناديل".
 
معجب الزهراني: حتى وإن جفّت وديان قريته، إلا أنها لم تنقص قطرة واحدة من حلم الوديان التي نفسه فيها، وحتى وإن هجمت الشقوق على جدران البيت الذي ولد فيه، إلا أن حلم البيت الذي في أعماق روحه ما زال على صورته الأولى، وما زال يسمع تهليل أمه وصلواتها بين جنباته كل فجر، ويسمع أغنياتها التي تتشابك مع خيوط الشمس من كل نافذة، وحين يسمع صارخ العرضة وإيقاعاتها تتطاير سنواته الستون من جبهته كالعصافير في الجوّ، ويرفع كلتا يديه عالياً ويشرع في الرقص. هذا هو معجب الزهراني، في حياته وحنينه القديم، وفي قسماته الجبلية، وفي كلماته المليئة بالمطر والمطارات، وفي روايته الآسرة "رقص"!
روايته التي تتداخل فيها حيواتٌ وأزمنة وأماكن، لكن صلبها يتناول في حوارٍ ملونٍ بالغيم والأيام، بين رجلٍ يحكي عن حياته الأولى ما بين القرية، وشيءٍ من قصة اليسار وظلم السجن وظلاماته، وبين الراوي، ذاك الشاب الشغوف بحكايا الحياة والمعرفة والفن!
يقول معجب في روايته: "ولماذا تسأل؟! حينما بشرت أهلك، قفز أبوك إلى بندقيته المعلقة في المجلس، وبدأ يهلل ويكبر، ويطلق الرصاص لتستجيب بنادق الآخرين. زغردت زوجتك من النافذة، فانفرطت الزغاريد من كل البيوت المجاورة، وأمك التي كانت تبدو ثقيلة كصخرة نهضت بحركة واحدة من المجلس، وخلعت حوكتها البيضاء، وعلقتها فوق السطح فانتشر اللون الأبيض فوق بيوت الأعمام والجيران قبل عودتي للسيارة. الخبر انتقل كالبرق. حسبت أنك خدعتني وأنهم كانوا ينتظرونك... رأيت صغاراً يتراكضون في كل اتجاه وهم يتصايحون "أبو سامي خرج ".. "أبو سامي جاء ".. "أبو سامي وصل! ". شعرت لحظتها أن هؤلاء هم الناس حقاً، وعليّ أن أنسى تعبي ومخاوفي كي أشاركهم الفرح بعد أن جلبت لهم أحزاناً لا تحصى. كأن القرية كلها كانت مسجونة، وما إن تهاوت الجدران من حولها حتى استعادت رصيد أفراحها كله وراحت تنثره في الهواء احتفالاً بالنصر!"
سألته مرّةً وأنا في بيته؛ كيف يمكنك احتمال هذه المواجهات اليومية، مع ما تسمّيه بالتوحّش، بتفاصيله الفجّة، وأنت بهذه الخزينة والذهن والأمكنة والحلم، أو على الأقل، وقد جُلت بهجة الفنون والحياة في حارسة المدنيّة: باريس؟ فأشار بسخريةٍ وهَمٍّ إلى داخل البيت، إلى ما تبقى من رقّة المطر الخالي من الفساد، لصفو العزلة التي يذهب إليها حتى بنى لها بيتاً في قريته. قريته التي اسمها "الغرباء". ويا للمفارقة واللمحة الفذّة في اسم القرية، وحياة ابنها!
عريف الحفل: ماذا فعلتم بنا هذه الليلة أيها المتحدثون وأيتها السيدة المتحدثة؟ لقد شوقتمونا أكثر وأكثر إلى ضيفنا الذي نحتفي به هذه الليلة.
دكتور معجب، لقد شوقونا إليك أكثر وأكثر، فنستمع إلى كلمتك، تفضل وكلنا آذان صاغية.
 
طباعة
 القراءات :284  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 187 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية الكاملة وأعمال نثرية

[للشاعر والأديب الكبير أحمد بن إبراهيم الغزاوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج